تأتي الضربات التي تقودها الولايات المتحدة ضد المتمردين الحوثيين في الوقت الذي ينشر فيه شركاء طهران الفوضى في المنطقة، من لبنان إلى البحر الأحمر. ويخشى الخبراء أن هذه ليست سوى البداية.
* * *
حلقت الطائرات الحربية والصواريخ الموجهة الغربية في سماء اليمن في الساعات الأولى من صباح يوم الجمعة، في رد دراماتيكي على الأزمة المتفاقمة التي تجتاح المنطقة، حيث تواجه الولايات المتحدة وحلفاؤها صراعًا مباشرًا مع مسلحين مدعومين من إيران.
وتأتي هذه الضربات ضد المقاتلين الحوثيين ردا على أسابيع من الاقتتال في البحر الأحمر، حيث حاولت الجماعة الحوثية مهاجمة أو خطف العشرات من سفن الشحن والناقلات المدنية، فيما تصفه بأنه انتقام للهجوم العسكري الذي تشنه إسرائيل على غزة.
وقد نفذت واشنطن موجة القصف الجوي المكثف لمخازن الجماعة العسكرية ومواقع إطلاق طائراتها من دون طيار بالشراكة مع القوات البريطانية، بدعم من تحالف دولي متنام يضم ألمانيا، وهولندا، وأستراليا، وكندا، وكوريا الجنوبية والبحرين.
كانت التوترات بين طهران والغرب تتصاعد في الأسابيع التي تلت شن حليفتها، “حماس” الفلسطينية، هجومها في 7 تشرين الأول (أكتوبر) على إسرائيل، في حين كثف “حزب الله” اللبناني الذي يسيطر على جزء كبير من جنوب لبنان إطلاق صواريخه عبر الحدود.
وإلى جانب “حماس” و”حزب الله”، يشكل الحوثيون جزءًا من “محور المقاومة” الذي تقوده إيران، والذي يعارض كلاً من الولايات المتحدة وإسرائيل.
والآن، أصبح احتمال نشوب صراع شامل في واحدة من أكثر المناطق هشاشة من الناحية السياسية، وأهمية من الناحية الاستراتيجية في العالم، يخيف المحللين الأمنيين وأسواق الطاقة على حد سواء.
مخاوف التصعيد
رد قادة الحوثيين على الضربات التي شهدت قيام القوات الأميركية والبريطانية بضرب أكثر من 60 هدفًا في 16 موقعًا، بشجاعة مميزة.
وحذروا من أن الولايات المتحدة والمملكة المتحدة “سيتعين عليهما الاستعداد لدفع ثمن باهظ وتحمل جميع العواقب الوخيمة” لما وصفوه بأنه “عدوان صارخ”.
وهدد عبد السلام جحاف، عضو مجلس أمن الجماعة، بقوله: “سنواجه أميركا ونركِّعها ونحرق بوارجها وكل قواعدها وكل من يتعاون معها. مهما كلفنا الأمر لن نترك غزة، ولتشتعل الحرب الكبرى”.
ومع ذلك، في أعقاب العملية الأميركية-البريطانية الليلية، قالت كميلي لونس، الزميلة الزائرة في “المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية”، أنه قد تكون هناك الآن “فترة من الهدوء لأن الأمر قد يستغرق إيران بعض الوقت لتجديد مخزونات الحوثيين” قبل أن يتمكن الأخيرون من استئناف الهجمات عالية الكثافة على الشحن في البحر الأحمر.
لكنها حذرت من أن دوافعهم لمواصلة استهداف الشحن يغلب أن تظل من دون تغيير.
واتفق مع هذا الرأي جوناثان بانيكوف، ضابط المخابرات الوطنية الأميركية السابق المختص بشؤون الشرق الأدنى، الذي قال إن الضربات الغربية “من غير المرجح أن توقف العدوان الحوثي على الفور.
ومن شبه المؤكد أن هذا سيعني الاضطرار إلى الاستمرار في الرد على ضربات الحوثيين، ربما مع تصاعد في العدوان”.
وأضاف: “يرى الحوثيون أنه ليس لديهم الكثير ليخسروه، وقد شجعتهم عسكريًا عناصر الدعم الإيرانية والثقة في أن الولايات المتحدة لن تذهب إلى حد شن حرب برية”.
كما صعَّدت إيران رهاناتها أيضًا في وقت سابق من هذا الأسبوع بصعود أشخاص إيرانيين إلى سطح ناقلة نفط تديرها اليونان كانت محملة بالخام العراقي المتجه إلى تركيا، والذين قاموا بالاستيلاء عليها بعد اعتراضها أثناء عبورها مضيق هرمز.
وكان قد تم احتجاز السفينة “سانت نيكولاس” بتوجيه من الولايات المتحدة في وقت سابق لانتهاكها العقوبات المفروضة على النفط الإيراني، حيث صادرت وزارة الخزانة الأميركية حمولتها وقامت ببيعها.
