كافة السياسات التي تنتهجها تركيا في المدن والبلدات التي تحتلها في شمال وشمال شرق سوريا توحي بأن أنقرة تتصرف في تلك المناطق وكأنها جزء أصيل من جغرافيتها أو كأنها في طور الإعداد لإلحاق تلك المناطق بخارطتها إما رسميا أو بحكم الأمر الواقع.
ومنذ أن انطلقت العمليات العسكرية التركية في شمال وشمال شرق سوريا في سنوات 2016 و2018 و2019 والتي أدت إلى احتلال تركيا ما يقرب من 10 آلاف كم مربع من الأراضي السورية، لم تدخر أنقرة جهدا لتكريس الأمر الواقع من خلال تبني سياسات تتريك ممنهجة. وهذا بدوره يعكس النوايا التركية المضمرة في قضم تلك المناطق بشكل دائم.
وعمدت أنقرة إلى تغيير السجل المدني للسكان الأصليين في المناطق السورية التي تحتلها وسحبت البطاقة الشخصية والعائلية السورية من القاطنين في تلك المناطق واستعاضت عنها بأخرى تركية. وباشرت أنقرة بإجراءات اقتصادية وتجارية وإدارية مكثفة بهدف التداول بالعملة التركية بدلا من العملة السورية. كذلك سعت إلى تغيير المناهج المدرسية والجامعية وفرض اللغة التركية في كافة المناطق التي تحتلها وشيدت فروعا عدة لجامعاتها في إدلب.
الكُرد أكثر المتضررين
الذريعة المعلنة المباشرة التي استخدمتها تركيا لتدخلها العسكري في سوريا كانت محاربة قوات سوريا الديمقراطية التي تشكل القوات الكردية عمادها الرئيسي والتي ترى فيها أنقرة امتدادا لحزب العمال الكردستاني في تركيا
عمليتان عسكريتان من أصل ثلاث التي نفذتها تركيا داخل الأراضي السورية في سنوات 2016، 2018 و2019 والتي أتاحت لتركيا احتلال حوالي 10 آلاف كم مربع، كانتا موجهتين ضد الكُرد تحت ذريعة محاربة القوات الكردية وتقويض أسس الكيان الكردي المزمع إنشاؤه بمحاذاة الحدود التركية وفق حجة أنقرة الرسمية. وهذا يكشف النوايا العدوانية التي تضمرها أنقرة حيال التطلعات الكردية في التمتع بالحقوق سواء داخل أو خارج تركيا. سياسات التتريك المبرمجة اكتست طابعا أكثر ضراوة في المناطق الكردية المحتلة في سوريا مثل عفرين وسرى كانيه وكرى سبي حيث أدت إلى تشريد عشرات الآلاف من السكان الكُرد من تلك المناطق وإزالة المعالم الكردية وتغيير الأسماء الكردية للشوارع والمراكز والأحياء واستبدالها بأخرى تركية ورفع العلم التركي وصور أردوغان فوق المدارس والمستشفيات وكافة المراكز والمؤسسات والساحات بهدف إحداث تغييرات ديموغرافية جذرية هائلة لطمس الهوية الكردية لتلك المناطق وإتخامها بنازحين سوريين موالين لتركيا، وخاصة من التركمان القادمين من المناطق السورية المنكوبة الأخرى.
تجرع الكُرد في سوريا النصيب الأكبر من سياسات التتريك أمر مفهوم نظرا لمكابدة تركيا التاريخية من الفوبيا الكردية لما يقارب قرن من الزمان. الذريعة المعلنة المباشرة التي استخدمتها تركيا لتدخلها العسكري في سوريا كانت محاربة قوات سوريا الديمقراطية التي تشكل القوات الكردية عمادها الرئيسي والتي ترى فيها أنقرة امتدادا لحزب العمال الكردستاني في تركيا. لكن الهدف التركي الضمني كان وما يزال محاربة التطلعات الكردية في سوريا في الحصول على الحقوق القومية حتى لو كان ذلك في إطار سوريا موحدة، بالإضافة الى الرغبة في ضم الشمال السوري والعراقي بدءا من حلب ومرورا بمناطق شمال وشمال شرق سوريا وصولا إلى الموصل وكركوك وإقليم كردستان العراق. هذه الأيام، يلوح أردوغان بالشروع في شن عملية عسكرية جديدة ضد الكُرد في سوريا بهدف احتلال مناطق كردية جديدة مثل كوباني وغيرها والمضي قدما في تقطيع أوصال الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا التي يقودها الكُرد بهدف تقويضها تدريجيا من خلال فرض درع تركي داخل الشريط الحدودي السوري إحياء لما ورد في الميثاق الملي العثماني الذي انطلى على معظم الكُرد أثناء صدوره.
