أبعاد الموقف التركي من العدوان على غزة

أبعاد الموقف التركي من العدوان على غزة

مقدمة
تشبث الموقف التركي في بداية معركة “طوفان الأقصى” بموقف يساعده على لعب دور الوسيط المحتمل لإنهاء الحرب الدائرة في غزة والعمل على إطلاق سراح الأسرى، وفي ظل نشوب الحرب في وقت كانت تركيا تعد نفسها للتعامل مع واقع إقليمي أكثر استقرارًا فقد قدمت بعض الأفكار التي تحتاج لإنضاج دور الضامن للحل السياسي ولكن هذه الأفكار ودور الوساطة بدا أنها تصطدم باحتمال تزايد توتر العلاقات التركية-الإسرائيلية وبالتعنت الإسرائيلي والضوء الأخضر الأميركي والأوروبي له. لا يزال الموقف الرسمي التركي يدور حول فكرة الدعوة لوقف إطلاق النار مع تزايد في الاستياء الرسمي والشعبي بسبب حجم الجرائم الإسرائيلية الكبير والذي يعد دافعًا لتطور للموقف التركي ولكن في أُطر محدودة.

تعد تركيا إحدى الدول الإقليمية التي تقع على تماس مع تداعيات معركة طوفان الأقصى التي أطلقتها كتائب القسام الجناح العسكري لحركة حماس، في صباح 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وما تبعها من عدوان إسرائيلي على غزة، ومن الطبيعي القول: إن تركيا تفاجأت كغيرها من دول الإقليم بما حصل في 7 أكتوبر/تشرين الأول، وقد جاء أول رد فعل تركي معلن بعد بدء معركة طوفان الأقصى بحوالي 12 ساعة من بدء الحدث وتبلور الموقف السياسي التركي في شكل أقرب للحياد من خلال التعبير عن القلق إزاء أعمال العنف والتوتر في “إسرائيل” وفلسطين، وكذلك إدانة أعمال العنف وإيقاع الخسائر في أرواح المدنيين(1). كما أكد أردوغان عزم تركيا تكثيف الجهود الدبلوماسية لتهدئة الأوضاع ودعا الإسرائيليين والفلسطينيين لتجنب اتخاذ خطوات تؤجج الصراع.

صدمة الحدث والموقف الأميركي
كان الرئيس التركي يستعد لزيارة رسمية إلى إسرائيل، في نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، للقاء نتنياهو بعد لقاء جمعهما في البيت التركي في نيويورك، في 20 سبتمبر/أيلول 2023، كما كان وزير الطاقة التركي يستعد للتفاهم على اتفاقيات في مجال الطاقة، ولكن هذه الأحداث المفاجئة والصادمة جعلت هذا غير ممكن، وفي إطار بلورة الموقف التركي قامت تركيا بجملة من الاتصالات الخارجية التي شملت اتصالات مع الولايات المتحدة والسلطة الفلسطينية وإسبانيا وقطر والسعودية وإيران ومصر والأردن.

ولوحظ أن أول الاتصالات التركية المتعلقة بهذا التطور جاء بين وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، ووزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، اللذين تحدثا عدة مرات منذ بداية المعركة، ولكن ما كان لافتًا هو الحديث مرتين في اليوم الأول والثاني حيث تحدث الوزيران معًا مرتين خلال السابع والثامن من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وقد احتوى الاتصال الأول، حسب الخارجية الأميركية، نقاشًا حول “حجم هجمات حركة حماس على الأراضي الإسرائيلية ووحشيتها غير المسبوقة”، وتشديدًا من بلينكن على دعم الولايات المتحدة لحقِّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها من جهة وتشجيعًا لتركيا على التدخل للحوار من جهة أخرى. فيما أكد الاتصال في اليوم التالي على تشجيع الوزير بلينكن المناقشات التركية المستمرة وسلَّط الضوء على تركيز الولايات المتحدة الثابت على وقف هجمات حركة حماس وضمان إطلاق سراح كافة الرهائن(2).

