ستكون لنهاية الحرب في أوكرانيا انعكاسات على منطقة الشرق الأوسط، وخاصة بالنسبة إلى الدول التي زجت بنفسها في الصراع المسلح بين الغرب وروسيا، كإيران التي أرسلت مسيّرات لدعم الجيش الروسي، في حين ستجني دول الخليج ثمار الحياد الإيجابي الذي توخّته منذ انطلاق الحرب في فبراير الماضي.
لندن – خسارة روسيا للحرب في أوكرانيا مثل كسْبها؛ إذ في الحالتين سيتضرر المحيط الدائر في فلكها. فالانتصار الروسي، رغم كونه احتمالا بعيدا وغير واقعي من ناحية موازين القوى العسكرية التي يتم تسخيرها للحرب، سيدفع الخاسرين إلى التخلي عن الحرب المباشرة لصالح العودة إلى عالم الحروب بالوكالة.
وستكون إيران، في سياق النصر أو الهزيمة، من أوائل الخاسرين ومن أكبرهم؛ من ناحية أولى لأنها جعلت من نفسها طرفا في الحرب الأوكرانية، ومن ناحية أخرى لأنها واصلت خرق تعهدات الاتفاق النووي مع مجموعة 5 + 1، ومن ناحية ثالثة لأنها تخوض حملة قمع وحشية ضد معارضي نظامها، ومن ناحية رابعة لأنها لا تزال تشكل تهديدا متواصلا للأمن والاستقرار في المنطقة.
الأسباب نفسها تنطبق على هزيمة روسيا في الحرب. فالمنتصرون لن يترددوا في جعل طهران تدفع الثمن. ومن بين ذلك تشديد العقوبات ضدها ودعم المعارضة الشعبية التي ستكون قد تلقت زخما جديدا لمواصلة الاحتجاجات ضد النظام، حتى يتم إسقاطه بالفعل.
روح التسويات مع طهران، التي سمحت بتوقيع الاتفاق النووي في العام 2015 وحرصت أطراف الاتفاق على استئناف التفاوض بشأنها بعد خروج الولايات المتحدة من الاتفاق في العام 2018، ستترك مكانها لردود فعل انتقامية أشد وطأة، تستغل الفراغ الذي ستخلّفه روسيا.
ومن الناحية الإستراتيجية ستكون إيران واحدا من أهم الأهداف للتحالف الغربي، وذلك من أجل السيطرة على “مجال حيوي” حرصت روسيا على أن تجعل منه مجالا يسمح بتوسيع نفوذها في المنطقة، ويتيح لها أن تظهر كطرف في معادلات الأمن والاستقرار فيها.
النأي بالنفس كان خيارا مسبقا للإمارات، استند إلى قراءة واقعية للتوازنات وللعناصر التي تصنع قرار الحرب والسلام
وفي الواقع يمكن أن تكون إيران حجر زاوية رئيسيا في الإستراتيجية الغربية لتقليم أظافر النفوذ الروسي في بلدان مثل كازاخستان وأوزبكستان وتركمانستان، لكي تتحرر من قيود العلاقة مع موسكو. وهو ما يعد شرطا حيويا من شروط تحطيم الروابط “الإمبراطورية” الروسية وكبح تهديداتها المستقبلية.
وقد كان هذا مكمن الإستراتيجية الأميركية الدائم حيال إيران. ولئن فشلت واشنطن في المحافظة عليه فإنه مازال حتى اليوم يدغدغ التطلعات الأميركية.
وتلعب إيران دورا حيويا في التمدد الاقتصادي الصيني أيضا، وهذا أمر مؤثر من ناحية التنافس التجاري بين قطبين؛ القطب الذي يعاقب إيران سعيا إلى أن يكسب شيئا، والقطب الذي تقع التفاحة في حضنه بالفعل.
ولم يكن الاتفاق الإستراتيجي بين بكين وطهران، الذي تم توقيعه في مارس 2021 ويدوم 25 عاما، جزءا من محاولة الإفلات من العقوبات الغربية، دبره الطرفان، ولكنه كان جزءا من خارطة نفوذ أدت إلى تجميد الاتفاقات التجارية الواسعة التي بدأت مع توقيع الاتفاق النووي، وتعطلت بانسحاب الولايات المتحدة منه.
أما أوروبا التي تريد أن تلعب دورا في صياغة النظام الدولي الجديد متعدد الأقطاب فتجد نفسها ضحية خيارات أميركية لا تراعي مصالح شركائها.
