كيف ستؤثر الأزمة بين تركيا وروسيا على علاقات أنقرة مع “حلف شمال الاطلسي”؟

كيف ستؤثر الأزمة بين تركيا وروسيا على علاقات أنقرة مع “حلف شمال الاطلسي”؟

NATOtroopsflagsUSUkraineTurkey-639x405

على الرغم من أن الأزمة الحالية بين موسكو وأنقرة قد لا تتحول إلى نزاع عسكري، إلا أنها عبارة عن تذكير بأن تركيا منخرطة بقوة في حرب بالوكالة مع عدوها التاريخي الروسي في سوريا. فعندما أُسقطت طائرة روسية في 24 تشرين الثاني/نوفمبر بعد انتهاكها المجال الجوي التركي، كان الطيارون الروس يشنون حملة قصف ضد المتمردين التركمان السوريين، الذين تدعمهم أنقرة نظراً لعلاقاتهم العرقية مع الأتراك ومعارضتهم المسلحة لنظام الأسد المتحالف مع الروس. ويشعر الآن القادة الأتراك بقلق شديد من احتواء الخطوات الانتقامية المحتملة للكرملين ومن وضع خطط للطوارئ طويلة الأمد بهدف تعزيز قبضتهم في مواجهة روسيا. وستترك هذه المخاوف آثاراً إيجابية كبيرة على علاقات أنقرة مع منظمة “حلف شمال الأطلسي”.

الأزمة قد تتصاعد

من بين الدول العشر المجاورة لتركيا، هناك دولة واحدة فقط تخشاها أنقرة فعلياً وهي: روسيا. وتعود جذور هذه الهواجس في التاريخ إلى الإمبراطورية العثمانية. ففي مرحلة ما، حكم الأتراك العثمانيون جميع الدول الحديثة المجاورة لتركيا أو ألحقوا بها الهزيمة باستثناء روسيا. وما بين القرن الخامس عشر، عندما أصبحت الإمبراطوريتان العثمانية والروسية جارتين، والعام 1917، وهو عام الثورة البلشفية، خاض الشعبان العثماني والروسي سبعة عشر حرباً طويلة، شنها الروس جميعاً وفازوا بها. وبالتالي، تحرص معظم النخب التركية على تجنب تصعيد الأزمة الحالية، وذلك لسبب وجيه.

وفي المقابل، قد يعتمد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التصعيد، إلى حد ما على الأقل. فخلال العقد الماضي، حاول وضع روسيا في موقع القوة العسكرية العظمى في أوراسيا والشرق الأوسط، وتصوير نفسه كزعيم عالمي. ووفقاً لوجهة نظره، ساهم إسقاط الطائرة الروسية في كبح جماح تلك الطموحات العظيمة، وقام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بإذلاله شخصياً، لذلك فهو عازم على الانتقام لإحدى تلك الإهانتين أو كلتيهما. وقد نشرت روسيا بالفعل صواريخ أرض-جو من طراز “إس 400” في سوريا عقب حادث إسقاط طائرة “سو-24” الروسية، لذلك أصبحت لديها القدرة على ضرب الطائرات التركية في أي مكان في شمال غرب سوريا أو حتى داخل تركيا نفسها. ويشير هذا الأمر إلى أن أنقرة ستفكر مرتين قبل أن تسقط أي طائرة روسية أخرى، وهو تطور يمنح موسكو منطقة حظر جوي فعلية في جزء كبير من شمال سوريا.

ولكن لروسيا خيارات محدودة للضغط على تركيا

فيما يتخطى اتخاذ إجراءات ضد السياحة وتجارة المواد الغذائية مع تركيا، يتمتع بوتين بعدد محدود من الأدوات التجارية للانتقام على ما حدث. إذ سيساهم قطع الغاز الطبيعي عن تركيا في إجبار أنقرة على التخبط، حيث تزود روسيا 55 في المائة من الاستهلاك المحلي التركي. ومع ذلك، يمكن للأتراك التعويض جزئياً عن ذلك من خلال استيراد الغاز الطبيعي المسال وتحويل محطات التوليد الكهربائية التي تحرق الغاز إلى نفط. بالإضافة إلى ذلك، تُعتبر تركيا ثاني أكبر مستورد للغاز الروسي، وعلى ما يبدو لا يمكن أن يتحمل بوتين خسارة عميل مهم في الوقت الذي يتم فيه الضغط على موسكو بسبب انخفاض أسعار النفط والغاز والعقوبات الدولية. وبالمثل، إذا ألغت روسيا عقودها لإنشاء محطتين تركيتين لتوليد الطاقة النووية، يمكن لأنقرة العثور بسرعة على موردين آخرين.