والآن، أصبح قبطانها اليوناني وطاقمها المكون من 18 مواطنًا فلبينيًا محتجزين في إيران، ويشكل الحادث تصعيدًا حادًا للتهديدات التي تواجه حركة الملاحة البحرية.
الصلة الإسرائيلية
تسعى واشنطن ولندن جاهدتين إلى التمييز بين محاولتهما ردع الحوثيين في البحر الأحمر والحرب الدائرة في غزة، خشية أن يمنح دمج الأمرين لطهران ميزة دعائية في الشرق الأوسط. وفي المقابل، يحرص الحوثيون وإيران على إثبات العكس.
وتقول قيادة الحوثيين إن هجماتها على حركة الملاحة البحرية تهدف إلى الضغط على إسرائيل لوقف حربها على قطاع غزة، وتصر على أنها تستهدف السفن التجارية المرتبطة بإسرائيل أو المتجهة إلى الرسو في ميناء إيلات الإسرائيلي فقط، وهي فكرة تعارضها القوى الغربية.
وقال مسؤول أميركي كبير للصحفيين في واشنطن يوم الجمعة: “يدّعي الحوثيون أن هجماتهم على السفن العسكرية والمدنية مرتبطة بطريقة ما بالصراع المستمر في غزة -وهذا لا أساس له من الصحة وغير شرعي على الإطلاق.
كما يزعم الحوثيون أنهم يستهدفون على وجه التحديد السفن المملوكة لإسرائيل أو السفن المتجهة إلى إسرائيل.
هذا ببساطة ليس صحيحًا. إنهم يطلقون النار بشكل عشوائي على السفن ذات الروابط العالمية”.
أزمة أوسع نطاقًا في الشرق الأدنى
ليس البحر الأحمر هو النقطة الساخنة الوحيدة التي تواجه فيها القوات الأميركية والأوروبية وحلفاؤها إيران وشركاءها.
في تشرين الثاني (نوفمبر)، ضربت طائرات مقاتلة أميركية من طراز (ف-15) منشأة لتخزين الأسلحة في شرق سورية يقول البنتاغون أنها تستخدم من قبل “فيلق الحرس الثوري الإسلامي الإيراني” والمسلحين الشيعة الذين يدعمهم في البلد الذي مزقته الحرب.
وجاء الرد بعد أن أصيب عشرات الجنود الأميركيين في هجمات مرتبطة بإيران شُنت في العراق وسورية.
كما أن حرب إسرائيل مع “حماس” قد تتوسع بعد قصف أسفر عن مقتل أحد قادة الحركة في العاصمة اللبنانية بيروت في وقت سابق من كانون الثاني (يناير).
وقد تعهد “حزب الله” اللبناني برد سريع على الاغتيال وتصاعدت التوترات على طول الحدود بين البلدين، حيث تم إجلاء المدنيين الإسرائيليين من منازلهم في البلدات والقرى القريبة من الحدود.
كل ذلك يسهم في خلق بيئة تصبح أكثر تقلبًا باطراد بحيث تثير قلق الدول المجاورة، كما قال كريستيان كوخ، مدير “مركز الخليج للأبحاث” في المملكة العربية السعودية.
وقال كوخ: “هناك الكثير على المحك في الوقت الحالي. المملكة العربية السعودية وآخرون قلقون للغاية بشأن المزيد من التصعيد الذي يمكن أن يعرضهم للانتقام. الآن، ازداد خطر التصعيد الإقليمي، مما قد يعني احتمال تورط إيران أكثر في الصراع، وهذه دوامة شديدة الخطورة”.
في حين انهارت الجهود المخطط لها منذ فترة طويلة لتطبيع العلاقات بين السعوديين وإسرائيل في أعقاب هجوم 7 تشرين الأول (أكتوبر) والرد العسكري الإسرائيلي اللاحق، دفعت الرياض قدمًا بسياسة خفض التصعيد مع الحوثيين بعد عقد من الصراع العنيف، وسعت إلى تقارب غير مسبوق تقريبًا مع إيران.
وقال توبياس بورك، الخبير في أمن الشرق الأوسط في “المعهد الملكي للخدمات المتحدة”: “كان للمملكة العربية السعودية هدف واحد، هو منع هذا من التصعيد وتحوله إلى حرب إقليمية أوسع.
وقد حاولت على مدى السنوات القليلة الماضية إنهاء تدخلها في الحرب في اليمن، بما في ذلك من خلال المفاوضات مع الحوثيين -وفي الواقع، من كل ما نعرفه من الخارج، فإنهم قريبون بشكل معقول من التوصل إلى اتفاق”.
وبذلك، يشكل التحالف الغربي ضد الحوثيين مصدرًا للقلق أكثر من مبعث للراحة بالنسبة لدول الخليج.
