قال بشار الأسد مخاطباً ضيفه الرئيس الإيراني رئيسي يوم الأربعاء الماضي: «نحن وأنتم لم نضع مصير دولنا وشعوبنا في يد الأجنبي، إنّما راهنّا على انتصار الحق في النهاية، وقد ربحنا الرهان». والكلمتان» الأجنبي» و» ربحنا» هما من بين مفاتيح ما يفكر به الرجلان معاً في الحقيقة. فالأولى تضعهما في مواجهة كلّ ما ومن هو خارج نظاميهما، والثانية تؤشّر إلى ما يريدان إرهاب وإقناع الآخرين به: انتصارهما.
تلك الزيارة جاءت بعد انسداد طريق دمشق على الزيارات الرئاسية منذ 2010، العام الذي انقضّ بعده النظام السوريّ على شعبه حين انتفض مطالباً بحقوقه المشروعة، والذي دخل النظام الإيرانيّ بعده أيضاً من جهته في حرب البرنامج النوويّ، أيضاً مع الآخرين كلّهم، أو العالم بطريقة أخرى. وبمعنى مختلف، دفعا المنطقة والعالم نحو سرداب صراع شيعي – سنّي مظلم الأركان، كارثيٍّ لو تحقق واستشرى.
عدد من الاتفاقات المهمة، التي أنجزت بين النظام السوري وإيران لها صلة بالهيمنة وفرض الوجود المادي والبشري والعسكري، ما يصعب التراجع عنه مستقبلا
جاء رئيسي إلى دمشق مصطحباً وفداً كبيراً ومتنوّعاً: سياسياً واقتصادياً ودينياً… وعسكرياً في الخلف. وكانت زيارته في الواقع زيارتين، أولاهما للنظام السوري ورأسه، وثانيتهما إلى دولة الظلّ الإيرانية التي تأسّست في العقد الأخير، وعاصمتها في ضاحية دمشق الجنوبية، حيث زار مقام السيدة زينب، والتقى بالحشود الجماهيرية الكبيرة وألقى فيها كلمته الأساسية في الزيارة. زيارة الظل المهمة تلك لم تحظ بتغطية بحجمها، وكان ذلك غير طبيعي من حيث تعبيره عن الواقع، وطبيعياً من حيث الاستعانة بالكتمان، كما يبدو. لا ينفي هذا أن الزيارة «الرسمية» كانت دسمة ومليئة بالأخبار أيضاً، مع إنجاز حوالي خمسة عشر اتفاقاً يتعلّق بمناحي متنوعة، غطّى الكتمان أيضاً في النهاية نصفها، بعد أن كانت معلنة تقريباً في الأصل بشكل مسبق خلال الزيارة التمهيدية لوزير الطرق الإيراني.
تدلّ طبيعة تلك الزيارة التمهيدية حتماً على بعض ما هو جوهريّ أيضاً: وزير الطرق حين يحضر سيناقش حتماً تأمين طريق إيران نحو شرق المتوسّط، ويؤسّس لتأمين سكك الحديد والطرق السريعة الضرورية لذلك في ما بعد. لكن ذلك الوزير والوفد المتنوع المرافق له بحثوا في كلّ شيء يتعلّق بالعلاقات الثنائية وزيارة الرئيس الإيراني اللاحقة. برزت من ذلك أيضاً إشارة إلى مسألة الديون الإيرانية التي تقارب الثلاثين ملياراً من الدولارات. وكيفية سدادها، الذي أُعلن أن اتفاقاً سابقاً كان قائماً على دفعه على شكل تمليك أراضٍ سورية، حصل اختلاف في ما بعد بسبب تقديم أراضٍ ليس لها صكوك ملكية قانونية قابلة للتسجيل العقاري، كما يريد الطرف الإيراني، كذلك برزت حاجة سوريا الماسّة إلى الكهرباء، وطلب تأمينها بمشاريع توليد يموّلها وينفّذها الإيرانيون عن طريق قروض كالعادة، لكنّ تعديلاً طرأ على العرض، يجعله استثماراً مباشراً بدلاً من أن يكون قرضاً ينضمّ إلى سابقيه مجهول المستقبل. لا ينفي هذا أن عدداً من الاتفاقات المهمة قد أُنجزت في الزيارة وتمّ توقيعها، في المجال الزراعي والسكك الحديدية والطيران المدني والمناطق الحرة والنفط والاتصالات وغيرها، وكلّها لافتة للانتباه، تشي بنوايا لا تخفى على العين السليمة، على صلة بالهيمنة وفرض الوجود – المادي والبشري والعسكري – الذي يُراد له أن يكون صعباً على التراجع عنه في المستقبل، مهما كان مآل النظام ومصيره في ما بعد. هناك أشياء عديدة وكثيرة في هذه الزيارة، لكنّ الجانب السياسي العام الأكثر أهمية وجدارة بالتوقف عنده، بالصورة الفوتوغرافية الساكنة، يلفت الانتباه مباشرة أن الحدث هذا جاء مباشرة بعد اجتماع عمّان الخماسي، لوزراء خارجية الأردن وسوريا والعراق ومصر والسعودية، الذي جاء تنفيذاً للقاء جدّة السابق عليه، بين دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والعراق والأردن، وجاء كلاهما في سياق حركة التطبيع مع نظام الأسد، التي توّجتها أخيراً إعادته إلى الجامعة العربية، بعد تعليق عضويته فيها منذ عام 2011 بعد انقضاضه الدامي على شعبه وحركة احتجاجاته الكبرى آنذاك. وجاء قرار العودة مترابطاً بدقة مع توجّهات اجتماع عمان ومبادرة الأردن، وربّما ساعدت زيارة رئيسي على تسريع صدوره وعلى سلاسة ذلك.
