واشنطن وبكين.. ماذا وراء الاتهامات المتبادلة بـ”الكذب”؟

واشنطن وبكين.. ماذا وراء الاتهامات المتبادلة بـ”الكذب”؟

ما أن نشرت وزارة الخارجية الأمريكية التقرير المعنون “كيف تسعى جمهورية الصين الشعبية إلى إعادة تشكيل بنية المعلومات العالمية” في 28 سبتمبر 2023، حتى جاء الرد الصيني بعد يومين معتبراً أن الولايات المتحدة بمثابة “إمبراطورية أكاذيب”. فمَن الذي يكذب على مَن في معادلة العلاقات الأمريكية-الصينية؟، ولماذا يتهم كل طرف الآخر بالكذب والتضليل؟

تقرير أمريكي
التقرير الأمريكي انطلق من أن الصين وعبر استثمارات ضخمة ترصد بشكل دوري تعمل على التلاعب بما أسماه المعلومات الأجنبية من خلال استخدام المعلومات الكاذبة، وإن لم تكن المعلومات كاذبة فإنها تكون متحيزة حتى تحسن من صورتها. ومن ناحية ثانية، فإن بكين تقمع تلك المعلومات المتعارضة مع مواقفها بخصوص الكثير من القضايا وعلى رأسها قضية تايوان وقضايا حقوق الإنسان، وخلافاتها الحدودية في بحر الصين الجنوبي، وكذلك ما يتعلق باقتصادها، ودورها الاقتصادي العالمي.

هذا السلوك الصيني بشقيه، كما يذهب التقرير الأمريكي، هدفه الترويج للخطاب الصيني، بحيث يصبح أكثر قبولاً، مع تجنب توجيه الانتقادات للسلوكيات الصينية. وهذا الترويج يشمل الحكومات ومنظمات المجتمع المدني، فضلاً عن الصحفيين والنخب ذات التأثير في مختلف دول العالم.

حسب التقرير، فإن بكين تستخدم عناصر خمسة حتى تحقق هدفها الخاص بإعادة تشكيل بيئة المعلومات العالمية. تتمثل هذه العناصر في الدعاية والرقابة، والسيطرة على وسائل الإعلام الناطقة بالصينية، والاستقطاب والضغط، واستغلال المنظمات الدولية والعلاقات الثنائية، وأخيراً “الاستبداد الرقمي”.

فيما يتعلق بالعنصر الأخير، فإن الأساس فيه هو قيام الصين بأمرين متلازمين: أولهما، تصدير التقنيات الخاصة بالمراقبة. وثانيهما، تطوير معايير للحوكمة الرقمية يصفها التقرير بالاستبدادية. وهكذا، فإن الصين تعمل على نشر بيئة المعلومات الخاصة بها على الصعيد العالمي، وفي نفس الوقت تتحكم في المعلومات وتجمع أكبر قدر منها عبر شركاتها وتقنياتها. وهذه المعلومات توظف ليس فقط في التعرف على اتجاهات الرأي العام، وإنما في كيفية التأثير عليه، وهي تساعد في تحقيق العناصر الأخرى.

بالنسبة لاستغلال المنظمات الدولية والعلاقات الثنائية، فإن التقرير يذهب إلى أن بكين تعمل على تضخيم المعلومات التي تراها متوافقة مع نهجها خدمة لأهدافها السياسية، ويصل الحال بها إلى السعي لإجراءات من شأنها تغيير أوضاع كانت قائمة سابقاً في بعض المنظمات من أجل تغيير بعض المسميات خاصة فيما يتعلق بتايوان. ولا يقف الأمر عند ذلك، وإنما تعمل الصين عبر المنظمات الدولية أيضاً من أجل إحداث تغيير هيكلي يتوافق مع الأهداف الصينية للحوكمة الرقمية.

وعلى صعيد علاقاتها الثنائية، فإن الأمر لا يقتصر على تلك الدول المتشابهة معها أو القريبة منها في التوجهات ولا حتى تلك التي تتمتع معها بعلاقات قوية، وتقوم شركاتها التكنولوجية بأعمال رئيسية في البنية الأساسية الرقمية فيها، وإنما يتعداه إلى استغلال حالة الانفتاح في دول أخرى ليس فقط لزيادة نفاذها في تلك المجتمعات، وإنما عبر ما تقوم به من ملاحقات قانونية لمن ينتقدوها في تلك المجتمعات. وهكذا فإن الصين في هذا العنصر تعمل على التصدي للروايات غير المواتية، وفي نفس الوقت زيادة الدعم لرواياتها المفضلة، مع العمل على إعادة هيكلة المعايير الرقمية برؤية “استبدادية”.

