في الأشهر الأخيرة وفي موازاة جهود الجيش الإسرائيلي لاستكمال العائق على الحدود مع لبنان، ارتفاع كبير في حجم الاستفزازات التي يقوم بها “حزب الله” على طول الحدود وحتى خلفها. هذه التطورات تزيد التوتر بين الجيش الإسرائيلي والحزب، وتزيد الخوف من التدهور إلى مواجهة عسكرية. يدور الحديث بالأساس عن توسيع وجود مقاتلي “حزب الله” على طول الحدود، حيث بعضهم في مواقع الرقابة التي ازدادت، كما يبدو من قبل منظمة “أخضر بدون حدود”، في محاولة واضحة لنشطاء “حزب الله” ومؤيديهم لاجتياز الخط الأزرق (الذي حددته الأمم المتحدة كخط انسحاب إسرائيل من لبنان في العام 2000)؛ وفي محاولة لتخريب العائق الإسرائيلي و/أو التشويش على عمل الجيش الإسرائيلي في استكماله. في 6 تموز نفذ أيضاً إطلاق قذائف مضادة للدبابات على قرية الغجر، وحتى لو لم يكن هذا على يد مقاتلي “حزب الله”، إلا أنه بمصادقة الحزب. إضافة إلى ذلك، نشرت وسائل الإعلام الإسرائيلية في منتصف حزيران بأنه قد تم نصب خيمتين قرب مزارع شبعا على حدود إسرائيل في نيسان كما يبدو، وفيها نشطاء مسلحون للحزب. رأت إسرائيل في إقامة الخيمتين خرقاً واضحاً للخط الأزرق، لكن تقرر في المرحلة الأولى عدم العمل على هدمها بالقوة، بل إيجاد قنوات دبلوماسية والتوجه إلى الأمم المتحدة والولايات المتحدة وفرنسا لإقناع اللبنانيين بإزالتها. هذه الجهود في الحقيقة أدت إلى إزالة واحدة من الخيمتين، ولكن “حزب الله” الذي ظهر أن قيادته لم تبادر إلى إقامتها، اعتبرها فرصة بالنسبة له، وهو يرفض إزالة الخيمة الثانية. وحتى إن حسن نصر الله في خطابه الذي ألقاه في 12 تموز بمناسبة الذكرى السنوية الـ 17 على حرب لبنان الثانية، هدد بشكل صريح بأن أي نشاط لإسرائيل من أجل إزالة الخيمة سيتطلب رداً من جانب “حزب الله” والربط بين إزالة الخيمة وطلب لبنان بانسحاب مواز لإسرائيل من جزء قرية الغجر الذي يقع خلف الخط الأزرق بنية خلق معادلة جديدة.
الاحتكاكات التي يقوم بها “حزب الله” على طول الحدود وزيادة حدة تهديداته، تعكس إحباطاً من الاستمرار في إقامة العائق الإسرائيلي على طول الحدود، إلى جانب الثقة الذاتية لـ ”حزب الله” التي برزت منذ تهديد حسن نصر الله لمنصة الغاز “كريش” وفي أعقاب الحادثتين الاستثنائيتين- العملية في مفترق مجدو بواسطة مخرب تسلل من الحدود الشمالية في 13 آذار، وإطلاق القذائف من لبنان الذي نسب لجهات فلسطينية في عيد الفصح في 6 نيسان الماضي. يبدو أن حسن نصر الله مستعد للمخاطرة عقب رؤيته أن الأزمة الداخلية الشديدة في إسرائيل منذ تشكيل الحكومة الحالية تبشر بضعفها العسكري، وتقديره بأنه لا توجد للحكومة الإسرائيلية أي مصلحة أو قدرة في الوقت الحالي على مواجهة عسكرية مع “حزب الله”، لا سيما أنها غير معنية لشن حرب ضده. ثم إن التوتر المتزايد بين إسرائيل والولايات المتحدة يعزز هذه الرؤية، ويُستنتج منها أن إسرائيل ستستوعب استفزازاته الآن أكثر مما كان في السابق من أجل تجنب التدهور نحو الحرب.
