تنتقد وسائل الإعلام الأمريكية والأوروبية الحكومة الروسية لنشرها الأكاذيب وترويجها للأخبار المختلقة وتشويهها لوعي الناس بشأن ما يدور داخل الدولة مترامية الأطراف وما يجري على حدودها الجنوبية وفي ساحات القتال داخل أوكرانيا. غير أن وسائل الإعلام الغربية ليست ببريئة من ذات الاتهامات، وليست ببعيدة عن تبني مصالح سياسية بعينها تؤثر على تغطيتها للأحداث والتطورات المتسارعة في عالم اليوم.
خلال ساعات تمرد ميليشيا فاغنر على السلطات العسكرية الروسية، انتشرت في الصحف والمواقع الإخبارية الإلكترونية والمحطات التليفزيونية الأمريكية والأوروبية مبالغات عديدة عن سيطرة الميليشيا على مواقع حصينة في أكثر من مدينة، وعن ترحيب السكان المحليين بمقاتليها، وعن الطريق المفتوح أمامها في اتجاه موسكو، وعن وجود أعوان وحلفاء داخل الأجهزة الأمنية والنخب السياسية والمالية، بل والكرملين نفسه.
ووضعت وسائل الإعلام الغربية نظريات متكاملة لتفسير ما ادعت حدوثه. قيل، أولا، أن التردي المريع في الجيش الروسي الذي تعاني وحداته الأمرين في ساحات القتال داخل أوكرانيا رتب عدم قدرته على صد هجوم حفنة من المرتزقة. قيل، ثانيا، أن انهيار معنويات الجنود والضباط الروس بسبب طول أمد الحرب في أوكرانيا دفعهم إلى إلقاء السلاح والاستسلام لميليشيا فاغنر. قيل، ثالثا، أن السكان المحليين رحبوا بالمرتزقة أملا في تغيير رأس الحكم في موسكو واستبداله برجل آخر ينهي التوترات والحروب والعقوبات ويعيد روسيا إلى الصداقة مع الغرب. قيل، رابعا، أن عناصر داخل الأجهزة الاستخباراتية ونافذين في النخب السياسية والمالية وداخل القصر الجمهوري في الكرملين يبحثون عن بديل للرئيس الروسي فلاديمير بوتين وأنهم شجعوا ميليشيا فاغنر على التمرد والتحرك في اتجاه موسكو بهدف التخلص منه.
وبعد ساعات قليلة، أي بعد الساعات التي استغرقها التمرد، اتضح زيف كافة تلك الادعاءات. فميليشيا فاغنر لم تواجه وحدات من الجيش الروسي، بل استغلت الفراغ العسكري في بعض المناطق للسيطرة عليها والتحرك على نحو خاطف في اتجاه موسكو. والسكان المحليون لم يرحبوا بالمرتزقة لدى دخولهم لبعض المدن الجنوبية، بل رحبوا بمغادرتهم لها دون قتال حقنا للدماء. والثابت، ووفقا لكافة استطلاعات الرأي العام التي تجريها أيضا مراكز بحثية غربية، أن أغلبية الشعب الروسي لم تغير دعمها لبوتين ولم تغير موقفها المؤيد «للعملية العسكرية الخاصة» في أوكرانيا.
وسائل الإعلام الغربية وجدت في تمرد ميليشيا فاغنر وأحاديث ضعف بوتين وانهيار سلطته ضالة منشودة للتغطية على سقف التوقعات المرتفع للغاية الذي صنعته للهجوم العسكري المضاد الذي يشنه الجيش الأوكراني منذ أسابيع
والثابت أيضا أن الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية الكبيرة ينظر إليها روسيا على أنها دول معادية تهدد أمنهم القومي، وتسلح أعداءهم، وتتنصل من توافقات الماضي القريب بشأن عدم تمدد حلف الناتو إلى الجوار المباشر، وتفرض عقوبات ظالمة هدفها تدمير الاقتصاد. لا ترغب أغلبية المواطنات والمواطنين الروس في العودة إلى أحضان الغرب، ولا تعارض ابتعاد بوتين عن صداقة الولايات المتحدة وأوروبا التي لن تكون نتيجتها سوى التبعية. وأحاديث الأعوان والحلفاء والداعمين داخل أجهزة ومؤسسات الدولة الروسية وبين أوساط النخب السياسية والمالية لم تكن سوى إعادة إنتاج وترويج لأوهام الغرب عن «انقلاب القصر» الذي يعد له ضد بوتين وعن بحث النخب عن بديل له وعن تراجع سيطرته على مفاصل الحكم وضعف سلطته، وهي تلك الأوهام التي يروج لها غربيا منذ سنوات وتصاعد تداولها منذ الغزو الروسي لأوكرانيا.