وتعمل الصين عبر مؤتمرات القمة والاتفاقيات التي تعقدها مع بعض الدول على التصدي لما تعتبره هي معلومات مضللة وإشاعات لا لشيء إلا لأنها تتعارض مع روايتها. ومن ذلك اتفاقها مع روسيا في العام 2020 على التصدي للمعلومات المضللة، مع إظهار الحقائق ورفض الإشاعات.

فيما يتعلق بالاستقطاب أو التعاون والضغط، فإن الأمر متعلق أيضاً بالتسهيل والتيسير لمن يتبنون الرواية الصينية من الأفراد والجهات الخارجية سواء من حيث التأشيرات أو حتى الدورات التدريبية، في مقابل التضييق على مناوئي الرواية الصينية. وبالنسبة للرقابة والسيطرة على وسائل الإعلام الناطقة باللغة الصينية في العالم، فإن الأمر يدور بين دعم وتشجيع الوسائل التي تسير في ركاب السياسة الصينية، والتضييق على تلك التي تنتقد هذه السياسة مالياً وتقنياً.

وبخصوص الدعاية والرقابة، فإن الأمر مرتبط بالتوسع في وسائل الإعلام التي تمتلكها الدولة أولاً، ومن ثم القيام بعمليات شراء لوسائل الإعلام الأجنبية، والعمل على نشر محتوى مصنوع في الصين في وسائل الإعلام الأجنبية، وزيادة المساهمات الإعلامية للدبلوماسيين الصينيين في أماكن خدمتهم وفي جولاتهم الخارجية، وتعزيز شبكات الشراكة، والاهتمام بالمؤثرين عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وتكتيكات التلاعب بوسائل التواصل الاجتماعي، وبث الخوف عبر مواقع التواصل الاجتماعي فضلاً عن الواقع الحقيقي. ومع كل ذلك تأتي الضغوط الدبلوماسية.

يفهم من هذه السردية الأمريكية أن الصين تسعى لتحقيق مصالحها وتقديم روايتها الخاصة، والتصدي لما هو مناوئ لها. ومن ثم يصبح السؤال: هل هذا حكر على الصين؟

التقرير منذ البداية لم ينكر على أي دولة تقديم روايتها للعالم، لكنه اعتبر أن هذا ينبغي أن يقوم على الحقائق، وهذا ما لا تقوم به الصين من وجهة النظر الأمريكية. فماذا تقول الأخيرة في هذا السياق؟

قراءة صينية للتقرير
بداية الرد الصيني هو التشكيك في المركز الذي أصدر التقرير، معتبراً أنه أحد مصادر “التضليل” وما أسمى بـ”حرب الإدراك”. ومن ثم، فإنه يمارس الدعاية والاختراق. ويشار في هذا السياق إلى أن المركز المعني هو مركز المشاركة العالمية Global Engagement. ولم تكتف الصين بذلك، بل إنها اعتبرت أن تقرير المركز الخاص بها يتضمن “تحريفاً” للوقائع والحقائق، ومحشو بالمعلومات المضللة. ومن ثم فإن الولايات المتحدة التي تتهم الدول الأخرى بالكذب والتضليل، مغرقة في ممارسة ما تتهم به الآخرين، وأن هذا ليس وليد اليوم، وإنما هناك تاريخ طويل. ومن الدلائل عليه قيامها بتقديم رشاوى لوسائل الإعلام زمن الحرب الباردة. ثم تلك الأدلة المزعومة من أجل تبرير الحروب كما حدث في حالة العراق.

ويأتي بعد ذلك ما اعتبرته الصين “كذبة القرن” الهادفة لتشويه صورتها عبر ملف سينكيانج. وقد أتى الرد الصيني على ذكر واحد من المشرعين الأمريكيين والذي وصف بلاده بأنها أكبر مروج للمعلومات المضللة في العالم. هذا المشرع هو راند بول على حد قول الخارجية الصينية.

لم يقف الرد الصيني عند ذلك، وإنما اعتبر أن هناك اعتقاداً من قبل بعض الأمريكيين بأنه يمكن لبلادهم أن تحقق النصر فيما اعتبر “حرب معلومات” اعتماداً على مقدار ما ينتج من أكاذيب. لكن مثل هذا الأمر بات مكشوفاً في العالم. فالولايات المتحدة التي تواصل نسج “الأكاذيب” لدرجة أنها أصبحت بمثابة “إمبراطورية أكاذيب”. وفي نفس الوقت مستمرة في توجيه الاتهامات إلى الدول الأخرى وتشويه سمعتها.

