في 29 نوفمبر (تشرين الثاني)، وفي مؤتمر صحافي بقاعة “المسرح” المخصصة للمؤتمرات الصحافية التي تقع في الطابق الأرضي لمقر حلف شمال الأطلسي في بروكسل، وقف الأمين العام للناتو ينس ستولتنبرغ يعدد المكاسب التي حققتها القوات الأوكرانية العام الماضي في مقابل الخسائر التي منيت بها الروسية في حرب أوكرانيا، مبشراً بمواصلة تكبيد موسكو خسائر فادحة العام الحالي، في حين استعادت أوكرانيا “50 في المئة من الأراضي التي استولت عليها روسيا”. وفي البحر الأسود، “نجح الأوكرانيون في صد الأسطول الروسي، وأنشأوا طرقاً لصادرات الحبوب، مما عزز الأمن الغذائي العالمي”.
واصل الأمين العام للناتو الحديث عن خسائر الكرملين، الذي أصبح “أضعف سياسياً وعسكرياً واقتصادياً”. لكن مهلاً، فسرعان ما نبه ستولتنبرغ الحلفاء من خطر التقليل من شأن روسيا، التي تدير اقتصاد حرب ولديها مخزون كبير من الصواريخ، وتهدد شبكة الكهرباء والبنية التحتية للطاقة في أوكرانيا قبيل فصل الشتاء.
وبعد ثلاثة أيام فقط من هذه التصريحات، أقر ستولتنبرغ في مقابلة مع قناة “آي آر دي” الألمانية، بأنه “يتعين علينا أن نكون مستعدين لتلقي أخبار سيئة”، مشيراً إلى أن أوكرانيا الآن في “وضع حرج”، لكنه رفض أن يوصي بما يجب أن تفعله كييف قائلاً: “سأترك الأمر للأوكرانيين والقادة العسكريين لاتخاذ هذه القرارات العملياتية الصعبة”.
وبينما تقترب الحرب التي طالما اعتبرها المنتقدون حرباً بالوكالة بين روسيا والغرب بقيادة الولايات المتحدة على الأراضي الأوكرانية، من ختام عامها الثاني، يبدو أن هناك كثيراً من الشكوك في واشنطن والعواصم الأوروبية في شأن قدرة أوكرانيا على استعادة مساحات حاسمة من الأراضي، التي استولت عليها موسكو، فمع دخول فصل الشتاء وتجمد الخطوط الأمامية في مكانها، بات كبار المسؤولين العسكريين في أوكرانيا يقرون بأن الحرب وصلت إلى طريق مسدود، مما يطرح التساؤلات في شأن انتقال “كرة النار” التي كادت تحرق بوتين إلى الغرب.
نهاية القيصر التي لم تكتمل
خلال العام الماضي، كانت التقارير الصحافية الغربية تتحدث عن نهاية حكم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، باعتبار أن عدوانه على أوكرانيا هو عملية انتحارية. وأشارت إلى سلسلة إخفاقات في أوكرانيا زادت من غضب واستياء الشعب الروسي. وذكرت الصحافة البريطانية، آنذاك، أن “الضرر الذي ألحقه الفشل العسكري بالمؤسسة السياسية” كان واضحاً في حجم التقارير عن الاقتتال الداخلي في الكرملين.
إضافة إلى الخسائر العسكرية، من حيث الجنود والعتاد والتي تختلف تقديراتها بين موسكو وواشنطن، فبطبيعة الحال، عانى الاقتصاد الروسي صدمة كبيرة نتيجة للعقوبات الغربية غير المسبوقة التي فرضت بعد الغزو.
وأظهرت وثيقة حكومية اطلعت عليها وكالة “رويترز”، في أغسطس (أب) الماضي، أن روسيا ضاعفت هدفها للإنفاق الدفاعي لعام 2023 إلى أكثر من 100 مليار دولار، أي ثلث إجمالي الإنفاق العام، مع تصاعد كلف الحرب في أوكرانيا، وفرض ضغوط متزايدة على المالية العامة للبلاد. وفي وقت يرتفع فيه الإنفاق العسكري الروسي وتضغط العقوبات على إيراداتها من الطاقة، تواجه موسكو معركة للسيطرة على عجز موازنتها.