يتنازع النظام الإيراني بوجوهه العديدة اتّجاهان كما يبدو: أولّهما يرى في محاولة التطبيع تلك دعماً لسياسة التطبيع الأخرى، ما بين السعودية وإيران، ومن ثم بين الأخيرة والمحيط الخليجي والعربي؛ وثانيهما لا يرغب بعودة غير مأمونة للنظام السوري – التابع أقل ممّا يريد الإيرانيون وأكثر مما يريد آخرون – إلى الإطار العربي، حتى لا يذهب بعيداً. وفي الحالتين، يرى الحرس الثوري الإيراني خصوصاً في جهود التطبيع العربي، حرماناً محتملاً له من فضاء استراتيجي لازم، أو تقليصاً له كما هو قائم بالفعل على الأقل.
ذلك انعكاس ربّما لصراع جديد على سوريا، وانبعاث لشكل جديد منه مختلف عمّا كان الأمر في القرن العشرين. ويزيد من معالم الشبه كون روسيا وتركيا موجودتان في الرأس الإيراني أثناء السياقات المذكورة، إضافة إلى إسرائيل والولايات المتحدة، وكلّ هذه المحرّكات تعمل بالاتجاهين، وفي ما بينها أيضاً. ومنطلق الصراع القديم والحديث على سوريا واحدٌ يتعلّق بالأهمية الاستراتيجية لهذا البلد، بما يشكّله من عقدة تواصل ما بين الشرق والغرب، والشمال والجنوب. وفي هذا المقال تركيز حالياً على ممرّ إيران إلى البحر المتوسط، مروراً بلبنان أيضاً وما يعنيه، وبالحدود مع إسرائيل بأهميّتها «التجارية» والأيديولوجية؛ وعلى ممرّ التواصل ما بين تركيا والجنوب العربي وفرصه التجارية الاقتصادية الواعدة. قد تعني تلك الصراعات المتداخلة كذلك في ما تعنيه، استباقاً لصراعات أخرى سوف تبدأ ظلالها بالظهور في الأيام والسنوات المقبلة، ومنها ذلك التعارض الحتمي بين المصالح التركية والإيرانية، لذلك يخفي السباق الحالي، تنافساً مهماً بين الاتّجاهين المتعامدين للطريق، حيث يكون السابق بينهما قادراً بسهولة على قطع طريق الآخر. ففتح الخط بين الشمال والجنوب عبر سوريا سيسهم في تقليص حركة الطريق بين الشرق والغرب، والعكس صحيح. ألا يلفت الانتباه كذلك أن أحدهما شيعي والآخر سنّي؟! وأن ذلك السباق ذو طبيعة استراتيجية في كلّ الأحوال، ومن دون تهويل أو تركيز مبالغ فيهما!
تشمل ساحات ذلك الصراع كلاً من العراق وسوريا ولبنان، ومجريات الهيمنة في الأخير تعطي انطباعاً عن المسار كلّه، الذي لا يمكن أن يجري تعبيده وتشغيله بطاقته العظمى إلّا بإطباق اليد نهائيّاً على سوريا. كذلك لا يمكن تأمين طريق التجارة والناس بين الشمال والجنوب إلّا بتقليص تلك الهيمنة الإيرانية، أو قطع نموّها بشكله العنيف المُنذِر على الأقل. وربّما تحتاج الدول العربية جنوباً أيضاً إلى مُتنفّس باتّجاه الشمال يريحها قليلاً من ضغوط الوذمة المتنامية في مياه الخليج. لقد بدأ التفكير في المستقبل كذلك، حين لا يكون بيع النفط مصدر الريع المتحكّم في المستقبل.
ممّا جاءت به تلك الزيارة المهمة من أخبار ودلالات مزعجة للناس السوريين، وما حمله اجتماع عمّان من أخبار أكثر أناةً في قضية التطبيع، من دون أن يخفّ قلقهم على مستقبلهم، الذي أخذوا يتلمّسون بقوة تسّربه من بين أيديهم، هنالك ما يذكّر بالأعوام الثلاثة أو الأربعة بعد عام 1918، حين كانت تلك البلاد على كفّ عفريت لا يبدو لها قرار ولا مسار، وكانت القوى الفاعلة والمؤثّرة نفسها معرّضة لعوامل الحتّ والتعرية أيضاً!
القدس العربي