وسيفتح انهيار النظام الديني في إيران أبوابا لاستعادة الاستقرار في العراق، ليس فقط بأن يتخلّص من الهيمنة الإيرانية ويحافظ على موارد البلاد لتغذية مشاريع تعطلت بسبب هذه الهيمنة، وإنما يساعد أيضا على منح الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين القدرة على استعادة زمام المبادرة في المنطقة ككل.
أزمات المنطقة
ستعود قضايا الأمن في منطقة الخليج لتستقر في إطارها التقليدي. والحرب في اليمن يمكن أن تتوقف على النهاية التي تتطلع إليها السعودية والإمارات، سواء باستئناف الحرب أو بتسوية سلمية سيضطر الحوثي إلى القبول بها كنوع من الاعتراف بالأمر الواقع.
وستعود الأزمة في سوريا إلى دائرة القرار الدولي رقم 2254، وبيان جنيف في 30 يونيو 2012، وتخرج من دائرة جولات “محادثات أستانة” التي رعتها روسيا بهدف بقاء نظام الرئيس بشار الأسد دون إصلاحات أو تغيير.
هذه العودة ستجدّد الدعوة إلى “إنشاء هيئة حكم انتقالية جامعة تخوَّل سلطات تنفيذية كاملة الصلاحيات، بما في ذلك الالتزام بوحدة سوريا واستقلالها وسلامتها الإقليمية وطابعها غير الطائفي، وكفالة استمرارية المؤسسات الحكومية، وحماية حقوق جميع السوريين، بغض النظر عن العرق أو المذهب الديني، وضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى جميع أنحاء البلد”.
ولن يكون بوسع الرئيس الأسد أن يتحدى ضغوط الواقع الاقتصادي المستحيل القائم في بلاده في تلك الساعة. ذلك أن زوال السند الإيراني وانهيار السند الروسي سيبقيان نظامه أمام أحد خيارين: إما الانهيار الشامل أو القبول بالتسوية التي ساعدته موسكو في الالتفاف عليها.
وسيحظى معارضو النفوذ الإيراني في لبنان بكل الزخم الذي يحتاجون إليه لإعادة بناء النظام السياسي في البلاد، بما يتوافق مع اتفاق الطائف في العام 1989، لاسيما في الجانب المتعلق بإلغاء الطائفية السياسية.
ولن يتمكن سلاح حزب الله الذي يمكن أن يتحول إلى تهديد بشن حرب أهلية، في مسعى للحفاظ على ما يمكن الحفاظ عليه من نفوذ في مناطق جنوب لبنان، من أن يفرض نفوذا سياسيا في بيروت مماثلا لنفوذه الراهن. كما أن سلاحه لن يعود لاعبا مفردا عندما يتمكن الجيش اللبناني من الإمساك بزمام المبادرة الأمنية في البلاد.
أما الرئيس رجب طيب أردوغان فقد ينجو أو لا ينجو بسلطته في انتخابات يونيو 2023، ولكن ما لن ينجو هو طموحاته التوسعية في شرق المتوسط، وصولا إلى نفوذ بلاده في ليبيا.
ولعبة التهديد بالقوة لن تفلح مع أوروبا، مهزومة كانت أم منتصرة في الحرب مع روسيا. فالمهزوم سيكون بحاجة إلى مداواة جروح الهزيمة وخياطة فتوقها التي أوجدها أردوغان في جسد الحلف الأطلسي. والمنتصر سيستخدم كل أسباب انتصاره لكبح التعديات ضد مصالح اليونان وقبرص الاقتصادية في المتوسط. أما في ليبيا فإن الأطراف التي ركنت إلى الحماية التركية، سواء عن طريق القواعد العسكرية أو من خلال مجموعات المرتزقة، لن تجد بديلا عن القبول بالحلول التي أقرت الدعوة إلى انسحاب كل القوات الأجنبية من البلاد وتسليم مقدرات البلاد ومؤسساتها إلى سلطة منتخبة واحدة.
ثمار الحياد الخليجي
الفائزون الرئيسيون في المنطقة هم دول الخليج، وفي مقدمتها السعودية والإمارات؛ إثر النصر أو عقب الهزيمة، فإن سياسة الحياد حيال أطراف الحرب في أوكرانيا سمحت لهذه الدول بأن تكسب الوقت لمعرفة المآل الذي سينتهي إليه النزاع، دون أن تضر بمصالحها الخاصة ومصالح شركائها الدوليين.