تهمة تشويه السمعة تلك توجهها الصين لواشنطن منذ سنوات. وتتعلق بملفات كثيرة على رأسها قضية تايوان، وقضايا حقوق الإنسان سواء في هونج كونج أو سينكيانج أو غيرها من القضايا التي تندرج تحت هذا البند. وكذلك القضايا المتعلقة بالسياسة الخارجية الصينية، سواء تجاه جيرانها، أو في مختلف مناطق العالم، وما يرتبط بها من أدوات توظفها الصين، من بينها الأدوات المالية والتكنولوجية. وهنا يمكن إدراج بعض العناوين السريعة من قبيل: فخ الديون الصينية، والدبلوماسية القسرية، والاختراقات الأمنية.

ولا تقف تهمة تشويه السمعة ونشر المعلومات المضللة عند الحكومة الأمريكية ومسئوليها، وإنما توجهها كذلك إلى وسائل الإعلام الأمريكية. ومن أحدث الوقائع في هذا السياق قيام الخارجية الصينية بالطلب من وسائل الأعلام الأمريكية تحري الموضوعية والحيادية وقول الصدق فيما تنشره من تقارير تتضمن معلومات مضللة عن الصين. كان ذلك قبل عشرة أيام فقط من إصدار نشر التقرير الأمريكي، أي في 18 سبتمبر 2023. وكان ذلك على خلفية مقال في صحيفة أمريكية ذهب إلى أن الصين وعبر تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي قد نشرت معلومات مضللة حول حرائق الغابات في هاواي، معتبرة أن ما نسبه المقال من معلومات إلى مصادر صينية غير صحيح، حيث أن منبع هذه المعلومات أمريكي، وأن بعض المصادر الصينية قد استشهدت بتلك المعلومات. وفي شهر يوليو الماضي (2023) طالبت الصين الولايات المتحدة بالتوقف عن توجيه الاتهامات الكاذبة لها على خلفية الهجمات السيبرانية، معتبرة أنها تتعرض للكثير من الهجمات السيبرانية مصدرها الولايات المتحدة. وسبق لبكين أن ردت على واشنطن بخصوص قضايا السرقات الإلكترونية والتجسس واصفة إياها بأنها لا مثيل لها في هذا المجال.

ولم يقف طلب بكين الخاص بالتوقف عن تشويه سمعتها عند واشنطن، وإنما امتد إلى دول أخرى من بينها كندا والمملكة المتحدة واليابان وأستراليا، وما تتضمنه الاجتماعات التي تعقد بين مسئولين أمريكان ونظراء لهم. ومن ذلك قمة كامب ديفيد التي جمعت كلاً من الرئيس الأمريكي والرئيس الكوري الجنوبي ورئيس الوزراء الياباني، وكذلك اجتماعات مجموعة السبع الصناعية.

الصين تذهب إلى أن ما يثار من حين إلى آخر حول تحديات اقتصادية تواجهها بما في ذلك انهيار اقتصادها هو نوع من التضليل أيضاً، معتبرة أن ما ينهار هو تلك التقارير بينما يواصل اقتصادها النمو السليم.

من الواضح أن هناك خطابين يتهم كل منهما الآخر بالكذب والتضليل وتشويه السمعة والتدخل في الشئون الداخلية. فليست الصين وحدها من تتهم واشنطن بالتدخل في شئونها الداخلية، وإنما واشنطن وعواصم غربية أخرى تتهم الصين بالتهمة نفسها. ومن ذلك سعيها للتأثير على نتائج الانتخابات، وتوظيفها للجاليات الصينية في تلك الدول، ناهيك عن استهدافها للمجتمعات الأكاديمية ووسائل الإعلام العاملة فيها. هذا الخطاب لا يمكن فصله عن مجمل تطورات العلاقات بين الولايات المتحدة والصين.

سياق أشمل
دائماً ما كانت العقول مستهدفة في صراعات القوى الكبرى قديماً وحديثاً، وحتى في أوقات السلم تظل مسألة المعلومات والصور الذهنية مهمة. ولا يمكن القول بأن هناك قوة لا تلجأ إلى رصد موارد وتوظيف تقنيات من أجل كسب معركة العقول ليس فقط على الصعيد الداخلي تأييداً لسياساتها وإنما على الصعيد الخارجي أيضاً.

وفي ظل التقدم التكنولوجي المتسارع في العقود الأخيرة، والتوظيف الكثيف لتطبيقاته في مجالات كثيرة خاصة من قبل القوى الكبرى، تزايدت كثيراً الاتهامات والاتهامات المضادة حول استهدافات تحدث من هذا الطرف حيال الطرف الآخر والعكس.

