تُظهر العروض المتزامنة التي قدّمتها مجموعة “البريكس” لضمّ ستّ دول إضافية إلى عضويتها أن القوى الوسطية في الشرق الأوسط تبرز كأطراف فاعلة رئيسية على الصعيد العالمي.
على مدى الجزء الأكبر من القرن العشرين، كانت القوى العظمى تسيطر على الجهود الدبلوماسية الدولية، إلى حين حدوث التحوّل الجذري في أوائل التسعينيات عندما تفرّدت الولايات المتحدة في قيادة العالم. أما اليوم، وبينما يتصارع العالم مع تحدياتٍ غير مسبوقة تتطلب بذل جهود جماعية، تشهد القواعد الراسخة للعلاقات الدولية عملية تحولٍ آخرى.
ودفع التحوّل من عالم أحادي أو ثنائي القطب إلى عالم متعدد الأقطاب القوى الوسطية إلى تأدية دورٍ محوري. ففي عصرٍ يحتاج فيه العالم إلى العمل الجماعي لحل التحديات، تبرز أهمية البراعة والقدرة على التكيف اللتين تتمتع بهما القوى الوسطية في الساحة الدبلوماسية. فباستطاعة هذه القوى الاستفادة من نفوذها الثقافي والاقتصادي كجسورٍ حيوية لدعم القيم، وتعزيز الاستقرار المالي، وضمان السلام الإقليمي. ومما أضاف قيمةً كبيرة إلى المساعي الجارية لتعزيز الدبلوماسية الاقتصادية والمصالحة السياسية في المشهد العالمي المتغير بسرعة هو الضم المتزامنلستة أعضاء جدد إلى مجموعة “البريكس”، من بينها بعض الدول المتخاصمة والمتنافسة في السابق، مثل الأرجنتين ومصر وإثيوبيا وإيران والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة.
وتقف دولة الإمارات عند منعطفٍ حرجٍ مع انضمامها إلى تحالف “البريكس”. ففيما يتخطى الدوافع الاقتصادية، تشير هذه الخطوة إلى طموح الإمارات لتوسيع نفوذها الجيوسياسي، وتشجيع التعاون متعدد الأطراف، والتكيّف مع عالمٍ متعدد الأقطاب.
ويمكن لدولة الإمارات تعزيز مكانتها كمركزٍ عالمي للتجارة والخدمات اللوجستية من خلال المواءمة مع اقتصادات الدول الأخرى في مجموعة “البريكس”. ومن الأدلة على هذه الإمكانات هو التجارة الثنائية المزدهرة بين الإمارات والهند التي يُتوقع أن تصل قيمتها إلى 100 مليار دولار بحلول عام 2030، والمبنية على “اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة” بين البلدين. وأصبحت الصين أيضاً أكبر دولة شريكة للإمارات في مجال التجارة غير النفطية. كما زادت التجارة بين الإمارات والبرازيل بنسبةٍ هائلة بلغت 32 في المائة بين عامَي 2021 و 2022، وارتفعت بنسبةٍ إضافية قدرها 8 في المائة في الأشهر السبعة الأولى من عام 2023. ويُعد التنويع (الاقتصادي) أمراً بالغ الأهمية لكي تحقّق الإمارات طموحها بمضاعفة ناتجها المحلي الإجمالي بحلول عام 2030، مع الاستمرار في تقليل اعتمادها على النفط وتعزيز الاقتصاد القائم على المعرفة.
وفي ظل تصاعد حدّة المواجهة على الساحة العالمية، ترى أبوظبي أن الاستثمار طويل الأمد في التعاون هو الخطوة الأفضل للمرحلة القادمة. ويساهم انضمام الإمارات إلى مجموعة “البريكس” إلى تعزيز نفوذها الجيوسياسي، وهي تدرك أهمية تعزيز علاقاتها مع مختلف الجهات الفاعلة مثل الولايات المتحدة والصين والهند وروسيا والاتحاد الأوروبي. وقد أظهرت الإمارات قدرتها القوية على أن تكون ممثلاً قوياً لتعددية الأطراف، بدءً من تمرير القرار التاريخي الذي يعالج خطاب الكراهية والتطرف، وإلى تجديد التفويضات المهمة للأمم المتحدة في مجال حفظ السلام لدى ترأسها مجلس الأمن الدولي للمرة الثانية.
