كانت الحدود اللبنانية-الإسرائيلية طوال الأيام العشرة الماضية على موعد مع تسخين محسوب ومتناسب بين حزب الله والجيش الاسرائيلي في سياق الحرب الأكبر بين الأخير وحماس منذ إطلاق عملية “طوفان الأقصى” يوم 7 أكتوبر الجاري (2023). ففي الأسبوع الأول، حافظ حزب الله على نمط ثابت من الاستهداف للمواقع العسكرية الحدودية لإسرائيل، ثم حذت الفصائل الفلسطينية في لبنان حذوه، ليرد الجيش الإسرائيلي على مصادر النيران قبل أن يتوسع القصف على الأراضي اللبنانية الجنوبية موقعاً ضحايا بين المدنيين. فيما تسللت مجموعات غير معروفة العدد من المقاتلين من لبنان إلى إسرائيل -وهم فلسطينيون على الأرجح- على مدار عدة أيام قبل أن يعلن الجيش الإسرائيلي تصفيتهم تباعاً. غير أن اليومين الأخيرين قد شهدا ارتفاعاً في وتيرة التراشق بالصواريخ والقصف فيما يشبه تمهيداً لاشتعال حرب أوسع على جبهة حزب الله-إسرائيل.
توازن دقيق للردع
حافظ الطرفان خلال الأيام الأولى على نمط مستقر من قواعد الاشتباك، حيث كان يتم تبادل القصف المدفعي عبر الحدود من طرف ليرد الطرف الآخر بالمثل وبشكل متناسب ويستهدف مصدر النيران. يقصف حزب الله الأراضي اللبنانية المحتلة في مزارع شبعا وتلال كفر شوبا، فيرد الجيش الإسرائيلي على مصادر النيران في قرى الشريط الحدودي علما الشعب ورميش والضهيرة وعيتا الشعب. ثم تطورت مصادر النيران قليلاً لتكون صادرة من فصائل فلسطينية عاملة في لبنان، فكانت صواريخ سرايا القدس التابعة لتنظيم الجهاد الإسلامي ثم لحقتها كتائب عز الدين القسام التابعة لحماس والعاملة في لبنان أيضاً.
وكان استهداف هذه الفصائل يتلخص في قصف مدفعي على الأراضي الفلسطينية المحتلة ولكنه لم يوقع إصابات تذكر لدى الجانب الإسرائيلي في الأيام الأولى، ثم أصبح أكثر دقة واستهدف مستوطنات وأوقع إصابات خطيرة منذ يوم الأحد 15 أكتوبر. كما ادعى الجيش الإسرائيلي رصده أكثر من مرة لمحاولات تسلل من جانب مسلحين عبر الحدود اللبنانية وقام بتصفيتهم مبكراً قبل أن ينجحوا في التوغل في العمق الإسرائيلي. كما واظب الجيش الإسرائيلي على إطلاق قنابل مضيئة خلال ساعات الليل ليُبقى الحدود المشتركة مكشوفة ضد أي محاولة للتسلل.
التزم حزب الله وإسرائيل بعدم التصعيد خلال الأيام الأولى، ولكنهما تبادلا الرسائل الخاصة برسم قواعد جديدة عبر القصف المتبادل. فصحيح أن حزب الله التزم في الأيام الأولى بعدم قصف الأراضي الفلسطينية المحتلة وركز عملياته على النقاط اللبنانية التي مازالت محتلة، ولكنه سمح تدريجياً وعلى التوازي مع تكثيف القصف الجوي على قطاع غزة، للفصائل الفلسطينية بالعمل عبر الحدود اللبنانية إما قصفاً بالصواريخ أو تسللاً للمقاتلين.
وإذ لا يملك الجيش الإسرائيلي الرد على المواقع الفلسطينية في لبنان لأنها غير معروفة، رد على مواقع حزب الله المعروفة لديه مما أدى إلى مقتل أربعة من عناصر حزب الله خلال الأسبوع الأول من المواجهات. وهنا رد حزب الله بقصف مواقع عسكرية لإسرائيل في الشريط الحدودي المشترك واستهدف آليات عسكرية ومن ضمنها دبابات محصنة وتمكن من تدميرها بالكامل وإصابة طاقمها بجراح خطيرة مع أنباء عند سقوط قتلى لم يُعلن عنهم بعد من الطرف الإسرائيلي.