وبغض النظر عن تهديد حلفاء تركيا في سوريا وإقامة منطقة حظر جوي فعلية في شمال غرب البلاد، فإن الخيارات العسكرية المتاحة أمام بوتين مقيّدة أيضاً. فقد نشرت روسيا قوات محدودة في سوريا ومنطقة القوقاز على الحدود مع تركيا، في حين أن لدى أنقرة ثاني أكبر أسطول لمقاتلات “إف-16” في العالم وثاني أكبر جيش في “حلف شمال الأطلسي”. كما تتمتع تركيا بالمزايا اللوجستية والجغرافية التي تشمل السيطرة على مضيقي الدردنيل والبوسفور، أي مخرج روسيا إلى سوريا. وستلعب موسكو بالنار إذا حثت حليفها الأرمني على إعادة سيناريو حرب ناغورنو – كاراباخ مع أذربيجان حليف تركيا.

ومع أخذ هذا الأمر بعين الاعتبار، ستستهدف روسيا بدلاً من ذلك شمال غرب سوريا بقوة وحيوية، بهدف دفع الثوار المدعومين من تركيا خارج البلاد، وهو السيناريو الذي سيعني إلحاق الهزيمة الكاملة على الأرض بكل من يعادي سياسة أنقرة المناهضة للأسد. وقد يساهم هذا الأمر أيضاً في خلق موجة جديدة من اللاجئين، مما سيضيف إلى العبء الحالي الذي تتحمله تركيا في احتواء حوالى 2.2 مليون طالب لجوء من سوريا.

ويكمن الخطر الآخر في الحرب غير المتكافئة الروسية المحتملة ضد تركيا، وذلك يمكن أن يشمل دعم عدو أنقرة منذ فترة طويلة، أي «حزب العمال الكردستاني»، أو فرعه السوري «حزب الاتحاد الديمقراطي» ، الذي يهدف إلى الاستيلاء على مسافة طولها حوالي ستين ميلاً من الأرض على طول الحدود من أجل ربط جيبين تابعين للحزب. ومن شأن المساعدة الروسية في هذه الجهود أن تسمح لـ «حزب الاتحاد الديمقراطي» إنشاء طوق موالي لـ «حزب العمال الكردستاني» متاخم لتركيا يبلغ طوله 400 ميلاً.

وفي الواقع، إن كل خيار من هذه السيناريوهات سيشكل وسيلة لبوتين للانتقام من أردوغان من خلال جعله وكأنه يبدو ضعيفاً. ومع ذلك، سيكون هذا النهج خطراً لأن ردة فعل أردوغان الغريزية ستكون إعادة التأكيد على القوة التركية.

الانعكاسات على الجيش التركي ومنظمة “حلف شمال الأطلسي”

منذ أن تولى «حزب العدالة والتنمية» السلطة في عام 2002، تم إضعاف دور الجيش التركي في السياسة إلى حد كبير. وخلال محاكمات “إيرغينكون” وقضية المطرقة بين العامين 2007 و 2012، سجنت الحكومة العديد من كبار المسؤولين العسكريين حول مزاعم الضلوع في انقلاب. وعلى الرغم من أنها أفرجت عنهم لاحقاً عندما رفضت محاكم الاستئناف القضايا الخاصة بهم، قام الجيش بالانسحاب إلى حد كبير من السياسة رداً على حملة القمع.

وفي الوقت الراهن، لا يزال الجيش مستاءً على نطاق واسع من «حزب العدالة والتنمية»، ومن المرجح أن يتجنب شن أي حملات في سوريا بغض النظر عما إذا كان هدفها تصعيد الأوضاع مع روسيا أم لا – وذلك من أجل إغضاب أردوغان إلى حد ما، ولكن أيضاً لتجنب أي تدخل عسكري فوضوي. ومن الناحية العملية، يعني ذلك استمرار ظهور الاعتراضات التقنية (السياسية في الواقع) على أي من خطط «حزب العدالة والتنمية» لتعميق المشاركة التركية في الحرب في البلد المجاور. وفي حين أنه من غير المرجح أن تحفز عملية إسقاط الطائرة “سو-24” عودة الجيش العلنية إلى السياسة، إلا أنه ليس هناك شك في أن القوات المسلحة تدرك أن مثل هذه العروض الفعالة لقدراتها تميل إلى زيادة الدعم الشعبي لها بشكل كبير، وبالتالي قدرتها على مقاومة الضغوط من قبل «حزب العدالة والتنمية».

إن هذه الحسابات تترك أيضاً آثاراً على الميزانية – وما لم تقرر موسكو بصورة غير معقولة تصعيد الأوضاع إلى درجة تؤدي إلى اندلاع صراع عسكري مباشر مع تركيا، قد لا تزيد أنقرة من إنفاقها على عملياتها الدفاعية. وبدلاً من إطلاق مشاريع جديدة لحيازة الأسلحة أو تحديثها مع الولايات المتحدة والشركاء الآخرين من “حلف شمال الأطلسي”، من المرجح بقوة أن تستمر تركيا في سياستها القائمة منذ أربعة عقود، والمتمثلة في إنشاء صناعات دفاعية محلية.

ومع ذلك، فإن الحادث الأخير سيساعد أنقرة على تذكّر قيمة “حلف شمال الأطلسي” الذي انضمت تركيا إليه، أولاً وقبل كل شئ كدرع ضد “روسيا أثناء الحرب الباردة”. فبعد عملية إسقاط الطائرة، أدرك بوتين جيداً أنه ليس بإمكانه معاملة تركيا على غرار معاملته لأوكرانيا أو جورجيا – الدولتين المجاورتين اللتين غزتهما روسيا في السنوات الأخيرة، وذلك لأن تركيا عضو في “حلف شمال الأطلسي”. وهذا الإدراك سيدفع بتركيا بصورة أقرب إلى “حلف شمال الأطلسي”، بناءً على قرار أنقرة الصادر مؤخراً بإلغاء شراء أنظمة الدفاع الجوية والصاروخية الصينية التي كانت تتعارض مع مصالح أعضاء آخرين من حلف “الناتو”.

إن تبني رؤية تتمحور [حول سياسة] “حلف شمال الأطلسي” يساعد أيضاً في مكافحة المواقف العامة التركية القاسية تجاه التحالف. وقد أشارت استطلاعات رأي حديثة أجراها “مركز بيو” للأبحاث أن تركيا كانت فريدة من نوعها بين الدول الأعضاء كون غالبية مواطنيها لا يتمتعون بوجهات نظر إيجابية تجاه “حلف شمال الاطلسي”. من هنا، تساعد المواجهة مع روسيا على تغيير هذا الواقع، ربما بشكل محدود – على سبيل المثال عندما نشر “حلف شمال الأطلسي” أصول الدفاع الجوي للمساعدة في حماية تركيا خلال الأزمات الإقليمية في الأعوام 1991 و 2003 و 2012-2015، استمر العديد من المواطنين وأشخاص من النخبة في النظر إلى التحالف كأداة غربية أخرى لاستعراض القوة.

المحصلة

على الرغم من أن قرار تركيا بإسقاط الطائرة الروسية يبدو متهوراً، إلا أنه أثبت أنه يمكن لدولة ما أن تؤدي إلى تعثر بوتين إذا كانت على استعداد لتحمل المخاطر. بيد أن المخاطر لا تزال قائمة، لذا تقتضي مهمة واشنطن الأولى على العمل مع كلا الجانبين لتجنب التصعيد. ويعني ذلك الضغط في اتجاه التوصل إلى حل وسط للحرب السورية يمكن لتركيا وروسيا التعايش معه. مع ذلك، فإن أي جهد من هذا القبيل يتطلب المزيد من الانخراط المادي الأمريكي الذي يحمل في طياته مخاطر عالية. فتجنب التصعيد الخطير الذي يؤدي إلى مشاركة “حلف شمال الأطلسي” هو بالتالي أحدث مبررات واشنطن للانخراط بجدية في بلاد الشام، ويُضاف إلى قائمة طويلة تضم تدفق اللاجئين غير المستدام، والوفيات الجماعية للمدنيين، والتهديد الذي يشكله تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش»)/«الدولة الإسلامية».

 سونر جاغايتاي

معهد واشنطن