خسائر بوتين وروسيا من تمرد بريغوجين

خسائر بوتين وروسيا من تمرد بريغوجين

مبدئياً «تمكّن» رئيس بيلوروسيا لوكاشينكو من نزع فتيل الحريق وسحب زعيم مجموعة فاغنر إلى عاصمته مينسك بانتظار تقرير مصيره النهائي من قبل بوتين. وانتهت بذلك الأربع وعشرين ساعة التي هزت الكرملين، إذا أردنا استعارة عنوان الكتاب الشهير «عشرة أيام هزت العالم» الذي أرخ فيه الصحافي الأمريكي جون ريد لبداية الثورة البوليشفية في العام 1917.
استعادة هذه الثورة ليست اعتباطية أو قائمة على تشابه شكلي بين الحدثين، فقد اعتبر بوتين أن تلك الثورة التي قلبت موازين القوى العالمية وافتتحت حقبة جديدة في التاريخ العالمي «طعنة في ظهر روسيا» لحرمانها من ثمار انتصاراتها في الحرب العالمية الأولى. وكذلك يعتبر بوتين حركة الغلاسنوست والبيروسترويكا التي أطلقها الزعيم السوفييتي الراحل غورباتشوف طعنة ثانية في الظهر أدت إلى تفكك الإمبراطورية السوفييتية، وأخيراً وصف بوتين تمرد فاغنر بالمثل، أي كطعنة ثالثة في الظهر، استطاع إجهاضها ببرودة أعصابه وعدم انجراره لمواجهة عسكرية كان من شأنها أن تؤدي إلى ضعضعة وضع نظامه بصورة جدية، وبخاصة أن الأمر يجري أثناء الحرب على أوكرانيا.
غير أن الخسائر الكبيرة وقعت، على رغم تجنب المواجهة مع مجموعة فاغنر. فصورة بوتين كرجل روسيا القوي المسيطر على كل شيء قد اهتزت بشكل جدي، ليضاف إلى صورة الجيش الروسي كـ»أقوى جيش في العالم» التي تمرغت في أوحال المغامرة الأوكرانية الصعبة، حتى لا نقول الفاشلة فقط لأنها لم تنته بعد. فقبل كل شيء لم يأتِ تمرد بريغوجين كعاصفة غير متوقعة في سماء صافية، بل إن الرجل رفع من نبرة انتقاداته العنيفة لقيادة الجيش الروسي طوال الأشهر الماضية، ولم يحرك بوتين ساكناً تجاه ذلك، ربما لأنه توقع أن تجاهل تلك الانتقادات سيؤدي إلى خبوّها مع الزمن، من غير أن يتكلف فيتدخل لتهدئة غضب الرجل الذي كان من أقرب مقربيه. كان واضحاً للقاصي والداني أن الصعوبات العسكرية التي تعاني منها «العملية العسكرية الخاصة» هي السبب في تبادل الاتهامات بتحميل المسؤولية بين القادة العسكريين، وبصورة رئيسية بين قائد مجموعة فاغنر من جهة ووزير الدفاع شويغو ورئيس الأركان غيراسيموف من جهة أخرى، وكان عدم حسم بوتين لهذا الجدل المتواصل عاملاً مهماً في وصول الأمور إلى حد تمرد فاغنر، وبخاصة بعدما اشتدت ضغوط وزير الدفاع عليه لتفكيك مجموعة فاغنر وضم أفراده إلى الجيش الروسي، في الوقت الذي يرى فيه بريغوجين، بحق، أن مجموعته من المرتزقة هم أبطال الانتصارات العسكرية الجزئية في الحرب، وبخاصة في معارك منطقة باخموت.

