بيروت- يترقب اللبنانيون عام 2023 بكثير من القلق والريبة، ويحملهم إلى ذروة جديدة من مسار انهيار دراماتيكي لم يهدأ منذ خريف 2019، وهم مشغولون بما سيؤول إليه وضعهم المعيشي، بعدما بلغ انهيار الليرة نهاية 2022 مستوى صادما، بتجاوز سعر صرف الدولار الواحد 46 ألفا.
ويتساءل مراقبون عن مصير المفاوضات مع صندوق النقد الدولي للحصول على برنامج مساعدات تتراوح قيمته بين 3 و4 مليارات دولار، في وقت لم ينفذ شروطه كاملة، وهي مسألة تشتد تعقيدا مع الشغور الرئاسي بعد انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال عون، وعدم قدرة البرلمان على التشريع والحدود الضيقة لصلاحيات حكومة تصريف الأعمال، إضافة إلى استفحال الخلافات السياسية وصراعات أصحاب المصالح حول كيفية الخروج من الأزمة.
وبموازاة ذلك، ستشهد سنة 2023 انتهاء ولاية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في مايو/ أيار، ليطوي عهدا استمر بالتمديد المتواصل 33 عاما، في حين يُلاحق سلامة بدعاوى قضائية داخليا وخارجيا، يرى مراقبون أن انتهاء ولايته وعدم التوافق السياسي على اسم يخلفه سيؤججان الصراعات والأزمات.
واستشرافا لمصير أبرز القضايا الاقتصادية والمالية للعام 2023، حاورت الجزيرة نت كلا من: وزير الاقتصاد السابق والمصرفي رائد خوري، والمحللان والخبيران الاقتصاديان علي نور الدين ومنير يونس.
ما أبرز الاستحقاقات الاقتصادية والمالية التي ستواجه لبنان عام 2023؟
يعتقد الوزير خوري أنه خلال 2023 ستستكمل التحديات الاقتصادية والمالية نفسها منذ خريف 2019، وستشتد سوءا بغياب رؤية الدولة واستنزاف ما بقي من احتياطي المركزي الذي انخفض على مدار 3 سنوات من 33 مليار دولار لأقل من 10 مليارات في الوقت الراهن.
وهنا، يفند نورالدين تحديات العام باستحقاقات عدة أبرزها:
كيفية استكمال لبنان شروط التفاهم على مستوى الموظفين مع صندوق النقد الدولي، قبل الانتقال للتفاهم النهائي، وإذا لم ينفذ لبنان كامل الشروط (فهذا) يعني أن الاتفاق لن ينجز هذا العام.
استحقاق الخروج من الشغور الرئاسي، لأن حكومة تصريف الأعمال غير قادرة على اتخاذ قرارات مصيرية من قبيل إعادة هيكلة الدين العام، والبرلمان لا يستطيع التشريع لإنجاز القوانين المطلوبة من صندوق النقد.
الاستحقاق الأهم: انتهاء ولاية سلامة، وفي ظل الفراغ الرئاسي سيصعب على الحكومة تعيين حاكم جديد للمركزي، مقابل رفض قوى سياسة تولي بالوكالة النائب الأول بالمركزي وسيم منصوري صلاحيات الحاكمية، لأنه موقع مخصص لطائفة للموارنة، ولأن الشغور بالحاكمية غير ممكن وله تداعيات نقدية خطيرة، قد تولد اشتباكا سياسيا حول كيفية الاتفاق على بديل عن سلامة.
استحقاق إعادة هيكلة القطاع المصرفي عبر إنجاز قانونين برلمانيين: القانون الطارئ لإعادة هيكلة القطاع المصرفي وقانون إعادة الانتظام للقطاع المالي الذي يجب أن يحدد كيفية تصنيف الودائع المحتجزة والتعامل معها.
من جانبه، يجد يونس أن أخطر ما في عام 2023 هو حالة التضخم التي ارتفعت تراكميا بنسبة 1400%، والمرشحة بالتصاعد بعد فرض رسوم ضرائب ضخمة بموازنة 2022، واعتماد سعر جديد للدولار الجمركي بـ 15 ألفا بعدما كان لعقود 1507 ليرات.
وقال الخبير الاقتصادي إن ميزانيات الأسر أصبحت مدولرة، بينما رواتبهم بالليرة تتآكل قيمتها مما يعني تعميقا للفقر الذي يطال أكثر 85% من السكان، موضحا أن أصحاب الرواتب بالدولار من موظفي القطاع الخاص سيواجهون معاناة كبيرة إذا استمر العمل بفرض ضرائب ضخمة على رواتبهم تصل لحدود 25%.