لقد كان واضحا للقيادات الخليجية أن روسيا والتحالف الغربي يدخلان في دوامة قاتلة. وكأي دوامة مماثلة، فإن شظاياها يمكن أن تلحق بالمتحلقين حولها أضرارا جسيمة.
وكان النأي بالنفس عن النزاعات خيارا مسبقا للإمارات، استند إلى قراءة واقعية للتوازنات الدولية وللعناصر التي تصنع قرار الحرب والسلم فيها. ولئن كانت المصالح الاقتصادية هي العصب الرئيسي الذي يقف وراء كل العزائم والأدوار، فإن رعاية هذه المصالح صارت جوهر سياسة “صفر مشاكل” وراعيها.
وفي الوقت نفسه تعرف السعودية أنها في وضع شديد الحساسية، بين مسؤوليتها كضامن دولي أول لاستقرار موارد الطاقة، وبين التهديدات التي يمكن أن تتعرض لها من جانب ميليشيات تتصرف برعونة، هي على هزالها وضعفها مسبب من مسببات الصراع.
نجحت السعودية في جر أكبر حليفين لإيران إلى صفها: روسيا والصين. وأظهرت لهما بوضوح تام أن حاجتهما إلى إيران لا تساوي شيئا أمام الفرص المستقبلية الضخمة التي يتيحها التعاون الاقتصادي مع دول الخليج، وتاليا دول المنطقة. لقد كان هذا هو مغزى القمم الثلاث التي رعتها الرياض باستقبال الرئيس الصيني في ديسمبر الماضي.
روح التسويات مع طهران، التي سمحت بتوقيع الاتفاق النووي في العام 2015 ستترك مكانها لردود فعل انتقامية أشد وطأة تستغل الفراغ الذي ستخلّفه روسيا
هذه المناورة لم تكن مناورة عابرة أو مؤقتة. لقد كانت مناورة إستراتيجية بعيدة المدى، وتجمع حزمة متكاملة من القضايا الأمنية والاقتصادية والتنموية. كما أنها تدعم المنطلق نفسه الذي يسعى إليه الراغبون في إقامة نظام دولي متعدد الأقطاب. ذلك أن هذا النظام، بمقدار ما هو متعدد الأقطاب عسكريا، فإنه متعدد الأقطاب اقتصاديا. وفيه مكان للسعودية، وللتحالف الخليجي ككل، كجزء من أكبر عشر قوى اقتصادية في العالم، وبالذات كجزء يُمسك بأمن الطاقة من زاوية أنه الطرف الأكثر موثوقية واستقرارا، والبعيد كل البعد عن الصراعات السياسية أو الأيديولوجية التي تحرك النزاعات المسلحة.
الصين وروسيا، فضلا عن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، أقطاب قد تتنازع فيما بينها. إلا أنها تستطيع أن تثق بحليف مأمون بالنسبة إلى موارد الطاقة. كما أنها لن تجد جسرا للشراكة والتعاون، يرعى بيئة المصالح المتبادلة، أفضل من دول الخليج. وهو ما يبرر لها أن تكون مركزا دوليا للتجارة ولضمان استقرار سلاسل الإمدادات التي واجهت التهديد مرتين في جائحتين: كورونا والحرب في أوكرانيا.
موقع دول الخليج الجغرافي يبرر لها ذلك. وقدراتها الاقتصادية وسعة آفاق التنمية فيها، وامتداد هذه السعة لتشمل محيطها العربي والأفريقي، تكشف عن ثقل لا تساوي فيه النزاعات، أو حتى المنافسة نفسها، ما يستحق التضحية به.
وبطريقة أو بأخرى تكتشف الولايات المتحدة وألمانيا هذه المكانة الآن. التهديد بـ”إعادة أميركا النظر في العلاقات مع السعودية” بعد قرار أوبك+ في أكتوبر الماضي خفْض إنتاج النفط بنحو مليونيْ برميل، أعاد إلى واشنطن البصر. ليس لأن ذلك الخفض أثبتت أسعار النفط التالية مبرراته، ولكن لأن المكانة التي تحتلها دول الخليج صارت أكبر من أن تُضارع أو أن تخضع لاعتبارات قديمة؛ اعتبارات عالم ما قبل التعددية القطبية الناشئة.
لقد أرادت الحرب الروسية – الأوكرانية شيئا وحققته، وهو أن عالم الهيمنة الأميركية قد مات. وكائنا ما كان المولود الجديد، فإنه أفضل للذين نظروا إلى مصالحهم أولا، وابتعدوا عن الدوران في فلك النزاع.
العرب