لكن “حزب الله” أيضاً غير معني بالوصول إلى مواجهة عسكرية واسعة، وقد تخدم عدد أيام المواجهة جهوده في ترسيخ صورته كمدافع عن لبنان وستعزز، حسب رأيه، مكانته التي ضعفت في لبنان، هذا بدون المخاطرة برد إسرائيلي يؤدي إلى حرب. لذلك، يرى في الأحداث الأخيرة فرصة له من أجل تحسين صورة صموده، سواء أمام إسرائيل أو الشعب اللبناني. هدف “حزب الله” مزدوج أمام إسرائيل؛ فهو على المستوى الاستراتيجي، معني بتحسين ميزان الردع أمام الجيش الإسرائيلي لصالحه، كما أوضح حسن نصر الله في خطابه الأخير في 12 تموز الحالي، الذي شكل جزءاً من الحرب النفسية المنهجية التي يتبعها مع إسرائيل، والذي تفاخر فيه بأن قدرة الردع لـ ”حزب الله” تتعزز منذ حرب لبنان الثانية، في حين أن قدرة ردع إسرائيل تتآكل. أما على المستوى الميداني فـ “حزب الله” يعمل على توسيع سيطرته على الحدود لخلق نقطة انطلاق لنفسه أفضل إذا قرر تطبيق خطته في اختراق حدود إسرائيل بواسطة “قوة رضوان”، وهي قوة الكوماندو لـ ”حزب الله”.
في موازاة ذلك، يريد حسن نصر الله استغلال ما اعتبره ضعفاً لإسرائيل من أجل تعزيز مكانة الحزب كـ “المدافع عن لبنان” أمام المعارضين في الداخل: المعارضة في المستوى السياسي ومعظم الجمهور الواسع. يتعرض الحزب منذ فترة طويلة إلى الانتقاد في لبنان بسبب مسؤوليته عن الأزمة الاقتصادية الشديدة في لبنان أو عقب دوره في خلق الجمود السياسي بسبب تصميمه على أن ينتخب مرشحه لمنصب الرئاسة سليمان فرنجية الابن، رغم أنه لا يحصل على الدعم المطلوب في البرلمان. في نظر كثيرين في لبنان، فتصميم حسن نصر الله هو الذي يمنع انتخاب رئيس جديد للبنان، الذي سيدفع قدماً بخطوات لتحسين الوضع في الدولة. وثمة تحد آخر للحزب تشكله دعوات كثيرة من قبل منتقديه في المنظومة الداخلية من أجل التنازل عن مكانته كمليشيا مستقلة ونزع سلاحه. في الخطاب الذي ألقاه في 12 تموز الحالي تطرق إلى ذلك وقال إن سلاح المقاومة يستهدف الدفاع عن لبنان، وأن الهجوم على احتفاظه بالسلاح يخدم العدو.
في اتصالات مع جهات دولية حاولت حل قضية الخيمة في مزارع شبعا، طرح الطرف اللبناني وجود خروقات لإسرائيل على حدود لبنان، والتي تحتاج إلى تعديل، مع التأكيد على الخرق الأساسي – بلغته “احتلال قرية الغجر”، التي يقسمها الخط الأزرق. خلال ذلك، طرحت الجهات اللبنانية الحاجة إلى التوصل إلى اتفاق أيضاً على ترسيم كل الحدود البرية بين إسرائيل ولبنان، بل وكشفت عن ذلك علناً. رئيس الحكومة اللبنانية ميقاتي، قال في صحيفة “نداء الوطن” وصحيفة “القدس العربي” في 11 تموز الحالي، بأن لبنان أبلغ الأمم المتحدة عن نيته الدفع قدماً بترسيم كامل للحدود البرية. وأوضح وزير الخارجية اللبناني بأن اقتراح ترسيم الحدود هو اقتراح جدي، وأن الأمر لا يتعلق بالتطبيع مع إسرائيل (“النشرة”، 11/7). ونشر أيضاً عن وصول المبعوث الأمريكي، عاموس هوكشتاين، إلى المنطقة، الذي أجرى مفاوضات حول الاتفاق على ترسيم الحدود البحرية.