كيف سيكون مستقبل الليرة عام 2023؟
يعتبر خوري أن المركزي لا يملك عصا سحرية لحل أزمة الليرة، وأن عدم قيام الدولة بالإصلاحات الجذرية يعني استمرار انهيارها بلا حدٍ أو سقف.
بينما يقول الخبير الاقتصادي علي نور الدين إن لا شيء يؤشر إلى أن الليرة ستسلك مسارا مختلفا، محملا المركزي المسؤولية نتيجة ما يسميه “التعاميم الاعتباطية والتدخل الخاطئ بالسوق السوداء وفشل منصة صيرفة في ضبط السوق النقدي. وأضاف أن المسار التصحيحي لليرة يبدأ بإعادة انتظام القطاع المالي وإعادة هيكلة الدين العام”.
ويربط يونس استمرار انهيار الليرة بزيادة الاستيراد الذي أدى لزيادة الطلب على الدولار، وتاليا: زيادة الطلب على منصة صيرفة توفر الدولارات من مصدرين: احتياطي المركزي أو السوق السوداء.
وما دام ميزان المدفوعات بقي عاجزا خلال 2023، فستواصل الليرة انهيارها برأي يونس، مذكرا أن الليرة خسرت من قيمتها نحو 96%.
ما التحديات المعيشية التي تواجه السكان عام 2023؟
يؤكد يونس أن انهيار الليرة وارتفاع نسبة التضخم ستنسحب على ارتفاع هائل بأسعار السلع الأساسية والخدمات.
ويردف نور الدين بأن ذلك سيؤدي تلقائيا إلى تآكل قيمة الرواتب بغياب عملية تصحيح شاملة للرواتب خارج سياسة المساعدات المؤقتة، مما يعني تراجعا حادا بالقدرة الشرائية، خصوصا لدى موظفي القطاع العام.
ويقول: الوضع سيضاعف أزمة الشلل بالإدارات العامة، ومع الاعتكاف القضائي يستمر تعطيل إنجاز المعاملات التجارية، أي أن البيئة الاستثمارية اللبنانية في جمود شبه تام.
ما التحديات التي تواجه المصارف عام 2023؟
يقول خوري إن المصارف كانت رافعة الاقتصاد تاريخيا بلبنان، واليوم تشكو من عملية ضرب ممنهج لوجودها ودورها. ويرفض إعادة هيكلة المصارف بالصيغة المطروحة راهنا “لأنها ستؤدي لشطب الودائع، بينما استردادها يجب أن يكون عن طريق الدولة”.
لكن نور الدين يجد أن تحدي المصارف هو أزمة الخسائر المتراكمة بالقطاع التي قدرتها الحكومة بنحو 73 مليار دولار، وهي الفارق لما يترتب على القطاع للمودعين بالعملة الصعبة وما يملكه من موجودات سائلة وقابلة للتسييل، وهذه الفجوة هي صلب أزمته. ويقول إن التعامل معها يكون بإعادة هيكلة شاملة للقطاع، عبر تصفير الخسائر، وتوزيع عادل لها، ووضع أوليات معينة لكيفية التعامل مع الودائع، وتحديد مصير الأموال التي هربت للخارج بعد خريف 2019. وهذا يفترض “بدء تحميل الفئات الأكثر جدارة للخسائر من أصحاب الإثراء غير المشروع والمتهربين ضريبيا”.
ويتوقع يونس أن تشهد 2023 مزيدا من عمليات اقتحام للمصارف، وأن تتفاقم الدعاوى القضائية بحق حاكم المركزي والمصارف. ويفيد أنه باعتماد سعر صرف رسمي جديد عام 2023، وهو 15 ألفا للدولار، ستواجه المصارف أزمة كبيرة في رساميلها التي كانت تقدر وفق سعر1507 ليرات.
هل من تطورات قد تشهدها أموال المودعين عام 2023؟
مع عجز الكتل البرلمانية عن التوافق حول إقرار مشروع قانون “الكابيتال كونترول” يستبعد يونس إقراره و”هو لا يترافق مع خطة واضحة وعادلة لتحديد الخسائر والمسؤوليات”.
ويقول خوري إن قيمة إجمالي الودائع على الورق تبلغ نحو 100 مليار دولار، ولا يوجد منها سوى 10 مليارات، والمطروح -وفقه- يُحمل الخسارة للمودعين، والمصارف التي تملك رأس مال بقيمة نحو 20 مليارا، والحل برأيه “أن تتحمل الدولة المسؤولية عبر الاستثمار بأصولها وأملاكها”.