تصعيد متبادل مرشح للانفلات
لم يصمد نمط التصعيد المحسوب كثيراًـ إذ سرعان ما أرادت إسرائيل أن تفرض هيمنتها العسكرية على المشهد في الجنوب اللبناني، فاستهدفت يوم السبت (اليوم الثامن للمواجهات) قرى لبنانية في شرقي مدينة صور وعيتا الشعب وعلما الشعب والضهيرة ورميش. وعلى عكس القصف السابق الذي كان يطال أراضٍ خالية غير مأهولة، بدأ القصف الإسرائيلي يستهدف مناطق مأهولة.
إذ استهدفت اسرائيل تجمعاً للصحفيين في بلدة عيتا الشعب، مما أدى إلى مقتل صحفي يعمل بوكالة رويترز وإصابة ثلاثة آخرين منهم مراسلة الجزيرة. كما أدى القصف يوم الأحد لقرى شرقي صور إلى مقتل مواطنيّن لبنانيين اثنين يسكنان هذه المناطق. وإزاء هذا التصعيد الجديد الذي أوقع ضحايا من الصحفيين والمدنيين، تحرك حزب الله بقصف دقيق على موقع الراهب العسكري، فضلاً عن استهداف الحامية العسكرية لمستوطنة شتولا قبل أن يوسع قصفه يوم الأحد ليشمل 5 مواقع عسكرية في الشمال الإسرائيلي ويوقع إصابات دقيقة. وقال حزب الله في بيانه أنه كان يرد بشكل متناسب على القصف الإسرائيلي وفق قواعد اشتباك مستقرة ولكن الاستهداف الإسرائيلي لقرى جنوبية مأهولة قد أدى لمقتل مدنيين وصحفيين، مما يعني أن حزب الله مضطر للتصعيد المقابل وتوسيع استهدافه من مجرد قصف مواقع عسكرية إلى استهداف المستوطنات الشمالية. وعلى نفس الوتيرة وسعت الفصائل الفلسطينية في لبنان، القسام وسرايا القدس قصفها لمستوطنات الشمال طوال يوم الأحد حتى طالت نهاريا.
ومنذ الأحد، بدأ الاشتباك بالصواريخ المتبادلة يتصاعد على جانبيّ الحدود اللبنانية-الإسرائيلية سواء كان مصدر النيران من حزب الله أو من فصائل فلسطينية أخرى، وطال الرد الإسرائيلي قرى الجنوب بطول الخط الحدودي من العديسة غرباً إلى الناقورة شرقاً مروراً برميش وعيتا الشعب والضهيرة ومروحين وطير حرفا وعلما الشعب، حيث طالت القذائف مساحات مأهولة من هذه القرى وأوقعت إصابات بالممتلكات والسكان، فيما سقطت بعض القذائف في محيط مقار الجيش اللبناني واليونيفل وأوقعت بعض الخسائر في الأبنية.
وفي المقابل، استمر حزب الله في استهداف مواقع عسكرية إسرائيلية مثل راميم وبرانيت والمالكية وحانيتا فضلاً عن الحاميات العسكرية التي تتمركز في محيط مستوطنات الشمال مثل المطلة وشتولا. بينما دوت صافرات الإنذار الإسرائيلية في مستوطنات الشمال مثل نهاريا وكريات شمونة. وتم إعلان المنطقة الحدودية بعمق 4 كيلو متر منطقة عسكرية يُمنع دخولها من المدنيين، وتم فرض دخول الملاجئ على سكان المستوطنات الشمالية كافة.
في المقابل، أدى القصف الإسرائيلي إلى مقتل 4 مقاتلين آخرين تابعين لحزب الله ليصل إجمالي عدد المقاتلين الذين خسرهم حزب الله في هذه المواجهات إلى 8 حتى يوم 17 أكتوبر. ولم يعلن الجيش الإسرائيلي عن إجمالي عدد جنوده الذين قتلوا في الجبهة الشمالية ولكن على الأقل سقط ضابط إسرئيلي قتيلاً وأصيب عدد من الجنود بحسب يديعوت أحرونوت. أما المقاتلون الفسلطينيون الذين تسللوا إلى داخل إسرائيل وتمت تصفيتهم فيظل عددهم غير معروف، غير أن إسرائيل قتلت أربعة منهم داخل الحدود اللبنانية يوم 17 أكتوبر ونقلهم الصليب الأحمر اللبناني.
لا شك أن قواعد الاشتباك بين الطرفين وإن كانت مستقرة طوال هذه السنوات فإنها من الوارد أن تتغير على وقع التسارع الكبير للأحداث والتصعيد على المشهد الفلسطيني. وكان حزب الله قد سبق ورهن استعداده للانخراط في القتال المفتوح باحتمالية تنفيذ هجوم بري موسع على غزة. وربما كان القصف المتواصل طوال الأسبوع الأول هو وسيلة جيدة لإقناع إسرائيل بالتفكير مرتين قبل تنفيذ هذا الاجتياح البري لغزة.