من ناحية “حزب الله”، فإن إمكانية إجراء مفاوضات حول ترسيم الحدود البرية كلها تخلق معضلة. إجراء مفاوضات سياسية مع إسرائيل يناقض بالضبط رؤية الحزب، وأيضاً يناقض مقاربة الراعية له، إيران، بخصوص شرعية وجود إسرائيل بشكل عام والتفاوض معها بشكل خاص. بناء على ذلك، يسمح حسن نصر الله، (غير المعني بالظهور كرافض وكشف الفجوة بين موقفه ومواقف متخذي القرارات في لبنان الذين يفضلون المفاوضات على المواجهة العسكرية) يسمح بالدفع قدماً بمفاوضات وهو يقوم بدور “حارس الالتزام بالفرائض” مثلما فعل وأعلن في قضية منصة الغاز “كريش”. يربط حسن نصر الله الآن بين الاستيلاء على الخيمة التي بقيت في مزارع شبعا، مطالبة لبنان بانسحاب إسرائيل من قرية الغجر، التي تخرق فيها إسرائيل القانون، ولكنه خرق نابع من الاهتمام بسكان القرية.
في نفس الخطاب في 12 تموز الحالي، أراد حسن نصر الله أن يوضح بأن هذه ليست محادثات لترسيم الحدود، لأن الحدود حسب أقواله، تحددت قبل إقامة دولة إسرائيل، بل هي عملية تهدف إلى إعادة الأراضي التي تم احتلالها منه. وعلى أي حال، فرص استكمال المفاوضات السياسية بين إسرائيل ولبنان منخفضة إزاء اختلافات عميقة في الآراء بين الطرفين حول الـ 13 نقطة التي تقع على طول الحدود. وقد بقي في يد “حزب الله” قدرة على إفشال المحادثات في أي مرحلة يختارها.
هذه الظروف تخلق معضلة لإسرائيل؛ ففي المقام الأول كيف توقف التآكل في صورة ردعها في نظر “حزب الله”، وأن توضح لحسن نصر الله ثمن استمرار الاستفزازات والنشاطات العسكرية التي يخططها ضدها على طول الحدود مع لبنان وفي سوريا، وتثبيت الوضع الأمني بدون التدهور إلى حرب.
على إسرائيل أن تتبنى سياسة تدمج بين العمل السياسي والعمل العسكري. وإسرائيل فعلت الأمر الصحيح في محاولتها لحل قضية الخيام في مزارع شبعا عندما توجهت في البداية إلى القنوات الدبلوماسية لكشف أفعال “حزب الله” والحصول على الشرعية الدولية. وعليها أن تحافظ على مشاركة دولية في تهدئة “حزب الله” ومنع مواجهة عسكرية، التي قد تلحق ضرراً مدمراً بلبنان وضرراً بإسرائيل أيضاً. لذا، يجب على إسرائيل أن تعلن عن موافقتها على المشاركة في مفاوضات سياسية مع الطرف اللبناني لحل الخلافات على طول الحدود وترسيم حدود ثابتة ومتفق عليها. في موازاة ذلك، يجب على إسرائيل الاستمرار في إقامة العائق على طول الحدود وعدم الاكتفاء بخطوات التحذير التي اتخذتها حتى الآن من أجل الإشارة إلى أنها وصلت إلى حدود صبرها، مثل استخدام الوسائل غير القاتلة التي أبعدت مقاتلي “حزب الله” الذين اقتربوا من الجدار أو اخترقوه (في 12 و15 تموز). وعلى الجيش الإسرائيلي أن يعد عدداً متنوعاً من الردود العسكرية المحددة (بما في ذلك نشاطات غير علنية) لتوضح لـ ”حزب الله” بأن إسرائيل مستعدة لزيادة ردودها وأن حسن نصر الله يخطئ في تقدير نقص القوة العسكرية وقدرتها على جباية ثمن باهظ منه، وأن هذه النشاطات لا تنطوي على خطر التصعيد، وأن على الجيش الإسرائيلي الاستعداد لذلك.
القدس العربي