أن الخسائر الكبيرة وقعت، على رغم تجنب المواجهة مع مجموعة فاغنر. فصورة بوتين كرجل روسيا القوي قد اهتزت بشكل جدي، ليضاف إلى صورة الجيش الروسي كـ»أقوى جيش في العالم» التي تمرغت في أوحال المغامرة الأوكرانية الصعبة

ثم جاء إعلان بريغوجين تمرده زاعماً أن الجيش الروسي قام بقصف قواته في باخموت، وأطلق ما أسماه «مسيرة العدالة» فاجتازت قواته الحدود إلى الداخل الروسي، وخلال ساعات قليلة سيطر بلا قتال على مواقع مهمة للجيش والاستخبارات في مدينة روستوف التي تقاد منها الحرب على أوكرانيا، ومضى من هناك شمالاً في اتجاه موسكو، وبوتين يلزم الصمت! في حين أن صورة القدرات الأمنية للجيش وأجهزة الاستخبارات قد تمرغت أمام مسيرة قوات فاغنر التي وصلت إلى بعد مئتي كيلومتر فقط عن العاصمة موسكو خلال بضع ساعات! هذه أيضاً خسائر معنوية صافية لبوتين ونظامه الدكتاتوري الحديدي.
ثم أرسل بوتين ضابطين رفيعي المستوى من الجيش والاستخبارات لإقناع بريغوجين بالتراجع عن مسيرته وتمرده، وقد عاملهما قائد المرتزقة بازدراء ظهر في مقطع فيديو انتشر على وسائل الإعلام. ليضطر بوتين لتوسيط الرئيس البيلاروسي الذي قدم له مخرجاً أقنعه بالتراجع. ولا أحد يعرف، إلى الآن، بنود الاتفاق الذي انتهى بموجبه التمرد. لكن المعلن هو إسقاط الاتهامات بالخيانة والتمرد التي واجهها في البداية. هذه أيضاً لحظات ضعف تسجل على بوتين «القوي» حتى لو أن مصير بريغوجين النهائي قد يكون الاغتيال، إذا أخذنا بنظر الاعتبار سوابق بوتين مع من يعارضونه. ويمكن، بهذه المناسبة، التذكير أيضاً بمصير صهري الرئيس العراقي الراحل صدام حسين أثناء حرب الخليج الأولى، حين قام أزلامه بقتلهما بأعصاب باردة بعد عودتهما إلى العراق عاقبةً لثقتهما بوعود حميهما بأنه قد سامحهما على خيانتهما. والأرجح أن بوتين لن يكون أكثر سخاء من صدام، ولن يحترم وساطة لوكاشينكو كما لم يحترم صدام وساطة الملك الأردني.
أما مصير مجموعة المرتزقة المجرمين خريجي السجون فقد حدده بوتين بالانحياز التام إلى مشروع شويغو في ضمهم كأفراد إلى الجيش الروسي، والاستيلاء على ممتلكات الشركة وأموالها. غير أن هذا الانحياز لا يعني أن بوتين قد لا يلجأ إلى التخلص من شويغو وغيراسيموف أيضاً، ولكن ربما بعد أشهر لكي لا يظهر بمظهر من رضخ لمطالب بريغوجين. فلا بد أن بوتين الذي غاب طويلاً عما يدور حوله قد تنبّه أخيراً لكل ما تفوّه به بريغوجين في الساعات الأربع وعشرين التي استغرقها التمرد، ومنه مثلاً إخفاء قادة الجيش عنه الأرقام الحقيقية لعدد قتلى الجيش الروسي في الحرب الأوكرانية، وتقديم معلومات مضللة بشأن سير العمليات العسكرية وغيرها. ويمكن فهم سبب هذا السلوك من قادة الجيش بالمرض الشائع في الأنظمة الفردية وهي أن من يحيطون بالدكتاتور يقدمون له المعلومات التي يرغب بسماعها، ويخفون عنه حقائق لا يرغبون بسماعها. بل إن بريغوجين قد ذهب، في بعض تصريحاته، أبعد من ذلك حين اتهم قادة الجيش والاستخبارات بفبركة تقارير عن استعدادات حلف الأطلسي للهجوم على روسيا من خلال أوكرانيا، لإقناع بوتين بإطلاق حربه، مشككاً بذلك في دوافع تلك الحرب ذاتها. هذا لا يعني طبعاً تبرئة بوتين من المسؤولية، بل تحميل هذه لنمط النظام الذي أسسه ويقوده.
هذه فقط بعض خسائر معنوية من التمرد الذي تم إجهاضه بـ«حكمة» بوتين وبرودة أعصابه، لكن تداعياته على مسار الحرب في أوكرانيا قد لا تكون معنوية فقط بل ربما تتجاوز ذلك إلى خسائر عسكرية وسياسية أكبر مما تكبدته روسيا بوتين إلى الآن.

القدس العربي