وفقدت روسيا جزءاً كبيراً من سوق الغاز الأوروبية، لكنها تمكنت من الاستمرار في بيع نفطها إلى الأسواق العالمية، على رغم أن الولايات المتحدة وأوروبا وقوى أخرى حدت أو أوقفت مشترياتها، وجرى استبعادها من الأسواق المالية الغربية، وجرى فرض عقوبات على معظم دائرة بوتين، كما تواجه موسكو مشكلات في الحصول على بعض العناصر، مثل الرقائق الإلكترونية. وتخلفت روسيا عن سداد سنداتها الأجنبية للمرة الأولى منذ الأشهر الكارثية التي أعقبت الثورة البلشفية في عام 1917.
جمود
وعلى رغم حجم الدمار، الذي ألحقته روسيا بجارتها في الغرب، فإن الدعم الغربي لأوكرانيا لعب الدور الأساس في صمود قواتها خلال عام 2022، فالولايات المتحدة، الداعم الأكبر لكييف، قدمت أكثر من 76 مليار دولار من المساعدات. وبينما كان التفاؤل يخيم على التوقعات الغربية لعام 2023، فإن الهجوم المضاد الذي طالما جرى الإعداد له بصرامة، لم يفلح الصيف الماضي في تلبية التوقعات، حتى باتت هناك تقارير متزايدة تتحدث عن توتر بين القيادة العسكرية الأميركية ونظيراتها الأوكرانية.
وفي يونيو (حزيران) الماضي، شنت أوكرانيا هجوماً مضاداً بهدف استعادة الأراضي التي تحتلها روسيا، لكن حلفاء كييف، الذين أمدوها بالأسلحة، أعربوا عن قلقهم إزاء تقدمها البطيء حتى الآن، وهو ما اعترف به الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي.
ويقول مراقبون، إن العام بدأ بعزيمة غربية في ذروتها، وكانت القوات الأوكرانية واثقة للغاية، وتوقع الرئيس زيلينسكي تحقيق نصر حاسم. لكن الآن، هناك حالة من عدم اليقين على جميع الجبهات، المعنويات في أوكرانيا تتضاءل، وتحول الاهتمام الدولي نحو الشرق الأوسط، وحتى بين مؤيدي أوكرانيا، هناك عزوف سياسي متزايد عن المساهمة بشكل أكبر. ووفق صحيفة “واشنطن بوست” الأميركية، فإنه في كل نقطة تقريباً على طول الجبهة، تباينت التوقعات والنتائج مع تحول أوكرانيا إلى جيش بطيء الحركة لم يستعد سوى أجزاء صغيرة من الأراضي.
وبدأ بعض المسؤولين العسكريين الأميركيين بشكل خاص في استخدام مصطلح “الجمود”، لوصف المعركة الحالية في أوكرانيا، حيث يقول البعض، إن الأمر قد يقتصر على الجانب الذي يمكنه الاحتفاظ بقوة عسكرية لأطول فترة. ولا يحرز أي من الطرفين خطوات كبيرة في ساحة المعركة، التي يصفها بعض المسؤولين الأميركيين الآن بأنها حرب البوصات. ووفق محلل الدفاع فيكتور كوفالينكو، وهو جندي أوكراني سابق، تحدث لمجلة “نيوزويك” الأميركية، فإنه على عكس التفاؤل السائد في العام الأول من الحرب، فإن عديداً من أنصار زيلينسكي “غير مستعدين لقبول أن أوكرانيا تنفد من الخيارات لطرد المحتلين الروس من جميع أراضيها والعودة لحدود عام 1991”.
