خلال خطابه التقليدي في مناسبة عيد الميلاد حرص ملك هولندا فيليم ـ ألكسندر على الترحيب باعتذار حكومة بلاده عن عقود العبودية خلال المرحلة الاستعمارية، واعتبر أنها خطوة على «طريق طويل» وتضع أساساً «لمستقبلنا المشترك من خلال مواجهتنا لماضينا المشترك بصدق وباعترافنا بجريمة العبودية التي هي جريمة ضد الإنسانية».
وكان رئيس الوزراء الهولندي مارك روته قد قدم اعتذار بلاده عن سياسة استعباد واسعة النطاق اعتمدتها هولندا على مدار أكثر من 200 سنة وراح ضحيتها قرابة 600 ألف شخص من مستعمرات مثل سورينام وكوراساو الكاريبية وأندونيسيا وجنوب أفريقيا، جرى ترحيلهم قسراً إلى أمريكا الجنوبية والكاريبي وإجبارهم على العمل القسري في مزارع البنّ والسكّر والتبغ. وكانت عمليات الاستعباد وراء ما يُسمى بـ«القرن الذهبي» لازدهار الاقتصاد الهولندي والتجارة البحرية خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، إذ شكّل الاستعباد نحو 40٪ من قيمة الناتج الهولندي.
ومن المعروف أن هولندا كانت ثالث أكبر قوة استعمارية في العالم، وحين تخلت رسمياً عن العبودية سنة 1863 عُدّت بين آخر الدول الأوروبية في هذا الميدان. وفي العصور الحديثة قاومت الحكومات الهولندية المتعاقبة مختلف الضغوطات لتقديم اعتذار عن سياسات بات القانون الدولي يعتبرها جرائم حرب موصوفة. ولم تؤخذ فكرة الاعتذار على محمل جدي وعملي إلا بعد صعود حركات «حياة السود مهمة» في سنة 2020 خصوصاً وبعد مقتل المواطن الأمريكي الأسود جورج فلويد، حين شكلت الحكومة الهولندية لجنة استشارية خلصت إلى أن المسؤولية الهولندية عن الاستعباد ترقى إلى مصاف جريمة حرب وتستوجب الاعتذار والتعويضات المالية.
واعتذار الحكومة مؤخراً تطور إيجابي بالطبع، خاصة وأن رئيس الوزراء اعتبر الاستعباد جريمة بحق الإنسانية ويجب إقرار ذلك «بأوضح العبارات» ولاسيما أن هولندا «مكّنت، وشجعت وربحت من العبودية» وأنه «إذا كان الماضي لا يُمحى، فإن من الواجب مواجهته». وقبل العاهل الهولندي ورئيس الحكومة، كانت مدن هولندية أساسية مثل أمستردام ولاهاي وروتردام وأوترخت قد بادرت بدورها إلى الاعتذار عن ماضيها المشين في تجارة الرقيق.
ولكنه تطور لا يطمس بعض الحقائق المؤسفة، وبينها أن 38٪ فقط من مواطني هولندا يتفقون مع الحكومة في واجب الاعتذار، ويرى أكثر من نصف المجتمع أن هذه الخطوة يمكن أن تفتح جروح الماضي مجدداً وتزوّد فئات اليمين المتطرف بذريعة إضافية للتحريض العنصري ضد الأجانب. كذلك فإن رفض الحكومة الهولندية تقديم تعويضات مالية لضحايا الاستعباد، والاكتفاء بتقديم 200 مليون يورو كمساعدات لبرامج تعليمية أو دعم متحف يؤرخ للعبودية، ينطوي من جانبه على استهانة بحقوق الضحايا.
وغير منفصلة عن حال النقصان هذه حقيقة وجود كيانات ودول وأنظمة، على رأسها دولة الاحتلال الإسرائيلي، تعتمد سياسات فصل عنصرية وتصادر الأراضي وتهدم البيوت وتقتلع الأشجار وترتكب من صنوف جرائم الحرب ما لا يقل قبحاً وهمجية، ولكنها لا تلقى من المجتمع الدولي سوى الصمت، فانتهاكاتها الصارخة مسكوت عنها ولا اعتراف بها أو اعتذار بصددها، فضلاً عن أنها تتمتع بالتشجيع والتواطؤ وتسهيل الإفلات من العقاب.
القدس العربي