خلال فترة التحشيد العسكريّ الأخير الذي قامت به تركيا للفصائل السورية المحسوبة عليها في الشمال السوري، وكذلك لوحدات من الجيش التركي على الحدود، شهدنا تطوّرات سياسية مختلفة عن المرّات الكثيرة السابقة التي تأهبت فيها أنقرة لاجتياح برّي للمنطقة الحدودية السورية.
تمثّل ذلك، بداية، على المستوى التركي، بتصريحات للرئيس رجب طيب اردوغان، وعدد من مسؤولي الحكومة والمعارضة، تمهّد لإمكانية حصول تقارب مع النظام السوري، بما في ذلك إمكان حصول لقاء مع رئيسه بشار الأسد، وتمثّل، على المستوى الروسيّ، برعاية اتفاق مبدئي يسمح لأنقرة بإدخال جيشها إلى مناطق يسيطر عليها حزب العمال الكردستاني (تحت مسمّياته العديدة) مقابل تسليم تلك المناطق للنظام.
شهد الموقف الأمريكي من تركيا نوعا من التقارب بعد العملية الإرهابية في إسطنبول التي اتهم بها «الكردستاني»، وبدأ مع لقاء مغلق بين الرئيس جو بايدن، بنظيره التركي اردوغان، ضمن كواليس قمة العشرين التي عقدت منتصف الشهر الماضي في اندونيسيا، وقال «البيت الأبيض»، حينها، إن بايدن عزّى اردوغان وقال إنه «يقف إلى جانب حليفنا في الناتو».
بعد إعلان أنقرة عزمها تنفيذ العملية العسكرية المذكورة ظهرت تصريحات أمريكية «خفيفة» تناشد تركيا التراجع عن الاجتياح، وتناظر ذلك مع سحب دبلوماسيين أمريكيين من مناطق الإدارة الذاتية، وكذلك إعلان وزارة الدفاع الأمريكية، الثلاثاء الماضي، تقليص عدد دوريات جنودها مع عناصر الكردستاني في الشمال، وهي إشارات فهمتها أنقرة إيجابيا، على أنها موافقة ضمنية، أو غض نظر، أو تقبّل للغضب التركيّ.
ظهرت بعد ذلك مواقف أوروبية، من ألمانيا وفرنسا، تدعو أنقرة لوقف الهجوم، كما ظهرت إشارات عديدة إلى أن مواقف الفرقاء «عادت إلى قواعدها»، التي شهدناها تتكرر على مدى السنوات الماضية.
قام «الكردستاني»، كما هو معتاد، بانتقاد الموقف الأمريكي غير الحازم، وإيقاف التعاون مع «التحالف الدولي»، وطالب، مجددا، النظام السوري بحماية مناطقها، وناشد موسكو، كما فعل مرارا، التوسط.
بعد ذلك توجهت تعزيزات عسكرية روسية لمناطق في محافظة حلب، وكذلك محيط مدينة «عين العرب» (كوباني)، على الحدود، وسيّرت دورية في المنطقة برفقة مروحية، وخلال 48 ساعة، حسب «المرصد السوري»، دخلت 240 شاحنة متتالية تابعة لـ«التحالف الدولي»، الذي تقوده أمريكا، إلى شمال وشرق سوريا قادمة من معبر الوليد الحدودي، محملة بمدافع وأسلحة رشاشة ثقيلة ومعدات عسكرية وذخائر، وصهاريج وقود، وعبّرت واشنطن، عبر وزير دفاعها لويد أوستن، عن «معارضتها القوية» لأي عملية عسكرية تركية جديدة في سوريا.
تشير تصريحات وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، التي طالب فيها أمريكا بإبداء التفهم إزاء عملية عسكرية جديدة «قد تطلقها بلاده في سوريا»، إلى عدم إمكان حصول العملية التركية من دون موافقة أمريكية صريحة، أما تصريحات وزير الدفاع الأمريكي فإشارة ممكنة إلى أن «البنتاغون» يتبنى موقفا أكثر تشددا في الموضوع السوري من الأجهزة الدبلوماسية، التي تراهن على التعاون التركي في الأولوية الكبرى حاليا، وهي أوكرانيا.
تبدو المسألة الأوكرانية حاضرة في التبدّلات الجزئية التي جرت مؤخرا، فموسكو، التي كانت تفضّل سيطرة الأمريكيين، وحلفائهم الأكراد، على مناطق «الإدارة الذاتية»، على توسّع نفوذ تركيا العسكري في سوريا، اقتربت من فكرة توجيه ضربة للأمريكيين عبر أنقرة، بطريقة يستفيد منها النظام السوريّ أيضا، أما «البنتاغون»، فوجد في هذه الفائدة الممكنة لروسيا والنظام، أمرا يجب مواجهته، وهو ما حصل، على ما تبيّن الأحداث.
القدس العربي