فرص الفوز
وتقر مجلة “إيكونوميست” البريطانية، أن للمرة الأولى منذ بداية الغزو الشامل لأوكرانيا، تبدو فرص بوتين في الفوز بالحرب واقعية على نحو متزايد، إذ وضع الرئيس الروسي بلاده في حالة حرب، وعزز قبضته على السلطة، وقام بشراء الإمدادات العسكرية الكافية من الخارج، ويساعد في تأليب الجنوب العالمي ضد أميركا، فضلاً عن أنه أصبح قادراً على تقويض الاقتناع في الغرب بأن أوكرانيا قادرة، بل ويجب عليها، أن تخرج من الحرب باعتبارها ديمقراطية أوروبية مزدهرة.على الجانب الآخر، تشير استطلاعات الرأي إلى تململ غربي من مواصلة الإنفاق على الحرب. في أميركا، يرفض تيار واسع داخل الحزب الجمهوري، الذي يسيطر على مجلس النواب في الكونغرس الأميركي، مواصلة ضخ الأموال في حرب لا تلوح لها نهاية في الأفق، حتى إن المجلس استبعد أوكرانيا من خطة مساعدات طارئة شملت إسرائيل وقضايا داخلية أخرى. وتكافح إدارة الرئيس جو بايدن للحصول على موافقة الكونغرس عن تمويل بقيمة تزيد على 60 مليار دولار، وقريباً ستقف حملات انتخابات الرئاسة 2024 عائقاً في سبيل مزيد من الإنفاق على الحرب.
ويتوقع مراقبون أنه في حال عاد دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، فإنه بعد أن وعد بتحقيق السلام في وقت قصير، فقد تتوقف واشنطن فجأة عن إرسال الأسلحة لأوكرانيا. وتعتقد “الإيكونوميست” أنه ينبغي على أوروبا أن تستعد لهذا الاحتمال الوخيم، ولإبطاء المساعدات الأميركية، أياً كان الرئيس الموجود في البيت الأبيض.
وعلى الصعيد الأوروبي، فإنه بعد توليه منصبه، تعهد رئيس وزراء سلوفاكيا المنتخب حديثاً روبرت فيكو، بوقف تسليم الأسلحة إلى أوكرانيا، في حين أجلت المجر أيضاً دفعات من المساعدات، على رغم تعهد الاتحاد الأوروبي لأوكرانيا بـ50 مليار يورو (56 مليار دولار أميركي).
وأصبح المزاج العام في كييف أكثر قتامة. ففي الأسابيع الأخيرة الماضية، تزايدت انتقادات معارضي الرئيس الأوكراني الذين اتهموه بسوء التعامل مع الهجوم المضاد، والفشل في القضاء على الفساد، والتهرب من الانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها في مارس (آذار)، وفقدان النوايا السياسية الدولية الطيبة.
وفي مقابلة مع موقع “20 مينتس” السويسري، شن رئيس بلدية كييف فيتالي كليتشكو، هجوماً ضد الرئيس الأوكراني قائلاً إنه “يعتبر زيلينسكي معزولاً واستبدادياً بشكل متزايد”، بحسب مقتطفات نقلتها صحيفة “ديلي تليغراف” البريطانية.
وأضاف كليتشكو، أن شعبية زيلينسكي آخذة في التراجع، وأنه “سيدفع ثمن أخطائه بخسارة السلطة في نهاية المطاف”. ويعد بطل العالم السابق في الملاكمة للوزن الثقيل، الذي يشغل منصب عمدة كييف منذ عام 2014 خصماً سياسياً لزيلينسكي، لكن تعليقاته تعكس الاستياء المتزايد من الرئيس بعد 21 شهراً من الحرب والهجوم المضاد الفاشل.
مفاوضات سلام
وفيما يبدو أن حالة من القلق تخيم على الغرب، فإن تقارير صحافية تشير إلى أن مسؤولين من أميركا وأوروبا بدأوا التحدث سراً مع الحكومة الأوكرانية في شأن ما قد تنطوي عليه مفاوضات سلام محتملة مع روسيا لإنهاء الحرب. فوفق مسؤولين أميركيين حاليين وسابقين تحدثوا لشبكة “سي أن بي سي”، الأميركية، الشهر الماضي، فإن المحادثات تضمنت الخطوط العريضة لما قد تحتاج أوكرانيا إلى التخلي عنه للتوصل إلى اتفاق.
