في أعقاب زيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس للصين في الـ15 من يونيو (حزيران) الجاري دار سؤال مهم في الأوساط الفلسطينية والإسرائيلية حول مدى ما يمكن أن تقوم به الصين في الشرق الأوسط لاستئناف الاتصالات الفلسطينية – الإسرائيلية المجمدة منذ سنوات، التي لا تلوح أية فرص حقيقية لها في ظل الموقف الأميركي الراهن الذي لم يطرح مقاربة أو رؤية، وهو الأمر الذي يفتح الباب أمام الصين للعمل والتحرك، بخاصة أن الصين نجحت في إعادة تقديم نفسها إلى الواجهة السياسية إقليمياً ودولياً.
مواقف متداخلة
صينياً: تسعى بكين إلى إعادة دفع نفسها إلى الواجهة الدولية مجدداً، بخاصة أن المعطيات والظروف الدولية تسمح لها بالتحرك في هذا الاتجاه، فالجانب الأميركي عازف عن التدخل والانخراط في الشرق الأوسط، ليس فقط في الملف الفلسطيني – الإسرائيلي، وإنما أيضاً في الإقليم بصورة عامة، وليست لديه رؤية مجددة في هذا المضمار، إذ اكتفى بتأمين وجوده في المناطق والبؤر التي ترى الاستراتيجية الأميركية، المعلنة من الرئيس جو بايدن في أغسطس (آب) من العام الماضي أنها مهمة ولها الأولوية والسبق في التعامل.
من ثم تجمد التحرك الأميركي المجدد والقادر على أن يطرح نفسه في مواجهة مد صيني لافت بدأ بصورة مباشرة في لعب دور الوسيط المباشر بين إيران والسعودية وأعاد تقديم نفسه بصورة كبيرة، واللافت أنه في زيارة الرئيس محمود عباس أخيراً أعلن وزير الخارجية الصيني تشين جانغ أن الصين تولي أهمية كبيرة للقضية الفلسطينية، وستواصل دعم محادثات السلام، كما أبدى مسؤولون كبار في الصين استعدادهم للعب دور في القضية، وتسهيل محادثات السلام بين السلطة الفلسطينية وحكومة إسرائيل.
والرسالة الواضحة هي أن الصين قريبة مما يجري، ولا تمانع أو تتردد في التعامل المباشر معه، وهو ما أكده رسمياً المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية من أن الصين تدعم بقوة وعلى الدوام قضية الشعب الفلسطيني العادلة واستعادة حقوقه الوطنية، والمعنى أن هناك فرصة جيدة يمكن أن تطرحها الصين بصرف النظر عن تجمد المشهد الراهن بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وتوقف كل المحاولات التي يمكن أن تحرك المشهد سياسياً في ظل وجود الحكومة الإسرائيلية الراهنة.
فلسطينياً: تبدو الفرصة متاحة أمام الرئيس محمود عباس للبحث عن شريك وطرف دولي للتحرك في ظل غياب الوسيط الأميركي وعدم مقدرته وعزوفه عن التحرك مع تجمد المشهد الحالي، وعلى رغم لقاءات المسؤولين الفلسطينيين ونظرائهم الأميركيين من المستويين السياسي والأمني، فإن الإدارة الأميركية ركزت على استمرار التنسيق الأمني بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي باعتباره مطلباً مهماً ومطروحاً من الحكومة الإسرائيلية.
من خلال هذا التجاوب مع الجانب الإسرائيلي سيقوم الوسيط الأميركي بضخ المساعدات الأميركية التي جمدت في توقيتات محددة، كما وعد بفتح مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، وافتتاح القنصلية الأميركية في القدس الشرقية، وغيرها من الوعود التي أطلقتها الإدارة الأميركية.
ولهذا فان الجانب الفلسطيني يتحرك تجاه الصين بعد أن تيقن من أن الإدارة الأميركية تفتقد الإرادة والعزيمة للتعامل أو الضغط على الجانب الإسرائيلي بدليل عدم توجيه الدعوة لرئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو لزيارة البيت الأبيض، على عكس ما كان يجري بعد إعادة انتخاب أي رئيس حكومة لإسرائيل. وفضلت واشنطن أن توجه الدعوة للرئيس الإسرائيلي هرتسوج كي تبقي على شعرة معاوية مع الحكومة الإسرائيلية التي أبدت تحفظات على تشكيلها وطلبت عدم تولي وزراء بالاسم.