ورغم تأكيد الجيش الإسرائيلي أكثر من مرة أن رده على الجبهة اللبنانية لا يتخطى مجرد الرد على مصادر النيران، وإذ تعذر تحديدها، فإن الرد يكون على البنية العسكرية لحزب الله. فقد أكد وزير الدفاع الإسرائيلي أنه ليس من مصلحة أحد فتح جبهة إضافية في الشمال قاصداً بذلك الدخول في حرب مع حزب الله. بينما هدد رئيس المجلس القومي الإسرائيلي بأنه في حال قامت الحرب بين حزب الله وإسرائيل، فإن جيشه سيُعيد لبنان إلى العصر الحجري. كما عبر المتحدث الرسمي باسم الجيش الإسرائيلي عن قلقه من امتلاك حزب الله لترسانة صواريخ تفوق الـ 130 ألف صاروخ مما يهدد أمن الشمال الإسرائيلي بشكل جدي في حال قرر حزب الله الدخول في حرب.
ما لم تحسن إسرائيل قرائته من رسائل حزب الله أنه حين سمح بتنفيذ الفصائل الفلسطينية لقصفها من لبنان فإنه بذلك لا يُلوِح فقط بانخراطه في الحرب بالصواريخ ولكن أيضاً بإمكانية تنفيذ اجتياح مقابل من الحدود الشمالية لإسرائيل ليس بالضرورة عبر عناصره ولكن عبر مقاتلي الفصائل الفلسطينية. وفي المقابل، تحاول إسرائيل أن تركز جهودها على إعادة ترميم قدرات الجيش وصورته الرادعة والاستعداد للاجتياح المرتقب في الجنوب، في حين أن الشمال لن يكون مكشوفاً خاصة مع الدعم الأمريكي الكبير ووصول حاملة الطائرات الأمريكية جيرالد فورد وتمركزها في شرق المتوسط واتجاه حاملة طائرات أخرى هي يو إس إس أيزنهاور لتلحق بالأولى. بالإضافة إلى أنباء عن إمكانية إنزال ألفي جندي أمريكي في المنطقة لتقديم الدعم لإسرائيل. فالرسالة الأمريكية هي حماية الشمال الإسرائيلي في حال تعثرت إسرائيل جنوباً في الاجتياح البري لغزة.
وساطات مفقودة وخريطة مهددة
من جهتها، كانت طهران حريصة على تأمين غطاء لحليفها في بيروت، ففي زيارة لوزير الخارجية الإيراني لبيروت تزامنت مع زيارة وزير الخارجية الأمريكي إلى تل أبيب، قال حسين أمير عبداللهيان أن احتمالات فتح حرب متعددة الجبهات قائمة وأنه لابد من الحذر من هذا السيناريو لأن موقف حزب الله الراهن قد يتغير في حال تم تنفيذ اجتياح بري لغزة.
بل ذهب عبداللهيان بعيداً ليحذر من أن الحرب القادمة إذا ما اشتعلت فإنها ستُغير شكل الخريطة الراهنة وستكون لها تداعياتها بعيدة المدى. وهكذا تكون احتماليات تصعيد المشهد محكومة بالتطورات في الميدان نظراً لغياب أي وساطات جادة حتى الآن لوقف إطلاق النار بين حماس وإسرائيل، بل على العكس بذلت الأطراف الأخرى المرتبطة بالفاعلين الرئيسيين جهداً لإثبات دعمها الكامل لهما واستعدادها لتوسيع الحرب وفي القلب من هؤلاء الفاعلين حزب الله ومن ورائه إيران.
تبادلت إيران والولايات المتحدة الرسائل حول فتح جبهة لبنان من عدمه، وكانت الرسائل تنتقل من خلال وسطاء مثل سلطنة عُمان التي كانت تتولى الوساطة سابقاً في رفع العقوبات عن إيران. فضلاً عن دخول تركيا على الخط عبر زيارة وزير خارجيتها إلى بيروت مؤخراً للتحذير من اتساع نطاق الحرب وإبداء رغبة بلاده في لعب دور في تحرير الرهائن لدى حماس.