وقد تكرر الاتصال بين بلينكن وفيدان، في 16 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وفيه تم التأكيد من بلينكن على تجنب اتساع رقعة الصراع وتقليص التكاليف الإنسانية للحرب الدائرة، وكذلك على ضرورة أن توقف حركة حماس كافة الهجمات العنيفة وتطلق سراح كافة الرهائن على الفور، كما رحب بالتدخل التركي البنَّاء في هذا الصدد(3).

ووصولًا إلى الاتصال الآخر بين فيدان وبلينكن، في 29 أكتوبر/تشرين الأول، فقد أكد بلينكن على عدة نقاط منها: تكرار إدانة هجوم حركة حماس ووصفه بالهجوم الإرهابي والبربري على إسرائيل، والتأكيد على ضرورة الانخراط مع القادة الإقليميين لتجنب اتساع رقعة الصراع الدائر بين إسرائيل وحركة حماس وضمان الإفراج عن الرهائن وحشد المساعدات الإنسانية(4).

وبالتالي، يمكن القول هناك إنه من المرجح أن الإدارة الأميركية مارست ضغطًا، وما زالت، على الموقف الإقليمي عمومًا وعلى الموقف التركي موضع دراستنا هنا حيث سيصل بلينكن لتركيا في 6 نوفمبر/تشرين الثاني، كما دخلت تركيا مع بداية المعركة في حالة التخوف من تأثير اتساع رقعة الصراع على المصالح التركية المتصورة للمرحلة القادمة، مع رغبة متكررة في التأكيد على موقف تركي محايد أو وسيط في أحسن الأحوال. ومن الممكن أن يكون الموقف التركي دخل في الأيام الأولى للمعركة أمام حالة المفاجأة بما حدث أولًا، ومن ثم بحالة التفكير في عدم مواجهة الموقف الأميركي الذي بدا متشددًا أكثر من الموقف الإسرائيلي نفسه.

التأكيد على دور الوسيط
احتوى الموقف التركي، الذي تموضع منذ مدة في مركز الوساطة والمصالحات سواء في الحرب الروسية-الأوكرانية أو في علاقاته الإقليمية، على استعداد للمساهمة بدور يمنع تفاقم الأحداث مع البدء في إجراء جملة من الاتصالات الدبلوماسية مع الأطراف المعنية(5). وبالتالي بدا واضحًا أن تركيا حريصة على أمرين أساسيين: الأول: تقديم نفسها وسيطًا يمكنه مراعاة مصالحه مع الطرفين، والمساهمة مع بقية الأطراف الدولية والإقليمية، والمحافظة على الاستقرار ومنع توسع الصراع على أساس افتراض أن عدم الاستقرار يضر بالمصالح والخطط التركية في المنطقة.

على المستوى الإجرائي، قام وزير الخارجية التركي في إطار المساهمة بتحقيق هدف منع توسع الصراع بجملة زيارات شملت مصر ولبنان في البداية بزيارة لمصر بين 13 و14 أكتوبر/تشرين الأول والتي التقى خلالها بالرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، وقد أعلنت تركيا رفضها الطلب الإسرائيلي من الفلسطينيين مغادرة شمال قطاع غزة خلال 24 ساعة، معتبرةً قطع الكهرباء والماء والغذاء عن 2.5 مليون فلسطيني متنافيًا مع المبادئ الإنسانية وخطأ إسرائيليًّا لابد من التراجع عنه في الحال(6). وهنا يعتبر الموقف التركي عاملًا جيدًا في تعزيز الرفض المصري لاستقبال الفلسطينيين الذين تريد إسرائيل تهجيرهم من غزة إلى سيناء.

وعلى التوالي، في 17 أكتوبر/تشرين الأول، قام وزير الخارجية التركي بزيارة إلى لبنان التقى خلالها رئيس الوزراء اللبناني، نجيب ميقاتي، ورئيس الأركان العامة، الجنرال جوزيف عون. وقد لوحظ خلال زيارة فيدان للقاهرة وبيروت أن الزيارة شملت برامج أخرى مثل لقاء رجال أعمال أو افتتاح مقرات لمؤسسات تركية مما أضفى البعد الروتيني وليس الاستثنائي على الزيارات.