والحقيقة أن وسائل الإعلام الغربية وجدت في تمرد ميليشيا فاغنر وأحاديث ضعف بوتين وانهيار سلطته ضالة منشودة للتغطية على سقف التوقعات المرتفع للغاية الذي صنعته للهجوم العسكري المضاد الذي يشنه الجيش الأوكراني منذ أسابيع ولم يسفر إلى اليوم عن تغيير الأوضاع على الأرض في ساحات المعارك في الشرق والجنوب. رفع الغربيون سقف التوقعات مؤكدين قرب هزيمة القوات الروسية، والاستعداد الكامل للقوات الأوكرانية لتوظيف السلاح الغربي المتفوق لتحقيق النصر، وقلق بوتين وحكومته من نتائج الهجوم المضاد. وعندما اتضح خلال الأسابيع الماضية تماسك مواقع القوات الروسية وكون القدرات الأوكرانية غير قادرة على إحداث تغيرات عسكرية سريعة على الأرض، صمت الغربيون قليلا وعادت جزئيا إلى الواجهة تحليلات جنرالات أمريكيين وأوروبيين سابقين يدفعون بحتمية طول أمد الحرب وباستحالة انهيار الجبهة الروسية. لذا، كان تمرد فاغنر بالنسبة للأمريكيين والأوروبيين فرصة مواتية لإعادة إنتاج أحاديث الانهيار الروسي، من الداخل وفي الطريق إلى موسكو ووصولا إلى رأس الكرملين وليس في ساحات القتال مع الجيش الأوكراني.
تناسى الإعلام الغربي أنه يتابع تمرد ميليشيا كان يتهمها بارتكاب جرائم حرب قبل فترة ليست بالبعيدة وفي أكثر من مكان من سوريا وليبيا إلى أوكرانيا، وأن التهليل لقائد الميليشيا يفغيني بريغوجين باعتباره محررا محتملا لموسكو وروسيا كلها من قبضة بوتين ليس سوى ممارسة بائسة المحتوى ومفضوحة النوايا. ولأن التمرد انتهى بعد ساعات قليلة وعاد مرتزقة فاغنر إلى قواعدهم ونقل بريغوجين إلى بيلاروسيا، انقلب الإعلام الغربي على تهليله المحرر المحتمل وعاد الرجل لهويته كقائد ميليشيا متورط في جرائم ويقتل ويدمر ويخرب بالتعاون مع الأجهزة العسكرية والأمنية في موسكو ولمن يدفع لخدماته مليارات الدولار.
ولأن التمرد انتهى دون إراقة دماء ودون لحظة عدم استقرار ممتدة في روسيا، عادت أصوات السياسة ووسائل الإعلام الأمريكية والأوروبية سريعا إلى ادعاء تراجع الروس في ساحات القتال مع الأوكرانيين، وإلى التشكيك في تماسك حكم بوتين الذي لم يكن ليقبل في الماضي بالتمرد عليه أو بالخيانة والطعن في الظهر (تصريحات وزير الخارجية الأمريكي بلينكن قبل يومين). ولأن الإنهاء السريع لتمرد ميليشيا فاغنر، والميليشيات بحكم طبائع الأمور هي محاولات تمرد تتحرك على الأرض، يدلل موضوعيا على عكس المروج غربيا، أي على تماسك حكم بوتين الذي نجح في إنهاء تمرد مسلح دون قتال، نسب الغربيون إنهاء التمرد لدور الرئيس البيلاروسي لوكاشينكو الذي يتحول الآن، دون أدنى درجات القراءة الموضوعية وبعبث الغربيين المعتاد، إلى صانع الرؤساء في موسكو.
ليس في التغطية الإعلامية الغربية لتمرد الساعات القليلة لفاغنر ولبريغوجين سوى الكثير من السياسة والكثير من الأخبار المختلقة والكثير من الأوهام والقليل للغاية من القراءة الموضوعية للأحداث والتطورات التي شهدتها روسيا قبل أيام.
القدس العربي