وقال المسؤولون، إن بعض المحادثات “الحساسة”، جرت أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، خلال اجتماع لممثلي أكثر من 50 دولة تدعم أوكرانيا، بما في ذلك أعضاء الناتو، المعروفة باسم مجموعة الاتصال الدفاعية الأوكرانية.
وقال المسؤولون، إن المناقشات تمثل اعترافاً بالديناميكيات عسكرياً على الأرض في أوكرانيا، وسياسياً في الولايات المتحدة وأوروبا. فالمحادثات بدأت وسط مخاوف بين المسؤولين الأميركيين والأوروبيين من أن الحرب وصلت إلى طريق مسدود، وفي شأن القدرة على مواصلة تقديم المساعدات لأوكرانيا. وقال المسؤولون إن إدارة بايدن تشعر بالقلق أيضاً من نفاد القوات في أوكرانيا، في حين أن لدى روسيا إمدادات لا نهاية لها على ما يبدو، لذا فإن أوكرانيا ليس لديها على الأرجح سوى مهلة حتى نهاية العام أو بعد ذلك بوقت قصير قبل بدء مناقشات أكثر إلحاحاً حول مفاوضات السلام. وتكافح أوكرانيا أيضاً من أجل التجنيد، وشهدت، أخيراً، احتجاجات عامة حول بعض متطلبات التجنيد المفتوحة التي فرضها الرئيس زيلينسكي.
وبينما يختلف المراقبون في شأن استعداد بوتين للمفاوضات، فإنه أمر محتمل بالنظر إلى أن الرئيس الروسي أثبت أنه أكثر واقعية خلال العامين الماضيين. يقول الكاتب الأميركي، نيك باتون والش، إن بوتين أظهر كثيراً أنه غير مهتم بالتصعيد، وهو ما يتضح في الحرب النووية، إذ إنه أظهر أنه شخص براغماتي، وليس رجلاً مجنوناً عازماً على نهاية العالم، كما أنه يكافح من أجل هزيمة جاره الضعيف، ولا يستطيع مواجهة الناتو بالكامل.
لكن بينما يدرك معظم القادة الغربيين أنه لا يمكن الوثوق ببوتين، وأن موسكو تستخدم الدبلوماسية كخدعة مفيدة، لتحقيق أهدافها العسكرية، فإن المراقبين يرون أنه يتعين على الغرب أن يواصل تسليح أوكرانيا بالكامل وبسرعة، إذ أثبت النهج المتمثل في التنقيط البطيء للأسلحة أنه كارثي، إذ وصلت أنظمة الصواريخ التكتيكية الأميركية (ATACMS) ودبابات “أم أبرامز”، لكن بعد فوات الأوان لإحداث تغيير كبير.
كما يتعين على الغرب أن يوضح أن أي اتفاق سلام مع روسيا لن يسمح لها بالحفاظ على ممر بري عبر جنوب شرقي أوكرانيا بين البر الرئيس الروسي وشبه جزيرة القرم، مما سيحرم موسكو، مما يمكن أن تسميه نصراً استراتيجياً.ويؤكد المراقبون أن الأمر الأكثر أهمية هو أن أوروبا والولايات المتحدة، يجب أن تحافظا على اقتناعهما بأن هذه معركة وجودية من أجل الأمن الغربي، ويعتمد على نتائجها طموحات الصين تجاه تايوان، وأمن حدود حلف شمال الأطلسي والسماح، لزعيم متهم بارتكاب جرائم حرب بالإفلات من العقاب. ومن ثم يحذِّر كثيرون من فوز بوتين، إذ إن الثمن ربما لن يدفعه هذا الجيل فحسب، بل الجيل القادم.