ومع ذلك، حملت زيارة فيدان إلى لبنان عرضًا لملامح مقاربة سياسية؛ حيث قال فيدان: إن أنقرة لديها “أفكار واضحة” بشأن السلام مشددًا على وجوب التركيز على وسائل جديدة فيما يتعلق بتأسيس الدولة الفلسطينية، مبينًا أن تركيا لديها بعض الأفكار في هذا السياق، ولعله كان يقصد مقترح نظام الضامنين لإيجاد حل دائم للصراع واستعداد تركيا لتكون ضامنًا للجانب الفلسطيني مع دعوة بقية الأطراف للمساهمة في إنجاح هذا الأمر.

وكذلك كرَّر فيدان أن بلاده تدير محادثات بغرض التوسط في إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين والأجانب من أسر «حماس» في قطاع غزة، وأن دول العالم التي ينتمي إليها الأسرى الأجانب باركت هذه الخطوة وكلَّفته بالتفاوض باسمها، وأن الحكومة الإسرائيلية واصلت تهميش هذه المفاوضات وأصرت على تحرير الأسرى بالقوة. وعلى كل الأحوال تزايدت حدة النبرة التركية تجاه الاحتلال حيث وقف فيدان على ضرورة إعادة صياغة التعريفات واستخدام مصطلح السرقة بدلًا من مصطلح الاستيطان(7).

وعقب اجتماع الحكومة، في 9 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وجَّه أردوغان جملة من الرسائل يمكن إجمالها في التالي:

تركيا مستعدة لكافة أشكال الوساطة بما في ذلك تبادل الأسرى في حال طلب الطرفان، الفلسطيني والإسرائيلي، ذلك.
تركيا لا ترضى بأن يتعرض أي شخص بريء لأذى سواء في الأراضي الإسرائيلية أو الفلسطينية.
الحرب لها أخلاقها، والأطراف ملزمون بمراعاتها.
ضرورة أن توقف إسرائيل قصفها للأراضي الفلسطينية، وللفلسطينيين بوقف تحرشاتهم ضد التجمعات السكنية المدنية في إسرائيل.
تدمير قطاع غزة بالهجمات البرية والجوية وقصف المساجد وموت الأطفال والنساء والمسنين والمدنيين الأبرياء أمر غير مقبول على الإطلاق.
تركيا تقوم بالتحضيرات اللازمة لتأمين المساعدات الإنسانية التي سيحتاجها سكان غزة.
بعد ذلك وفي ظل سخونة الشارع التركي تجاه ما يجري في غزة، وتحرك الأحزاب التركية الصغيرة، مثل السعادة والمستقبل، لإدانة العدوان الإسرائيلي ومطالبة حكومتهم باتخاذ اجراءات قوية، بدأ القلق يتزايد في تركيا، بدأت تظهر محددات جديدة في الخطاب، مثل: “التعامل مع حماس على أنها المسؤول الوحيد عما يحدث هي مقاربة غير صحيحة”، وبينما لا تعفي هذه الكلمات حماس من المسؤولية فهي تؤكد أن الموقف التركي مستمر في سياق الوساطة حيث وسَّعت تركيا، في 10 أكتوبر/تشرين الأول، مباحثاتها لتشمل روسيا والأمم المتحدة ودول الخليج. كما شهدت هذه الفترة تعبيرًا عن القلق التركي من وجود حاملة الطائرات الأميركية في البحر المتوسط.

ومع تزايد العدوان الإسرائيلي وارتفاع أعداد الشهداء ارتفعت نبرة حديث أردوغان الانتقادية لإسرائيل بسبب قصف المدنيين ومنع دخول المساعدات داعيًا إياها إلى عدم التصرف كتنظيم بل كدولة مؤكدًا أن تركيا جاهزة للوساطة والتحكيم العادل من أجل تخليص المنطقة من هذه الدوامة.