وفق الجنرال الأميركي المتقاعد مارك كيميت، مساعد وزير الخارجية الأميركي السابق للشؤون السياسية والعسكرية، فإن “المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة تبقيان خارج هذا التحالف لأنهما لا تريدان بشكل أساسي أن يهاجمهما الحوثيون كما كان يفعل لسنوات وسنوات بصواريخ كروز”.
ومع ذلك، من غير المرجح أن يكون تواجد القوات الأميركية أو الأوروبية على الأرض ضروريًا، لأن “قدراتنا هذه الأيام على العثور حتى على قاذفات الصواريخ المتنقلة، والتعامل معها ومهاجمتها، قد تحسنت إلى حد كبير”.
وقد انخفضت حركة الملاحة البحرية عبر المنطقة مسبقًا بنسبة 20 في المائة، حسب ما قال الأدميرال إيمانويل سلارز، القائد المشترك للقوات الفرنسية في المنطقة، للصحفيين يوم الخميس.ووفقًا للبيانات التي نشرها “معهد كيل” الألماني هذا الأسبوع، فقد انخفضت التجارة العالمية بنسبة 1.3 في المائة من تشرين الثاني (نوفمبر) إلى كانون الأول (ديسمبر)، مع احتمال أن تكون هجمات الحوثيين عاملاً مساهمًا في هذا الانخفاض. وقال المعهد إن حجم الحاويات التي تُشحن في البحر الأحمر قد انخفض أيضًا، وقد أصبح حاليًا أقل بنسبة 70 في المائة تقريبًا من المعتاد.
وفي كانون الأول (ديسمبر)، تسببت الأزمة في الممر البحري في ارتفاع تكاليف الشحن ووقت النقل والواردات والصادرات من الاتحاد الأوروبي لتكون “أقل بكثير” مما كانت عليه في تشرين الثاني (نوفمبر).
وفي مؤشر على التأثير على سلاسل التوريد الصناعية، قالت شركة “تسلا” الأميركية لصناعة السيارات الكهربائية يوم الجمعة إنها ستغلق مصنعها في ألمانيا لمدة أسبوعين.يتدفق حوالي 12 في المائة من نفط العالم و8 في المائة من غازه عادة عبر هذا الممر المائي المهم، بالإضافة إلى مئات سفن الشحن.
وقد ارتفعت أسعار النفط بأكثر من 2.5 في المائة بعد الضربات، مما أثار مخاوف السوق من التأثير الذي يمكن أن يحدثه صراع أوسع على إمدادات النفط من المنطقة، وخاصة تلك التي يتم شحنها عبر مضيق هرمز الذي يربط الخليج الفارسي بالمحيط الهندي وبأهم نقطة احتشاد للنفط في العالم.
تسببت هجمات الحوثيين على البحر الأحمر، أحد أكثر الممرات المائية ازدحامًا في العالم، في قيام شركات الشحن الكبرى، بما في ذلك شركة النفط العملاقة “بريتيش بتروليوم”، بوقف نقل الشحنات عبر البحر الأحمر، واختارت سلوك طريق التفافي طويل حول رأس الرجاء الصالح بدلاً من ذلك.
وفقًا لبورك، كان التأثير على أسعار الطاقة محدودًا حتى الآن، ولكنه سيعتمد على ما سيحدث بعد ذلك. وقال: “نحن في حاجة إلى النظر في أفعال اثنتين من الجهات الفاعلة هنا. الأولى هي الحوثيون، كيف سيردون؛ والأخرى، بالطبع، كيفية رد إيران”.
وفي حين أن لدى طهران “الخيار النووي” المتمثل في إغلاق مضيق هرمز تمامًا، فمن غير المرجح أن تفعل ذلك في هذه المرحلة.
وأضاف: “لا أعتقد أن مضيق هرمز هو التالي. أعتقد أنه سيكون هناك عدد غير قليل من الخطوات على سلم التصعيد أولاً”.
لكن سيمون تاغليابيترا، خبير الطاقة في “مركز بروغل للأبحاث” في بروكسل، حذر من أن مواجهة متصاعدة مع إيران قد تؤدي إلى تطبيق أكثر صرامة للعقوبات على صادراتها النفطية.
وكان الغرب قد غض الطرف عن مبيعات طهران المتزايدة للصين في أعقاب الحرب في أوكرانيا، والتي خففت بعض الضغوط على أسواق الطاقة العالمية.
ويعتقد تاغليابيترا أن الحملة “يمكن أن تؤدي إلى ارتفاع أسعار النفط العالمية بشكل كبير، مما يدفع التضخم إلى الأعلى ويزيد من تعقيد الجهود التي تبذلها البنوك المركزية للسيطرة عليه”.
ومع ذلك، يمكن للمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة المساعدة في التعويض عن نتائج مثل هذه الخطوة من خلال زيادة إنتاجهما النفطي الخاص -شريطة أن تكونا على استعداد للمخاطرة بإثارة غضب إيران.