بدأت نتائج الاتفاق السعودي الايراني تأخذ مدياتها على الواقع السياسي والمعطيات العامة في المنطقة العربية وطبيعة التحالفات والأسس التي تسعى إليها الدول الكبرى في حماية مصالحها والابتعاد عن المواجهات المباشرة والعمل باتجاه إعادة تركيب هيكلية العلاقة السياسية في منطقة الشرق الأوسط والوطن العربي، ومن أهم هذه الخطوات الانفتاح المباشر والواسع الذي يشهده النشاط الدبلوماسي للإدارة الأمريكية تجاه المملكة العربية السعودية وتعدد الزيارات التي ينوي المسؤولين الأمريكان القيام بها للرياض والتي ابتدأت بزيارة مستشار الأمن القومي (جيك سوليفان) يوم الثامن من أيار 2023 ولقائه مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بحضور مستشاري الأمن القومي في الهند والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية ضمن مبادرة أمريكية لإعادة تقويم العلاقة الإستراتيجية مع الرياض وتعزيز مكانة واشنطن في الشرق الأوسط ومناقشة فكرة إقامة مشروع ربط دول الخليج العربي وعدد من الدول العربية العربية عبر شبكة من السكك الحديدية مع الهند في ظل تنامي القدرة السياسية والاقتصادية للصين بعد دورها الميداني في تحقيق الاتفاق السعودي الايراني.
أعطت هذه الزيارة واللقاء الرباعي صورة عن مستقبل العلاقات بين الرياض وواشنطن وسعي كليهما إلى تأكيد رسوخها رغم التقارب المتنامي بين الصين والسعودية وتوسيع النشاط والاستثمار الاقتصادي بين البلدين والتي أدت إلى توقيع 34 اتفاقية استثمارية في مجالات الطاقة الخضراء وتكنلوجيا المعلومات والخدمات العامة في النقل والبناء وهي إحدى النتائج التي تم تحقيقها بعد الزيارة الأخيرة للرئيس الصيني للسعودية نهاية العام الماضي.
ان وجود الهند في هذا الاجتماع له انطباع مهم واستراتيجي كونها تمثل إحدى الدعامات الأساسية لتحالف (كواد) الذي يضم (امريكا والهند واستراليا واليابان) والذي تم تشكيله لمواجهة النفوذ الصيني في منطقة المحيط الهادئ والمحيط الهندي وهو من التحالفات الإستراتيجية ذات الطابع الأمني والسياسي والاقتصادي التي عملت عليه الإدارة الأمريكية، في حين رأت القيادة الصينية انه تحالف وتجمع على غرار منظمات الحرب الباردة يسعى لإحتواء الصين .
واستغلت واشنطن الخلاف الكبير بين الهند والصين عام 2020 وتصعيد حدة المواجهات التي تفجرت في منطقة الهملايا لجعل عضوا حيويا في التحالف الرباعي ، ولهذا فإن حضور مستشار الأمن القومي الهندي يلقي بظلاله على طبيعة دور واشنطن في محاولتها لاستعادة دورها الإقليمي في قارة آسيا وربط حلفائها بمشاريع استثمارية واقتصادية عالية والحفاظ على مكانتها وإدامة مصالحها المشتركة ومواجهة مشروع الطريق والحزام الصيني الكبير.
يمكن أن نحدد نقاط القلق الأمريكي حول تعاظم علاقة المملكة العربية السعودية مع روسيا والصين والشراكة الاقتصادية التي تحققت بينهم وامتداد العلاقة بينهم كونها تشمل جميع مجالات العمل المشترك والتبادل التجاري والتنسيق الأمني وتوريد الأسلحة والمعدات الحديثة للرياض، وهذا ما جعل واشنطن تعمل على تحديد مسارات سياستها بعيدا عن التجديد والاستعارة بل صنع مرتكزات جديدة تساهم في الحفاظ على الرياض كحليف استراتيجي وصديق دائم ومحاولة تحجيم دور الصين سياسيا واقتصاديا بما يبتعد عن تهديد مفهوم الأحادية القطبية التي تتمسك بها الولايات المتحدة، وتبقى الرؤية الأمريكية تجاه أهمية العلاقة مع الرياض إنها تساهم في حماية الأمن البحري في البحر الأحمر والخليج العربي وتعزيز حالة التنسيق الأمني في مكافحة الإرهاب والتصدي للتهديدات الإيرانية داخل المنطقة ولو أن هذا الهدف الأخير قد تم مناقشته في بنود الاتفاق السعودي الايراني ولكنه يبقى قائما في الرؤية الأمريكية التي تحدث عنها مستشار الأمن القومي الأمريكي في مؤتمر لمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى بقوله (ان الولايات المتحدة ستتخذ كافة الإجراءات الضرورية لضمان عدم امتلاك إيران سلاحا نوويا ) .
ولكن الرؤية السعودية الحالية تعمل على توسيع مدارات العلاقة مع جميع الشركاء الحقيقين والمؤثرين في المنطقة ومنهم الشريك الصيني التي تدرك الرياض انه يشكل أكبر مستورد للنفط السعودي وقدم العديد من التسهيلات ذات الطابع العسكري والأمني في تعزيز المؤسسة العسكرية السعودية وتزويدها بالأسلحة والمعدات المتطورة وانظمتها التي لم تحصل عليها الرياض من واشنطن ومنها الصواريخ البالستية بعيدة المدى والمساهمة في نقل تكنلوجيا صنعها للسعودية والاعداد لإنشاء مفاعل نووي ذي الحرارة العالية وإقامة آلية للمشاورات بشأن مكافحة الإرهاب والحصول على طائرات مسيرة وشراء مدفعية صينية وليزر مضاد للطائرات من دون طيار ، ويمكن أن نعود إلى عام 2017 الذي شهد توقيع اتفاق بين البلدين على إنشاء مصنع طائرات حربية دون طيار في المملكة العربية السعودية ضمن عدة اتفاقيات مشتركة بقيمة 60 مليار دولار.
تسعى السياسية السعودية إلى تنويع حلفائها على المستوى الدولي والإقليمي وتعزيز علاقتها وتقاربها مع تركيا وإيران وتقليل التوترات في المنطقة ومنع الأضرار الذي قد يلحق بمصالحها وتعزيز دورها العربي .
امام جميع هذه المعطيات الميدانية وطبيعة التحالفات السعودية فان الولايات المتحدة الأمريكية بدأت في صياغة سياسة تعتمد على تأكيد دورها وتواجدها في المنطقة العربية والتي أشار إليها جيك سوليفان في الخامس من أيار 2023 في ندوة موسعة بالعاصمة واشنطن بقوله (ان إستراتيجية بلده في منطقة الشرق الأوسط مبنية على ثنائية الردع والدبلوماسية محذرا من عقد حاسم ربما لم يمر مثله منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وان التزام واشنطن في المنطقة لا يتزعزع لأنها ذات مصالح حيوية لواشنطن ) .
احدث الاتفاق السعودي الايراني خطوات ميدانية وتفاعلات سياسية وتحالفات إستراتيجية للإبقاء على ميزان التوافقات والمصالح الدولية والإقليمية في منطقة الشرق الأوسط والوطن العربي وإعادة مفهوم الاهتمام بالمنطقة ومراعاة التطورات التي تشهدها وأبعادها على المستقبل السياسي والاقتصادي للدول الكبرى.
وحدة الدراسات الإيرانية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية