التشكيل الحكومى الجديد الذى أعلنه الرئيس التركى رجب طيب أردوغان فى أعقاب أدائه اليمين الدستورية لولاية رئاسية جديدة فى 3 يونيو 2023 الجارى، حمل العديد من الدلالات بشأن التوجهات المحتملة لسياسات أردوغان خلال السنوات الخمس القادمة على المستويين الداخلى والخارجى. فقد ضمت الحكومة الجديدة 17 وزيراً، منهم 15 وزيراً جديداً. وكانت أبرز التغييرات فى هذه الحكومة هو اختيار الرئيس أردوغان لمدير جهاز الاستخبارات هاكان فيدان وزيراً للخارجية، والمعروف عن الرجل أنه وبحكم عمله الاستخباراتى منذ عام 2015، يعد مخزن أسرار الرئيس التركى، هذا بخلاف دوره المتزايد فى “هندسة” السياسة الخارجية لبلاده خلال الأعوام الثلاثة الماضية، لاسيما سياسات التقارب مع عدد من القوى الإقليمية العربية مثل مصر والسعودية والإمارات، وسياسات الاستدارة التركية فى عدد من الملفات المهمة وفى مقدمتها الملف السورى الذى من المتوقع أن يشهد بعض المستجدات خلال الفترة المقبلة. دلالات مهمة يعكس اختيار الرئيس التركى رجب طيب أردوغان لشخص مدير الاستخبارات هاكان فيدان لشغل منصب وزير الخارجية دلالات مهمة على مستقبل السياسة الخارجية التركية خلال السنوات الخمس القادمة؛ لاسيما وأن فيدان لم يكن بعيداً عن التطورات التى شهدتها تلك السياسة مؤخراً، بل يمكن القول إن التغيير الفعلى فى سياسة أنقرة تجاه محيطها الإقليمى تحديداً كان نتاج تحركات هذا الرجل على مستوى العلاقات التركية الإقليمية خاصة ما يتعلق منها بالأبعاد الأمنية والسياسية. ومن ثم يمكن الإشارة إلى دلالات عدة لهذا الاختيار: أولها، التأكيد على أهمية الحقيبة الوزارية نفسها؛ أى الأداة الدبلوماسية التركية فى إدارة علاقات تركيا الخارجية خلال السنوات الخمس المقبلة، والتى تنم عن اتجاه تركيا “طواعية” لانتهاج سياسات “تحجيم المشكلات” وليس “تصفير المشكلات” على المستوى الإقليمى سواء فى علاقاتها الخارجية مع دول الجوار العربى، أو ما يتعلق منها بملفات الصراع المنخرطة فيها وفى مقدمتها الملفين السورى والليبى وبدرجة ما الملف العراقى. فتحجيم المشكلات يعد هو الوصف الأفضل، وذلك بالنظر إلى أن إعادة انتخاب أردوغان فى منصبه للمرة الثالثة، لا تعنى بأى حال من الأحوال “إنهاء” المشكلات التى سببتها سياساته الخارجية الحادة بصورة جذرية، بالرغم من الاستدارة التى شهدتها تلك السياسات خلال السنوات الثلاثة الماضية، وإنما تعنى أن ثمة “ضرورات” إقليمية هى التى “فرضت” على الرئيس التركى ضرورة إجراء تعديلات على أدوات ممارسة سياساته الخارجية مؤخراً وخلال السنوات المقبلة. ثانيها، أن اختيار فيدان لتنفيذ السياسة الخارجية التركية الجديدة –وهو من أحد صناع قرارها مؤخراً– ربما يشير إلى وجود نوع من “الاستمرار” فى سياسة “تحجيم المشكلات” مع الخصوم الإقليميين والدوليين مستقبلاً، بما يعنى الحفاظ على مكتسبات التغيير فى تلك السياسة التى أجراها فيدان انطلاقاً من منصبه السابق كرئيس لجهاز الاستخبارات. فالجدير بالذكر أنه كان مهندس إدارة الملفات الأمنية والاستخباراتية مع الفاعليين الدوليين كروسيا والولايات المتحدة، وكذلك مع الفاعليين الإقليميين، حيث ساهم بخبرته فى فتح باب التقارب والمصالحات مع خصوم تركيا الإقليميين، وهذا فى حد ذاته يصب فى صالح المستقبل السياسى لفيدان نفسه، وهو ما ينقلنا إلى الحديث عن مستقبل الخلافة السياسية لأردوغان باعتبار أن السنوات الخمس المقبلة تعد السنوات الأخيرة فى مسيرة حكمه، ما يعنى أن “إرث الأردوغانية” الثقيل بات فى حاجة ماسة للحفاظ عليه لاستكمال مسيرة حزب العدالة والتنمية فى سدة الحكم بتركيا. وهذا يفرض على أردوغان البدء فى إعداد من سيخلفه سياسياً للحفاظ على هذا الإرث، ويصبح الرئيس التركى – وفقاً لهذا التصور المحتمل- حاضراً في معادلة العمل السياسى والحزبى فى تركيا حتى بعد انتهاء فترة حكمه، ولكن من خلف الستار. ثالثها، يتعلق بمرتكزات إدارة السياسة الخارجية التركية خلال المرحلة المقبلة من منظور الهاجس الأمنى؛ فالجدير بالذكر أن تركيا تعتمد فى صياغة وممارسة سياستها تجاه العالم والإقليم على عدة مرتكزت أهمها: استقلالية القرار الخارجى، وممارسة سياسة خارجية براجماتية تقوم على تحقيق التوازن فى إدارة المصالح التركية، وتفعيل أدوات قوتها الإقليمية بالمزج بين أدوات عملها الدبلوماسية والعسكرية تجاه ملفات التباين الإقليمى، مع حضور واضح فى كل هذه المرتكزات لهواجس أمنها القومى، وبالتالى اختيار شخصية شغلت منصباً سياسياً/ أمنياً مثل هاكان فيدان، يعنى استمرار صياغة تركيا لسياستها الخارجية على أسس تعزز من حالة الارتباط بين الأبعاد الأمنية والسياسية عند محاولات أنقرة إعادة تدوير سياستها الخارجية؛ لاسيما فى الملفات ذات الطبيعة الجيوسياسية، والملفات ذات المصلحة الاقتصادية، فضلاً عن إشكاليات عضويتها فى الناتو على ضوء صفقات نظام الدفاع الصاروخى الروسى “أس 400” مع روسيا، والعلاقات المتأرجحة مع الولايات المتحدة على خلفية الدعم الأمريكى للأكراد السوريين، ورفض واشنطن تزويد أنقرة بمقاتلات “إف-16″، والموقف التركى من ضم السويد إلى الناتو، إلى جانب صعوبات وإشكاليات العلاقات التركية-الأوروبية على ضوء معضلات انضمام تركيا للاتحاد الأوروبى. هذا كله بخلاف “خصوصية” العلاقة بين تركيا وروسيا ودورها كوسيط بين الأخيرة وبين الغرب على خلفية الأزمة الأوكرانية، وهو ما يجعل تركيا فى العهدة الثالثة لأردوغان بالنسبة للغرب “شريكاً مهماً”، لكنه فى الوقت نفسه “شريك صعب” له حساباته السياسية التى تتعارض فى كثير من الأحيان معه (أى الغرب). ومن ثم فإن وجود فيدان بخلفيته الأمنية الاستخباراتية من شأنه أن يعزز “إدارة” الملفات الخلافية لتركيا بشكل أكثر مرونة، وربما أكثر فعالية مستقبلاً، مع الاحتفاظ بالثوابت والمرتكزات التى وضعها الرئيس أردوغان كإطار حاكم لسياسات تركيا الخارجية. التأثير فى الملف السورى يأتى الملف السورى فى مقدمة الملفات الإقليمية التى تتأثر بالسياسات التركية على خلفية حالة الانخراط العسكرى التركى فى الشمال السورى من ناحية، والعلاقات مع الولايات المتحدة الداعمة لقوات سوريا الديمقراطية من ناحية ثانية، والتنسيق التركى-الروسى فى الملف نفسه من ناحية ثالثة، بخلاف ملف اللاجئين وهو الأبرز من حيث الأهمية الآنية بالنظر إلى تأثيره فى السياسة الداخلية التركية فى ضوء الأزمة الاقتصادية الحادة التى تعانى منها، خاصة وأن استطلاعات الرأى التى أجريت قبل الانتخابات التركية الأخيرة عكست تزايد حدة الرفض الشعبى التركى لوجود اللاجئين السوريين واعتبارهم المسبب الرئيسى للأزمة الاقتصادية التى تمر بها تركيا حالياً. لذا كان ملف اللاجئين السوريين هو حلبة المبارزة الرئيسية بين أردوغان والمعارضة التركية خلال الانتخابات. وبغض النظر عن التفاصيل الكثيرة لهذا الملف يمكن القول أن حضور هاكان فيدان اللافت لاجتماعات وزراء دفاع روسيا وتركيا وإيران وسوريا فى موسكو خلال إبريل 2023، باعتباره مديراً للاستخبارات التركية وقتها، كان له دلالته بشأن التوجهات التركية الجديدة حيال الملف السورى ككل، وفى مقدمته ملف العودة الطوعية للاجئين السوريين. فمن المتوقع أن يشهد ملف اللاجئين السوريين نوعاً من التغيير فى سياسة تركيا حياله، إلا أنه قد يكون تغييراً محدوداً ومحسوباً فى سياقاته الأمنية والسياسية. لكن فى الوقت نفسه لن يستطيع الرئيس التركى – فى عهدته الثالثة والأخيرة – إغفال موقف الرفض الشعبى لاستمرار وجود اللاجئين السوريين – فى ضوء نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة- فضلاً عن الضغوط التى ستمارسها عليه أحزاب المعارضة فى الملف نفسه. هذا التغيير المحدود سيقوم على تفعيل برامج “العودة الطوعية” وليست “القسرية” للاجئين ومضمونه إعادة حوالى مليونى لاجئ سورى تدريجياً إلى المناطق الآمنة التى أقامتها تركيا فى الشمال السورى بفعل عملياتها العسكرية هناك. والعودة الطوعية وفقاً لما أعلنه أردوغان تقوم على إعداد البنية التحتية – بدعم من منظمات إغاثة دولية – المؤهلة للعودة الآمنة لسوريين داخل الحدود السورية على مدار السنوات الخمس المقبلة، على العكس من خطة المرشح المعارض كمال كليجدار أوغلوا التى كانت تروج لإعادة اللاجئين السوريين خلال عامين على الأرجح. وهنا تحضر “المرونة” التى من المتوقع أن يتعامل بها فيدان مع الملف؛ فثمة مؤشرات تقول بأن المقاربة التركية الجديدة للملف ستقوم على “تقييد” أنقرة للمزايا الممنوحة للاجئين السوريين حال نجاحها فى التوصل لـ”تفاهمات أمنية” مشتركة مع النظام السورى تقضى وتسمح بعودة السوريين لأراضيهم؛ ومن المحتمل أن تشمل هذه التفاهمات المنطقة الحدودية فى الشمال السورى، وكذلك الشمال الغربى فى إدلب. ولكن ولأن مسار التقارب التركى مع النظام السورى لايزال تحيطه التكنهات نتيجة تمسك النظام السورى بخروج تركيا من الشمال السورى وإنهاء دعمها للمعارضة، لاسيما تلك التى تتمركز فى إدلب، فلم يؤد الاجتماع الأمنى الرباعى الروسى-الإيرانى-التركى-السورى إلى تذليل العقبات الفعلية بين الطرفين. وبالتالى من المتوقع أن تكون خطوات التقارب التركى-الروسى خلال الفترة المقبلة “بطيئة” لكن فرصها ستكون قائمة وربما متزايدة، وذلك بالنظر إلى وجود “المتغير الروسى” فى علاقة الطرفين، باعتبار أن روسيا تتمتع بعلاقات فاعلة ووازنة مع الجانبين. وفى حالة ارتفاع وتيرة التقارب التى تبديها تركيا تجاه سوريا وصولاً إلى مرحلة استئناف العلاقات الثنائية، فإن ذلك سيتيح المجال أمام روسيا للترويج لقدرتها على إنهاء أحد أهم الصراعات المسلحة فى المنطقة العربية، وهو بالتبعية ما سيزيد من الحضور الروسى لدى دول المنطقة التى دخلت “طواعية” فى مسار من التهدئة الإقليمية مؤخراً، وهى التهدئة التى فرضتها حالة الانشغال الأمريكى شبه الكاملة بالحرب فى أوكرانيا من ناحية، ومواجهة التهديدات الاستراتيجية فى جوارها الإندو-باسيفيكى من ناحية ثانية، ومن ثم تراجع ترتيب المنطقة العربية فى أجندة السياسة الخارجية الأمريكية من ناحية ثالثة. هذا فضلاً عن أن فوز أردوغان وبقائه لمدة خمسة سنوات قادمة يوفر “فرصاً مواتية” لموسكو التى “درست” تماماً شخصية أردوغان وسياساته، وبالتالى استمرار وجوده فى السلطة يعنى بقاء الوضع فى الملف السورى على ما هو عليه، مع إدخال بعض التعديلات التى لا تمثل تغييراً جذرياً يتطلب دوراً أكثر إنهاكاً لروسيا فى المعادلة السورية وسط انشغالها بحربها ضد أوكرانيا. وثمة رأى يقول بأن تركيا بعد الانتخابات قد تمارس ضغوطاً على المعارضة السورية لقبول تسوية ما مع النظام السورى، مؤداها قبول المعارضة السورية الخروج من الشمال السورى والشمال الغربى، مقابل الحصول على ضمانات أمنية من ناحية، وضمانات تخص العودة الآمنة للاجئين السوريين داخل حدود دولتهم من ناحية ثانية. وبالرغم من صعوبات العودة الشاملة والسريعة للعلاقات بين تركيا وسوريا، وفقاً للمعطيات السابقة، إلا أن اتفاق الرباعى الروسى-الإيرانى-التركى-السورى على ضرورة “تحييد” وربما “إخراج” الولايات المتحدة من الشمال السورى، مثّل المصلحة “الأهم” للأطراف الأربعة. وهنا تحديداً ثمة العديد من الاجتهادات لمفكرين ومهتمين بالشأن التركى تقول بأن وجود هاكان فيدان فى وزارة الخارجية يعنى استثمار رصيد الرجل الذى راكمه حينما كان مديراً للاستخبارات التركية وتحديداً فى شأن تفعيل الخطة السرية لاجتماعات الرباعى فى موسكو خلال أبريل الماضى، والتى تعتمد على إقامة تركيا علاقات فاعلة مع دمشق بمساعدتها على فرض سيطرتها الأمنية على مناطق الإدارة الذاتية للأكراد التى تتمتع بدعم من الولايات المتحدة، باعتبار أن وجود قوات النظام السورى بالقرب من الحدود التركية يحقق–فى ظل التقارب التركى السورى–مصلحة أمنية لتركيا، إلى جانب الاتفاق على عدد من الإشكاليات الخاصة بشأن ملف اللاجئين. وهنا تكون أنقرة –ووفقاً لرؤى وزير الخارجية الجديد- قد سلمت الأكراد السوريين وتحديداً مناطق الإدارة الذاتية التى تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية للنظام السورى مباشرة، بما يوفر عليها (أى أنقرة) عبء العمليات العسكرية المتوالية التى تشنها ضد تلك القوات من آن لآخر، والتى تضع علاقاتها مع الولايات المتحدة وروسيا على حد سواء فى أزمة فعلية. يضاف إلى ذلك أن حالة التقارب العربى مع النظام السورى، وعودة سوريا للجامعة العربية من شأنها أن تدخل كمعطى على معادلة التفاعل التركى مع سوريا خلال فترة حكم أردوغان الثالثة، بل من الممكن أيضاً أن تساهم فى إعادة صياغة حساباته فى هذا الشأن. وهذا تحديداً يفرض قيوداً عديدة على الجانب التركى فى توجهاته حيال دمشق، خاصة وأن تركيا لاتزال راغبة فى الحفاظ على مكتسبات التنسيق الثلاثى بينها وبين كل من روسيا وإيران فى سوريا، وهما الداعمين الفعليين للنظام فى دمشق. مما سبق يمكن القول إن تولى هاكان فيدان وزارة الخارجية بعد فوز الرئيس التركى رجب أردوغان بفترة ولاية ثالثة وأخيرة، وبالنظر إلى الدور الفاعل الذى قام به فيدان كمدير للاستخبارات التركية سابقاً، من شأنه تعزيز مسار المراجعات التى تجريها تركيا على تفاعلاتها فى ملفات السياسة الخارجية، وإن كانت تلك المراجعات وما سينتج عنها من مستجدات لن تكون “حادة” أو “سريعة” فى نتائجها، لكنها فى الوقت نفسه ستشكل مساراً مختلفاً عما كانت عليه السياسة الخارجية التركية قبل ثلاثة أعوام على كافة مستويات التفاعل التركى مع المحيط الإقليمى، وفى مقدمته الملف السورى بكل معضلاته وإشكالياته الأمنية والسياسية.