هنا وبعد مرور أسبوع على بدء الحرب، لوحظ دخول عامل جديد في الموقف التركي وهو إدانة الموقف الغربي والتساؤل عن دوره في الدفاع عن حقوق الإنسان. كما انتقد أردوغان الموقف الأميركي بلغة السؤال: “أيهما أنسب للولايات المتحدة: الذهاب لإحلال السلام أم الذهاب بالبنزين والوقود؟”. ومع ذلك لم يحدث أي تحول عن موقف لعب دور الوسيط والبحث عن سبل وقف إطلاق النار والتفاوض لإحلال السلام واستمرار الاتصالات المكثفة لإطلاق سراح الرهائن. كما بدأت تركيا في هذه المرحلة بإرسال المساعدات عبر مصر والتنسيق حول الموقف العام مع مصر.

بمعنى أن تركيا استمرت في هذه المرحلة أيضًا بالعمل على فكرة الوساطة مع زيادة نبرة الانتقاد للاحتلال الإسرائيلي والموقف الغربي المساند له وذلك انسجامًا مع تزايد حجم الجرائم الإسرائيلية وتزايد الغضب إزاء ذلك في الشارع التركي.

التواصل مع حماس
حافظت تركيا على تواصلها مع حركة حماس وتواصل الإعلام التركي مع قادة حماس لمعرفة دور قيادة الحركة السياسية في اتخاذ قرار المعركة وعلاقة الأطراف الإقليمية الأخرى بالقرار خاصة أن أوساطًا إعلامية تركية كانت تشير في بداية المعركة إلى أن مثل هذه العملية لا يمكن أن تتم دون التنسيق مع إيران وحزب الله، وهو ما تبين عدم دقته لاحقًا.

وقد نفت حركة حماس عبر بيان رسمي وتركيا (عبر مركز مكافحة المعلومات المضلِّلة التابع لدائرة الاتصال في الرئاسة التركية) ما نُشر عن مطالبة تركيا لقيادات حركة حماس بمغادرة أراضيها بعد بداية معركة طوفان الأقصى، والذي أشار له موقع المونيتور، ومع ذلك لوحظ أنه لم يصدر عن قيادات حركة حماس أي موقف إعلامي من تركيا خلال الأيام الأولى للمعركة. وفي ذات السياق، قالت السفيرة الإسرائيلية لدى أنقرة، يوم 8 أكتوبر/تشرين الأول 2023: إن من السابق لأوانه مناقشة الوساطة، وقالت: إن هجوم حماس يُظهر أنه ينبغي ألا يكون للحركة أي وجود في تركيا أو أي مكان آخر(8).

كما أجرى هاكان فيدان، في السادس عشر من أكتوبر/تشرين الأول، اتصالًا مع إسماعيل هنية، رئيس حركة حماس، لبحث تطورات القتال وإطلاق سراح الرهائن. ولم تتوقف اتصالات تركيا عند فيدان فقد قام أردوغان بالاتصال بهنية، في 21 أكتوبر/تشرين الأول، مشيرًا لجهود تركيا لضمان وقف إطلاق النار، وضمان وصول المساعدات الإنسانية وإمكانية علاج الجرحى في تركيا عند الضرورة. وفي 24 أكتوبر/تشرين الأول، التقى فيدان مع هنية في الدوحة للتباحث حول نفس القضايا وسبل وقف العدوان وإدخال المساعدات(9). ويُعتقد أن اللقاء بين وزير الخارجية التركي وحماس كان امتدادًا للموقف التركي منذ بداية المعركة.

استهداف مستشفى الأهلي
كان استهداف مستشفى الأهلي في غزة، في 17 أكتوبر/تشرين الأول، قد أثار ردة فعل كبيرة جدًّا في الشارع التركي ولدى مختلف الأوساط الحزبية التركية، وقد سمحت السلطات لأول مرة في ليلة استهداف المستشفى بالاعتصام مقابل السفارة الإسرائيلية في أنقرة والقنصلية الإسرائيلية في إسطنبول حيث لم يتم السماح قبل ذلك إلا بتجمعات في أماكن بعيدة.