علاقات الولايات المتحدة بالصين اليوم في المجمل العام توحي بتنافس قوي ينحو أكثر نحو الصراع. فالولايات المتحدة التي هيمنت على النظام الدولي بعد نهاية الحرب الباردة تعمل على الحيلولة دون تغيير هذا النظام أو تحوله، وهي تدرك أن الصين هي القوة الوحيدة القادرة على إحداث هذا التغيير بفضل قدراتها السياسية والاقتصادية والعسكرية والعليمة. ومن ثم فإن بكين تقرأ السياسة الأمريكية بأبعادها المختلفة بأن فيها استهداف لها. ينسحب ذلك على الأدوات الاقتصادية بما فيها القيود على الصادرات، والتضييق على الشركات الصينية في الخارج، والعقوبات التي تطال شركات وأشخاصاً صينيين. وكذلك الأدوات السياسية عبر ما تعتبره الصين تلاعباً بثوابت لا تقبل أبداً المساس بها وعلى رأس هذه الثوابت قضية تايوان، وهي تذهب إلى أن السلوك الأمريكي يفهم منه تفريغ مبدأ صين واحدة من مضمونه. ولا تغيب الأدوات العسكرية أيضاً، عبر تقوية التحالفات الأمريكية القديمة في الجوار الصيني، والسعي لإنشاء تحالفات جديدة بهدف تطويق الصين واحتوائها. وتذهب الصين إلى أن واشنطن باتت تتصرف بعقلية الحرب الباردة، والمباراة الصفرية، وترتكب الكثير من الفظائع بينما تلقي باللائمة على الآخرين.

في هذا السياق العام للعلاقات الصينية-الأمريكية، يبرز الجانب الأيديولوجي الفكري، وما يرتبط به من وسائل إعلام تقليدية ومستحدثة، وأدوات مؤسسية وفردية كما هو الحال بالنسبة لوسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية. ويلاحظ أن استخدام التقرير الأمريكي لمصطلح “الاستبداد الرقمي” لا يمكن عزله عن مجمل الإدراك الأمريكي للسياسة الصينية في كثير من المجالات. فمنذ سنوات وواشنطن تتهم بكين بسرقة الوظائف الأمريكية، كما عادت نغمة توجيه النقد للحزب الشيوعي الصيني وأدواته الشمولية للارتفاع، ومن ثم توصيف النظام السياسي الصيني برمته. بل والأوصاف التي يطلقها بعض المسئولين الأمريكيين على نظرائهم الصينيين. ومن ذلك ما قاله الرئيس الأمريكي جو بايدن في حق الرئيس الصيني شي جينبينج عندما وضعه في خانة الحكام الديكتاتوريين. وللعلم فإن تعليقات بايدن جاءت في إطار حادث مرتبط بموضوع المعلومات، حيث كان يتحدث عن إسقاط المنطاد الصيني. وكان من الطبيعي أن يكون رد الفعل الصيني قاسياً من حيث التعليق على ما قاله بايدن وكذلك من حيث تحاشي الرئيس الصيني لقاء الرئيس الأمريكي ولو على هامش اجتماعات دولية، حيث امتنع الأول عن حضور اجتماعات قمة العشرين الأخيرة في نيودلهي.

يلاحظ أن كلا الطرفين يوجه للطرف الآخر اتهامات بالكذب والتضليل والتشويه، فهل ثمة معايير يمكن الحكم من خلالها على صدق هذا الطرف أو ذاك؟، بمعنى آخر هل هناك أدوات يمكن من خلالها إثبات أن ما يذكر هنا حقائق وأن ما يذكر هناك مخالف للحقائق؟. ليست ثمة جهة محايدة يمكنها القيام بذلك الأمر. ويبقى كل طرف هو الحكم على ما يقوله الآخر. وتبقى المصلحة الوطنية نصب عين مسئولي البلدين. والمصلحة الوطنية ليست دائماً أمراً مطلقاً لا يتغير وإنما هي ما يعتبره صانع القرار مصلحة وطنية.

متوالية التشكيك في الخطاب المعلوماتي بين الولايات المتحدة والصين ستستمر وربما تأخذ أبعاداً أكثر إثارة وتعقيداً في ظل الحالة العامة للعلاقات بينهما واحتمالات تطورها. التقرير الأمريكي الأحدث ربما لم يأت بجديد ذي بال، وإنما تضمن تجميعاً وتصنيفاً وشرحاً وتفصيلاً لمجمل الإدراك الأمريكي للسلوك الصيني على هذا الصعيد، وقد يكون هناك تقرير صيني مضاد يصدر قريباً يفعل نفس ما فعله التقرير الأمريكي. فليست واشنطن وحدها من لديها سجل اتهامات لبكين، وإنما الأخيرة تمتلك بدورها سجلاً متخماً أيضاً. وقد سبق لها أن أصدرت تقارير مجمعة رداً على تقارير أمريكية، ومن ذلك التقرير الصيني الخاص بحالة حقوق الإنسان في الولايات المتحدة، وتقريرها عن الديمقراطية الأمريكية، والذي صدر رفقة تقرير آخر خاص بآليات عمل الديمقراطية الصينية عندما شرعت واشنطن بتنظيم القمة الأولى للديمقراطية.