من ثم فإن الجانب الفلسطيني الذي يرى أن الشريك الروسي الذي كان أحد رعاة عملية السلام في مدريد منهك تماماً في حرب أوكرانيا وغير قادر على التعامل الفاعل في الإقليم مكتفياً بحضوره السياسي والأمني في الملف السوري والليبي، ولا يريد أن يدخل في مواجهات خاصة بعملية السلام في الشرق الأوسط، على رغم أنه طرح من قبل ما يعرف بصيغة مؤتمر موسكو للسلام في الشرق الأوسط، التي نجحت الولايات المتحدة في تجميده وعدم التجاوب مع طرحه، وهو الأمر نفسه الذي كررته خلال مؤتمر باريس للسلام في الشرق الأوسط، في إشارة مهمة إلى أنها الوسيط الرئيس والوحيد التي يجب على كل الأطراف التعامل معه، ومن دون ذلك لا يوجد وسيط آخر أو مطروح.
يأساً من واشنطن
في المقابل ظل التحرك الفلسطيني قائماً في البحث عن طرف دولي، أو على الأقل التلويح بإمكان توسيع نطاق الوساطة لتكون قائمة في ظل تغييب الطرف الأميركي للرباعية الدولية، التي كانت أحد مسارات التحرك المهمة التي عطلتها الولايات المتحدة أيضاً لتنفرد بمسار التفاوض، وهو ما نوقش بين الرئيسين الفلسطيني والرئيس الصيني شي جينبينج، ويقضي بإمكان التحرك في مسارات جديدة بحثاً عن آليات للضغط علي الجانب الإسرائيلي، على رغم التقييمات الفلسطينية بأنه لا يمكن استبدال الحليف الأميركي بحليف صيني أو دولي.
إسرائيلياً: لا تزال حكومة تل أبيب تتحرك في اتجاهات محددة، ولا تريد أن تدخل في مسار لاستئناف الاتصالات مع الجانب الفلسطيني لأسباب عدة.
فمكونات الائتلاف الراهن وبرامجه لا تحمل أية رؤية أو تصور لاستئناف الاتصالات السياسية مع الجانب الفلسطيني، والاكتفاء باللقاءات الأمنية التي يجريها المسؤولون الفلسطينيون ونظراؤهم من الجانب الإسرائيلي، والتركيز على الأمن وليس السياسة، مع استمرار مزيد من الممارسات الأمنية واتباع سياسة اجتياح المدن الفلسطينية، والعمل في اتجاه واحد بهدف لجم المشهد الأمني مع الإعلان المتكرر باستئناف سياسة الاستيطان في القدس ومدن التماس، وذلك في إشارة لعدم إسقاط أي خيارات في برنامج الائتلاف بل والعمل على حسم الصراع عبر إجراءات تنفيذية مهمة ومرحلية، واستثمار حال التباين من دون الاختلاف الحقيقي مع الإدارة الأميركية.
مع المضي قدماً في استصدار القوانين السيئة السمعة في الكنيست، والعمل على تهيئة الأوضاع مع الجانب الفلسطيني بأن التهدئة في مقابل التهدئة، والأمن في مقابل الأمن، والتركيز على مقاربة غزة أولاً باعتبارها مهدداً رئيساً للأمن القومي الإسرائيلي، مع العمل على تحييد جبهة رام الله للانتباه إلى مهددات جبهة الشمال والجبهة الحدودية الراهنة مع مصر بعد الحادثة الحدودية الأخيرة.
ومن ثم فإن إسرائيل لديها أولوياتها خارج سياق ما تخطط له السلطة الفلسطينية بالانفتاح على شريك أو وسيط جديد ممثل في الصين التي أبلغ وزيرها للخارجية تشين جانغ في أبريل (نيسان) الماضي نظيريه الفلسطيني والإسرائيلي استعداد الصين للمساعدة في محادثات السلام وفقاً لمقاربة حل الدولتين.
والرسالة هي أن الصين تطرح نفسها كوسيط في ظل تقبل فلسطيني لافت بعد أن يأست السلطة الفلسطينية من الموقف الأميركي، واستثماراً للتحدي الصيني للولايات المتحدة الذي لن يقتصر على دخول الصين على خط الوساطة المأمولة، بل أيضاً لدعم الصين الجهود الفلسطينية في الأمم المتحدة ومحكمة لاهاي، والواضح أن إسرائيل تتخوف فعلياً من دخول الصين على الخط في ملف الوساطة لاعتبارات متعلقة بالقدرات الصينية وتنوع مصادر حركتها، ورغبة الحزب الشيوعي في لعب دور مركزي بقضايا العالم وعدم ترك الساحة الدولية للجانب الأميركي.