وفي ذات اليوم، أدانت تركيا بشدة استهداف مستشفى الأهلي ودعت لمحاسبة العقلية التي تستهدف المدنيين بشكل مباشر وتستهدف المستشفيات والمدارس، ولكن لوحظ هنا أن البيان الذي أصدرته وزارة الخارجية التركية واحتوى عنوانه على الإشارة إلى هجوم إسرائيل على مستشفى لم يأتِ على ذكر إسرائيل أو الحكومة الإسرائيلية في متن البيان(10). ومع حالة الغليان والغضب لدى الأوساط المحافظة في تركيا طلبت إسرائيل من مواطنيها مغادرة تركيا بأسرع وقت حفاظًا على سلامتهم.

وخلال هذه الفترة تعالت أصوات بعض الأحزاب المحافظة الصغيرة في تركيا في نقد الاحتلال والمطالبة بتدخل أكبر لتركيا، ومن هذه الأحزاب أحزاب معارضة، مثل السعادة والمستقبل، ومنها أحزاب مؤيدة، مثل الرفاه الجديد والهدى بار، ولكن دخول حزب الحركة القومية، الحليف الرئيسي للعدالة والتنمية، على الخط الداعي لدور رئيسي لتركيا بالرغم من بعض الأصوات القومية التي أثارت خلال الأسابيع السابقة أن قضية فلسطين لا تعني تركيا وليست مرتبطة بتركيا، كان عاملًا داخليًّا دافعًا لاتخاذ موقف أكبر من الحكومة ومن حزب العدالة والتنمية.

وفي هذا السياق، قال دولت بهتشلي، زعيم الحركة القومية وحليف الرئيس رجب طيب أردوغان: “إذا لم يتم الاتفاق على وقف لإطلاق النار في غزة خلال 24 ساعة ووقف العدوان على المظلومين، فأنا أعلنها بوضوح لشعبنا أنه يجب على تركيا التدخل فورًا والقيام بكل ما يلزم وفقًا لمسؤوليتها التاريخية والإنسانية والدينية، فمهمة حماية غزة هي ميراث أجدادنا”. وقد خفَّف بهتشلي بعد ذلك من حدة هذا التصريح بالقول إنه يقصد التدخل في الإطار الذي أعلنته وزارة الخارجية التركية(11).

حماس ليست إرهابية
مع الاستمرار على نفس الموقف السابق كسلوك للدولة إلا أن باب التوتر في العلاقات التركية-الإسرائيلية قد تم فتحه حيث كانت الجملة السياسية الأبرز من الرئيس أردوغان في ظل الحملة الإسرائيلية الغربية لوصف حركة حماس بالإرهاب عندما أشار في كلمة أمام نواب حزبه بالبرلمان هي أن حركة حماس ليست منظمة إرهابية ولكنها منظمة تحرير تخوض معركة لحماية أرضها. كما أعلن أردوغان في هذه الكلمة أنه لن يزور إسرائيل كما كان مخططًا من قبل، وأكد أن العالم الغربي قد يكون مدينًا لإسرائيل ولكن تركيا لا تدين لها بشيء وأكد أن تركيا ليس لديها مشكلة مع دولة إسرائيل بل مع سياسات إسرائيل تجاه الفلسطينيين. واستمر نسق انتقاد الموقف الغربي في الموقف التركي حيث استنكر أردوغان رفض المفوضية الأوروبية لدعوة وقف إطلاق النار(12).

وقد كرر أردوغان هذه التصريحات في تجمع جماهيري حاشد في إسطنبول داعيًا لوضع حدٍّ لحالة الجنون الإسرائيلية، وبالطبع ردَّت إسرائيل، في 28 أكتوبر/تشرين الأول، على تصريحات أردوغان التي تم اعتبارها خطيرة وقامت باستدعاء طاقمها الدبلوماسي من تركيا من أجل تقييم العلاقات.

وقد استمرت تركيا في مسار منع اتساع مساحة الحرب، وقد جاء التواصل مع إيران في هذا السياق مع انتقاد الموقف الأوروبي الرافض لوقف إطلاق النار، والتأكيد على نظام الضامنين مرة أخرى واعتبار أن المؤتمر الدولي للسلام سيكون المنصة الأنسب لهذا العمل، مع استمرار التشاور حول مكان وكيفية عقد المؤتمر مع المعنيين.