الميثاق الملي 1920
ما يجعل ظاهرة الاحتلال والإلحاق التركي الهادئ والناعم، إن صح التعبير، للعديد من المدن والبلدات والقرى في شمال وشمال شرق سوريا أمرا حيويا ومصيريا ولا يقبل التأويل بالنسبة إلى تركيا هو الأساس النظري والذهني الشعبوي المشبع في العقل السياسي النخبوي والجمعي التركي لمثل هكذا نوازع. “الميثاق الملي” أو “الميثاق الوطني” الذي وضعه الآباء المؤسسون للجمهورية التركية سنة 1920، هي الوثيقة التي يتذرع بها أردوغان لتسويغ سياساته العدوانية في سوريا والعراق، بما في ذلك كردستان العراق وكردستان سوريا، وتراقيا الغربية وبحر إيجا وشمال قبرص. في 2016 عندما تم استبعاد تركيا من المشاركة في الحملة التي قادتها الولايات المتحدة لتحرير مدينة الموصل من قبضة داعش، جن جنون الرئيس التركي وقال بشكل لافت “عليهم قراءة الميثاق الملّي ليفهموا معنى الموصل بالنسبة إلينا… الموصل كانت لنا”.
في أعقاب ذلك مباشرة، نشرت كبريات الصحف التركية خارطة المنطقة المثيرة للجدل وفق “الميثاق الملي” وفيها يتم اقتطاع أجزاء كبيرة من سوريا والعراق وأجزاء أصغر من اليونان وأرمينيا وإيران وجورجيا وبلغاريا لصالح تركيا، علما بأن “الميثاق الملي” الذي تبناه “البرلمان العثماني” والمعروف باسم “مجلس المبعوثان” في عام 1920 بإيعاز من القائد العسكري التركي مصطفى كمال قد تم التخلي عنه من قبل الأتراك أنفسهم في مؤتمر لوزان سنة 1923. نصَّ المؤتمر المذكور على منح كامل منطقة الأناضول للدولة التركية الحديثة مقابل اعتراف تركيا الجديدة بحدود الدول المستقلة عن الإمبراطورية العثمانية بما في ذلك سوريا والعراق، وبذلك تم نسف “الميثاق الملي” من قبل الحلفاء المنتصرين وتركيا المهزومة على حد السواء.
المطلوب عربيا وكرديا
كافة السياسات التي تنتهجها تركيا في المدن والبلدات التي تحتلها في شمال وشمال شرق سوريا توحي بأن أنقرة تتصرف في تلك المناطق وكأنها جزء أصيل من جغرافيتها
المطلوب أو على الأقل المتوقع من جميع المناوئين للاحتلال التركي في سوريا توحيد وتكثيف الجهود التي من شأنها رصد سياسات التتريك في المناطق السورية المحتلة بهدف فضحها وتعريتها من خلال التنسيق مع جميع منظمات حقوق الإنسان والعفو الدولية وغيرها لتأليب المجتمع الدولي ضد الممارسات التركية الشنيعة. كذلك متوقع من جامعة الدول العربية تبني موقف واضح وصريح ضد الاحتلال التركي في سوريا والعراق وطرح هذه القضية المصيرية في الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي بهدف استصدار بيان أو قرار رسمي من المنظمتين يطالب تركيا بالخروج من تلك المناطق. أيضا شن عمليات عسكرية نوعية من قبل المقاتلين الكُرد والعرب والسريان والآشوريين في سوريا ضد الأهداف التركية داخل الأراضي السورية التي تحتلها أنقرة بهدف تأليب الرأي العام التركي ضد التورط التركي في الشأن السوري. بالإضافة إلى قيام حكومة بغداد وحكومة إقليم كردستان بطرح موضوع الاحتلال التركي لمناطق شاسعة في العراق وإقليم كردستان في المحافل الدولية بهدف تشكيل المزيد من الضغوط على أنقرة بغرض الانسحاب من تلك المناطق. كذلك التلويح بالمقاطعة الاقتصادية والتجارية والاستثمارية العربية وخاصة من قبل السعودية والإمارات ومصر ضد تركيا كنوع من الضغط بهدف إرغام أنقرة على الانسحاب من الأراضي السورية والعراقية المحتلة.
ويشهد التاريخ بأن كل منطقة غزتها واحتلتها تركيا، بصرف النظر عن الذريعة، تأبدت فيها وألحقتها بدولتها المشيدة على عذابات الآخرين. لواء اسكندرون التي ابتلعتها تركيا سنة 1939 وشمال قبرص في عام 1975 وغيرها والعديد من المناطق التي تحتلها في إقليم كردستان العراق غيض من فيض الشراهة التركية لقضم وابتلاع أراضي الآخرين، خاصة الضعفاء والمتشرذمين، وكالعادة بواسطة بعض الخونة والعملاء والبيادق.
العرب