وفي إشارة مهمة إلى أن الصين مقبلة على ممارسة دور حقيقي وفاعل، ليس في الصراع العربي – الإسرائيلي فقط بل وفي ملفات الإقليم سواء في الشرق الأوسط أو خارجه، وتدرك الحكومة الإسرائيلية أن مستويات التعاون التجاري والاستثماري بل والأمني والعسكري، وهو ما يزعج الإدارة الأميركية، يدفع بالصين للعمل والضغط على إسرائيل للتجاوب مع طرحها لاستئناف عملية السلام، ليس من خلال الصين فقط، بل من خلاب الرباعية الدولية، بخاصة وأن روسيا ستنضم للموقف الصيني في هذا الإطار، كما أن فرنسا أيضاً لديها الرغبة والقدرة على التعامل في ملف الوساطة الدولية وليس الأميركية.
والرسالة هي أن أي تحرك صيني مهم، سواء على مستوى ثنائي أو متعدد، في إطار كسر حال الاحتكار الأميركي للوساطة الأميركية في الشرق الأوسط، وفي ظل تخوفات إسرائيلية واعتراضات أميركية على ما يتم من الجانب الصيني، وحال التحفظ الأميركي على مواقف الحكومة الإسرائيلية الراهنة وتوجهاتها، بل وفي إطار التجاذب بين الإدارة الأميركية وشخص رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، وهو ما قد ينقل رسائل في اتجاهات عدة.
الخلاصات الأخيرة
بصرف النظر عن القدرات الصينية وإمكاناتها في التعامل كوسيط محتمل ومطروح، وتحفظ الولايات المتحدة على أي تحرك صيني أو روسي أو فرنسي في ملف الشرق الأوسط، فإن معطيات مهمة تطرح نفسها، أولها عجز الإدارة الأميركية عن ممارسة دور مباشر وفرض تصوراتها على الحكومة الإسرائيلية الراهنة، وهو ما يدفع لاستئناف الاتصالات السياسية وعدم اقتصارها على الجوانب الأمنية الراهنة التي تدفع في اتجاهات عدة حال تجدد الاشتباكات الأمنية في الضفة الغربية، وأيضاً عدم اقتصارها على المواجهات الدورية بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية في قطاع غزة.
من ثم فإن التدخل الصيني الراهن والتحرك الفلسطيني المدروس والمخطط سيدفع بالفعل إلى تحريك المياه الراكدة بصرف النظر عن نجاح أو فشل المسار الصيني، وسيظل الجانب الفلسطيني يبحث عن مسارات دولية وليست صينية فقط، للعمل على استئناف الاتصالات مع الجانب الآخر من دون أن يسقط بالفعل جميع الخيارات الأخري من حساباته، وهو الأمر الذي قد يؤدي إلى مزيد من التحركات الإسرائيلية في المقابل، التي ستعمل على تأكيد أن الوسيط الأميركي وحده الموثوق فيه، الذي لا يمكن استبداله أو تنحيته، لأن الحكومة الإسرائيلية الراهنة – بصرف النظر عن حال التباين الحالية مع الإدارة الأميركية – لن تعطي ثقتها لأي طرف دولي، وليس للصين فقط، أو حتى العودة للرباعية الدولية كإحدى المرجعيات المهمة والرئيسة التي يمكن التحرك من خلالها.
وبصرف النظر عن التوجهات الصينية الدولية الجديدة في العالم، فإن الصين تسجل حضوراً متجدداً في الشرق الأوسط لن يقتصر على محاولات لعب دور في استئناف الاتصالات الفلسطينية – الإسرائيلية فقط، بل في أمن الشرق الأوسط، سواء في الخليج أو تجاه دول الجوار العربي، وفي اتجاهات الجنوب الشرق أوسطي، مما سيزعج الولايات المتحدة وإسرائيل ويدفعهما في توقيت معين نحو الدخول في مقايضات سياسية تتشابه مع ما يجري في جنوب شرقي آسيا من تفاعلات وتطورات مهمة بصرف النظر عن الحسابات والمصالح الكبرى لكل الأطراف المعنية.
اندبندت عربي