مقترح الضامن
من الواضح أن مشروع الضمانة التركية الذي تحدثت عنه تركيا ليس واضحًا تمامًا أو أن لديها مخططًا لكن هي تريد فتحه للنقاش والتحسين، لصنع أساسات للتفاوض، وجذب عدد أكبر من الضامنين. وباختصار يرتكز مشروع الضامن على الانتقال من الدبلوماسية العادية التي أثبتت فشلها فيما يتعلق بحل الدولتين خلال 30 عامًا إلى التحول نحو الدبلوماسية القسرية من خلال وجود ضامنين لكل طرف سواء في تنفيذ وقف إطلاق النار أو عملية سلام مستقبلية. ولكن ليس واضحًا كيف يمكن أن تجبر الأطراف الضامنة وتركيا تحديدًا الأطراف المتقاتلة على تنفيذ الخطوات اللازمة والمتفق عليها.

ويشبه مقترح تركيا فكرة عملية آستانا لسوريا في بعض الجوانب. وفي هذا السياق، فإن روسيا قامت بدعم هذه الفكرة واستعدت لنقاشها كما رحبت إيران بأي مبادرة يمكن أن توقف الحرب، فيما لا تبدو الأطراف الغربية مهتمة بهذا المقترح، ولكن حتى فكرة آستانا ليست فكرة مغرية ولا تعد ناجحة وفق كثير من المراقبين، وهذا يُبقي إمكانية نجاح فكرة الضامنين غير قوية.

خاتمة
بقيت تركيا محافظة على الخط الدبلوماسي الداعي لوقف إطلاق النار والسعي لاجتراح أدوات جديدة لإنجاح المسارات السياسية مع انتقاد الاحتلال والغرب وواكب ذلك خطوات عملية في المجال الانساني والصحي وإرسال المشافي الميدانية. ولا تزال الحكومة التركية تتعرض للانتقادات من عدد من الأحزاب المعارضة وخاصة المستقبل والسعادة التي تطالب بفرض عقوبات على الاحتلال بدلًا من التظاهر والخطب الحماسية(13).

بعد مرور شهر على الحرب، بقي الموقف التركي في دائرة الاستعداد للعمل الدبلوماسي والسياسي والرغبة في عدم فقد دور الوسيط لإنجاح الفكرة السياسية الجديدة التي تطرحها تركيا وهي فكرة الضامنين، بالرغم من أن الموقف التركي في عام 2021 خلال معركة سيف القدس كان أكثر دعمًا للموقف الفلسطيني لكن حجم الجرائم الإسرائيلية الذي أشعل الغضب لدى الشعب التركي أدى ضمن دوافع أخرى إلى تصعيد لهجة الانتقاد من السياسيين الأتراك مما وتَّر العلاقات وجعل دولة الاحتلال تستدعي دبلوماسييها للتشاور من أجل تقييم العلاقة.

لا يوجد في الأفق الكثير من التغيير في الموقف التركي سوى المزيد من الإصرار، وقد تكون تركيا تعوِّل على لعب دور في مرحلة ما بعد نتنياهو؛ حيث أكدت ذلك تصريحات أردوغان التي قال فيها: إن “نتنياهو لم يعد شخصًا يمكننا التحدث معه بأي شكل من الأشكال. لقد محوناه وألقيناه جانبًا”، مدللًا أنه حتى “الداخل الإسرائيلي يشهد حاليًّا تصريحات مناهضة له”، وأن نتنياهو شخص يثير غضب الشعب الإسرائيلي أيضًا، وقد فقد دعم مواطنيه ويسعى لحشد دعم للمجازر عبر استخدام تعبيرات دينية”(14). وستحاول تركيا أن تتموضع وتجد لها دورًا في أي حل سياسي قادم وستسعى للعمل بشكل جماعي والتنسيق مع كل من مصر وقطر وإيران ولبنان والأردن والسلطة الفلسطينية وستظل تعبِّر عن الغضب والاستياء من الجرائم الإسرائيلية لتنسجم مع نبض الشارع التركي الذي لديه حساسية عالية تجاه الانتهاكات لكل معايير الإنسانية من قبل الاحتلال الإسرائيلي.