وتتجاوز المنافع التي يقدّمها انضمام الإمارات إلى مجموعة “البريكس” مجرد تحقيق النمو الاقتصادي أو النفوذ السياسي، إذ يشكّل فرصةً لجذب المواهب والاستثمارات من خلال بناء الشراكات الاستراتيجية. فقد بدأت شركات تكنولوجيا المعلومات الهندية بالاستفادة من دولة الإمارات كمركزٍ يسمح بالدخول إلى الأسواق الإقليمية المجاورة. وشاركت أكثر من 200 شركة هندية في معرض “جيتكس غلوبال 2022”، وهو أكبر فعالية في العالم في مجال التكنولوجيا. ويمكن للشراكات في مجال التعليم مع الجامعات البرازيلية أن تساهم في تعزيز مشهد الابتكار في الإمارات. ففي عام 2022، استثمرت شركة “مبادلة” في جامعتين للطب في البرازيل تضمّان نحو 2000 طالب.
وباستطاعة الإمارات، كونها دولةً مهمةً منتجةً للنفط أن تجد أرضيةً مشتركةً مع دول تحالف “البريكس” للتعاون في مجال الطاقة والطاقة المتجددة وأمن الطاقة والتنمية المستدامة. على سبيل المثال، إن الإمارات والهند على وشك توقيع اتفاقية لربط قطاعات الطاقة المتجددة. وقد اتفق البلدان على توسيع التعاون الثنائي من أجل تسريع العمل المناخي، والذي يشمل بناء شراكة بين القطاعين العام والخاص لتطوير نشر الطاقة المتجددة، والكفاءة الزراعية، والهيدروجين الأخضر، وسوق الكربون.
وترمز عضوية دولة الإمارات في تحالف “البريكس” إلى رؤيتها الاستراتيجية الهادفة إلى التنويع في عالمٍ جديدٍ وليد التفاعل الديناميكي بين القوى المتعددة. ولا تنظر أبوظبي إلى انضمامها إلى مجموعة “البريكس” على أنه انضمامٌ إلى كتلة معيّنة، بل على العكس من ذلك، إذ تعتبر أنه يسمح لها بتنويع شراكاتها وأسواقها مع الحفاظ على علاقاتها التقليدية مع أوروبا والولايات المتحدة. وتمكّن العضوية في تحالف “البريكس” دولة الإمارات من دعم استراتيجية التحالفات المتعددة التي تتبعها عبر تعزيز العلاقات الدبلوماسية التي تربطها بالولايات المتحدة من خلال بعض المبادرات مثل “مجموعة آي 2 يو 2” (I2U2) (التي تضم إسرائيل والهند والإمارات العربية المتحدة والولايات المتحدة)، وأيضاً تلك التي تربطها بالصين من خلال مجموعة “البريكس”. وتُشكّل المرونة الدبلوماسية التي تتمتع بها الإمارات وشراكاتها الاقتصادية القوية والتزاماتها بتعددية الأطراف منارة أملٍ في زمنٍ من الاضطرابات. وبينما تتطلع هذه الدولة إلى استضافة “مؤتمر الأطراف الثامن والعشرين”(Cop28) والمؤتمر الوزاري الثالث عشر لـ”منظمة التجارة العالمية”، قد يتبيّن أن قيمة مساهمات الإمارات في مناقشات تحالف “البريكس” حول العمل المناخي ومكافحة الإرهاب والتنمية المستدامة لا تُقدّر بثمن.
وفي ظل تعقيد نسيج العلاقات الدولية، تبرز القوى الوسطية باعتبارها ركيزة أساسية للتعاون، إذ تمارس نفوذها لبناء الجسور وتعزيز السلام ودفع عجلة التقدم. وتعكس رحلة دولة الإمارات نحو الانضمام إلى تحالف “البريكس” تصميمها على رسم معالم مستقبل عالمي أكثر إشراقاً في عالمٍ يتوق إلى التعاون.
نيكولاي ملادينوف