في المقابل، جاءت الرسالة الفرنسية عبر وزيرة خارجيتها كاترين كولونا من بيروت لتحذر كافة الفرقاء اللبنانيين بلغة خشنة وغير دبلوماسية من مغبة تفكير أي فريق للاستفادة من الاشتراك بالحرب وتقصد بذلك حزب الله. كما دعت الزعماء اللبنانيين إلى تحمل مسئولياتهم في منع تدهور الموقف وانزلاق لبنان إلى الحرب. ولعل أهم ما فقده لبنان حتى الآن بخلاف اختراق أراضيه بالطيران والقصف الإسرائيلي وسقوط قتلى من الصحفيين والمدنيين، كان وقف العمل في حفر البلوك رقم 9 في حقل الغاز البحري المقابل لشواطئه، في رسالة بليغة من الغرب عن الخسائر التي سيتحملها لبنان في حال إشعال جبهته مع إسرائيل.
لا شك أن خيار دخول حزب الله الحرب ليس من أفضل الخيارات المطروحة، خاصة بالنظر للوضع الاقتصادي اللبناني المعتمد بالكامل على المساعدات الغربية وأيضاً غياب إجماع وطني على قتال إسرائيل مرة أخرى وخرق القرار 1701. ولكن خلال الأسبوع الماضي، أجرى حزب الله استعداداته الكاملة للحرب المحتملة، ولذا لم يستطع رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي الحصول على ضمان من الحزب بعدم الانخراط في الحرب. بل على العكس كان الرد المباشر أن الأمر مرهون بالتطورات الميدانية على جبهة غزة. فتحديد حماس لساعة الصفر في عملية طوفان الأقصى لا يعني أن حزب الله غير قادر على الالتحاق بها. فحزب الله بدأ ومنذ اليوم التالي لوقف إطلاق النار في 14 أغسطس 2006 في التجهيز للمواجهة القادمة مع إسرائيل.
وإذ يرى البعض أن انخراط حزب الله في الحرب السورية قد أثّر سلباً على قدرات عناصره في مواجهة إسرائيل، فإن العكس هو الصحيح لأنه قد اكتسب خبرة العمل خارج مسرح عملياته الرئيسي، أي خارج الأراضي اللبنانية. وهنا لن تختلف كثيراً الساحة السورية عن الأراضي الفلسطينية المحتلة. بالإضافة إلى وجود نقطة ضعف جديدة لإسرائيل على مرمى صواريخ حزب الله وهي منصات استخراج الغاز من الحقول البحرية الإسرائيلية التي سبق وحذر حسن نصر الله صيف العام الماضي من أنها “دخلت في بنك أهداف المقاومة”.
وكانت تقارير إسرائيلية سابقة قد نشرت في عام 2008 تفيد باستعداد حزب الله للحرب القادمة مع إسرائيل بخطة محكمة للاجتياح البري للشمال الإسرائيلي، حيث حذرت هذه التقارير من استعداد الحزب لتنظيم صفوفه في 5 كتائب كاملة لاختراق العمق الإسرائيلي وصولاً للجليل الأوسط، بما يعني حينها أنه لن يكون فقط قادراً على تحرير النقاط اللبنانية التي لا زالت محتلة، بل سيكون قادراً على إفساح الطريق للفصائل الفلسطينية للتمركز داخل الشمال الإسرائيلي لفترة وجيزة على الأقل وتنفيذ عملياتها من الداخل. وهو ربما ما كان يقصده عبداللهيان عندما حذر من تغيير ملامح الخريطة في حال اشتعال حرب أوسع.
وفي هذا المشهد، لا تبدو الجبهة السورية بعيدة عن التصعيد المحتمل، إذ أعادت إيران نشر قوات وصواريخ الحرس الثوري من دير الزور إلى الخط الحدودي، وتم استدعاء الضباط المتخصصين في القصف المدفعي على وجه الخصوص للانتشار في هذه الرقعة المطلة على هضبة الجولان المحتلة.
وبالنظر للخطوات المترتبة على تصعيد كل طرف بناء على تصعيد الطرف الآخر، يبدو المشهد مرشحاً للانزلاق إلى حرب متعددة الجبهات لن تقف فيها إيران مكبلة عن حماية الأذرع العسكرية التي أسستها في المنطقة ولن تقف فيها الولايات المتحدة عاجزة عن حماية أمن إسرائيل. فلعبة التصعيد ماضية إلى خيار دموي ومدمر للغاية إذا لم يتم تدارك الأمر بوقف فوري لإطلاق النار وكبح طموح إسرائيل في الاجتياح البري لغزة والاستعداد لمرحلة التفاوض حول استرجاع الرهائن لدى حماس.