ويضيف: ليس المطلوب بيع كل أصول الدولة بل استثمارها مع القطاع الخاص حتى ترتفع قيمتها وهناك مثلا 10% من مساحة أراضي لبنان ملك للدولة ومعظمها غير مشغلة. ويرفض وزير الاقتصاد السابق ما يطلبه صندوق النقد لجهة شطب الودائع، ويقول إن الفريق اللبناني المفاوض لا يعمل على تقديم رؤية بديلة تحفظ حقوق الجميع وعلى رأسهم المودعون، معتبرا أن الاستثمار بأصول الدولة سيكون حلا لرد الودائع ونهوض القطاع المصرفي.
ومن جانبه، يقول نور الدين إن كل تطور إيجابي بقضية المودعين لن يتحقق بلا إقرار قانون إعادة هيكلة المصارف، مستبعدا تعامل السلطات مع الخسائر عام 2023 “لأن جزءا كبيرا من القوى السياسية بالبرلمان متآلفة لحد كبير مع مصالح المصرفيين”.
هل ستتمكن السلطات من الاتفاق مع صندوق النقد عام 2023؟
يقول خوري “لا أمل بتوقيع الاتفاق قريبا، معتبرا أن الصندوق يذهب للحلول الأسهل كشطب الودائع”. ومع ذلك، يرى أن اتفاق لبنان مع الصندوق ضروري للخروج من أزمته و”لكن بما يضمن حقوق اللبنانيين ومصالحهم”.
ويرى نور الدين صعوبة في توقيع الاتفاق نتيجة الشغور الرئاسي وما يتبعه من شلل بالسلطتين التشريعية والتنفيذية، ويذكر بأن للصندوق شروطا أبرزها:
عمل الحكومة على إستراتيجية لإعادة هيكلة القطاع المصرفي، وهي وضعت ضمن خطتها التعافي لكنها تشهد تعديلات لم تنجز بالصيغة النهائية منها، ومصادقة البرلمان عليه بعد دراسته بالمركزي.
إجراء 14 تدقيقا لميزانيات أكبر 14 مصرفا، وهو لم ينجز بحجة عدم وجود شركات تدقيق للاتفاق معها ماليا.
تعديل لقانون سرية المصارف هذا أنجز تدقيق ميزانيات مصرف لبنان.
وضع إستراتيجية لإعادة هيكلة الدين العام لم يتم العمل عليه.
إنجاز ميزانية 2022.
ويعتقد يونس ألا أحد بالسلطة لديه رغبة فعلية بتنفيذ كامل الشروط، ويتوقع أن يشهد العام المقبل تلويحا بفرض عقوبات على مسؤولين إذا واصلوا عرقلة الاتفاق.
هل سيشهد لبنان تحسنا بالتغذية الكهربائية عام 2023؟
وشهد لبنان في نوفبر/تشرين الثاني رفعا للتعرفة الكهربائية بنحو 10 أضعاف مقابل وعود بتوفير التغذية لنحو 8 ساعات، لكن انقطاعها يستمر لأكثر من 20 ساعة يوميا، ويعد توفير الطاقة من أكبر أزمات السكان.
ويقول نورالدين إن زيادة التعرفة قد لا تساهم بتوفير إيرادات كبيرة لزيادة التغذية وتمويل مؤسسة كهرباء لبنان التي تحتاج لرأس مال تشغيلي. ويتساءل إن كان المركزي قادرا على الاستمرار ببيع المؤسسة دولارات تحتاج لاعتمادات من الدولة.
ورغم توقيع لبنان اتفاقيتين لتزويده بالطاقة الكهربائية من الأردن والغاز المصري عبر سوريا، بقرض تمويلي من البنك الدولي، ما زال مصيرهما معلقا، لأسباب سياسية تتعلق بطلب إعفاءات رسمية من عقوبات قانون “قيصر” من جهة، ولأن لبنان لم ينفذ شروط البنك لجهة التدقيق بمؤسسة الكهرباء وإصلاح الهدر الفني من جهة أخرى، وفق يونس.
ويعتقد هذا الخبير الاقتصادي أن توفير الكهرباء مرهون بتجديد اتفاقية استيراد الفيول العراقي، مستبعدا وصول التغذية لنحو 8 ساعات بلا إصلاحات جذرية بمؤسسة الكهرباء يطلبها أيضا صندوق النقد.
المصدر : الجزيرة