إن الاعتبار الأساسي لأي دولة أو نظام سياسي هو مقدار ما لديه من إرادة سياسية وقرار مستقل وخطط وبرامج تنموية شاملة لجميع ميادين الحياة ومشاريع وأعمال للبناء والإعمار ترفع من شأن ومكان البلاد بين أقطار ودول العالم ويكون لديها التأثير المباشر على المحيط السياسي الذي تنتمي اليه أو تكون جزءا حيويا من علاقات دولية وإقليمية ورأي سديد في العلاقات الدولية ذات المصالح المشتركة الفعالة بما يخدم مستقبل وأمال الشعوب والساعية الى الغد المشرق .
إن أي سياسة داخلية ذات أبعاد تعبوية إنما تحقق الهدف المجتمعي في تعزيز علاقات القيادات السياسية الحاكمة في البلد مع جميع قطاعات الشعب وبكافة إنتماءاته وإتجاهاته حفاظاً على النسيج الإجتماعي وتماسكه والسعي لتطوير البلاد نحو التقدم والإزدهار بعيداً عن أي تدخل إقليمي ودولي في الشؤون الداخلية والإبتعاد عن التأثير على مستقبل الشعب تحقيقا لإرادات ومصالح تخدم الدول والأقطار التي تبيح لنفسها حق التدخل في شؤون البلد والعمل وفق مشاريع سياسية تخدم المصالح العليا لتلك الدول التي ترى أن لها الحق في التدخل كون الدولة التي تتواجد فيها بأي شكل من الأشكال قد سمحت لها بالتدخل أو إبداء الرأي والتحكم بشؤونه الداخلية والخارجية وإيجاد القواعد والركائز التي تسمح للدول ذات التأثير أن ترسم ملامح مستقبل البلاد والعمل على تحقيق مأربها وأهدافها السياسية فيه ، وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا إذا ما تم جعل البلد أداة طيعة وساحة مفتوحة وأبواب مشرعة لأي تدخل أجنبي وبصيغة إحتلال أو نفوذ وهيمنة سياسية وشروع ميداني في تنفيذ الأهداف والمشاريع السياسية ذات البعد الإستراتيجي والذي يخدم الأفكار والطموحات التي تسعى اليها البلدان التي تتدخل في حياة الشعوب وتعمل على تواجدها بشكل تام وعبر أداوات ووكلاء وهيئات تكون أداة لتنفيذ المشاريع السياسية ذات الأفق البعيد تحقيقا لمصالح الإرادات الدولية والإقليمية الداعمة لها .
والعراق البلد الحضاري التاريخي الكبير الذي ساهم في إحياء المعارف والعلوم وتعليم الإنسانية أولويات القراءة والكتابة وأضحى البلد موطن لكل الحضارات الإنسانية التي ساهمت في تطور الشعوب وتقدم الأمم وإشاعة روح التعاون والتأزر والتلاحم نحو بناء الحياة الحرة الكريمة والمجتمع الإنساني الكبير ، قد أصابه الكثير من الوهن والضعف نتيجة المشاريع السياسية والنفوذ والهيمنة وأوجه السيطرة والتحكم به والتي كانت إحدى نتائج الاحتلال الأمريكي للعراق في 9 نيسان 2003 وما تلاه من مشاريع أستهدفت وحدته الوطنية وتماسكه الإجتماعي وإرادته الجماهيرية وقوة وصلابة شعبه الواحد حتى أضحت ساحة البلاد مرتعاً خصباً للعديد من الخطط والبرامج العدوانية التي رأت أن الفرصة سانحة لها لتنفيذ إراداتها ومشاريعها السياسية الخبيثة تجاه العراق الكبير بأهله وشعبه وتاريخه بعد أن أصبحت الظروف مؤاتية لهم ولأحلامهم وأدواتهم التي سعوا اليها دهوراً وسنين كثيرة حتى يروا الواقع المأساوي الذي أمست البلاد عليه في ظل سياسة ميدانية إبتعدت كثيرا عن طموحات أبناء الشعب ، وبهذا أصبح العراق مشاعاً لكل المخططات والمشاريع التي أستهدفت وحدته الوطنية والتدخل في شؤونه الداخلية ورسم ملامح حاضره في كافة ميادين الحياة وشكلت تدخلاً سياسياً سافراً في الشؤون العامة للعراق وطبيعة السياسة المتبعة فيه وهددت أمنه الوطني والقومي وجعلت البلاد ساحة لتصفية الحسابات السياسية الإقليمية والدولية، ومنها ما أشار اليه وزير الدفاع الإيراني محمد رضا اشتياني يوم 17 كانون الثاني 2024 إلى ( أن إيران تتعامل بحزم ومن دون قيود فيما يتعلق بالدفاع عن مصالحها)، وهذا ما يعني التدخل المباشر لاستهداف الأمن القومي للاقطار العربية ومنها العراق عندما انطلقت الصواريخ الإيرانية ليلة السادس عشر من كانون الثاني 2024 نحو أربيل بزعم وجود أهداف تستهدف الأمن الإيراني وأمعان في التدخل السافر وعدم احترام للعلاقات الدولية وتأكيد للتوجه الإيراني بأنه يمتلك القدرة على تنفيذ مشروعه الإقليمي الممثل في الهيمنة والنفوذ وانه المفتاح الرئيسي لتقديم نفسه كقوة إقليمية في منطقة الشرق الأوسط وعلى دول العالم أن تتعامل معه على هذا الأساس، وانه يبتعد عن تصريحاته بإعتماده أسلوب دبلوماسية الحوار والانفتاح مع دول الجوار وأقطار الخليج العربي وإنما يسعى لتعزيز مفهوم الحصول على المكاسب وتعزيز المنافع دون تقديم اي حلول لمواجهة الأزمات في المنطقة العربية او في أي مكان يتعارض ومصالحه وتوجهاته.
لا يمكن للعلاقات الدولية السياسية أن تسمح لأي مسؤول في أي بلد أخر أن يتحدث نيابة عن بلد أخر وإلا فإن عملية التدخل ستكون مشروعة وبعيدة عن كل ما أتى به علم السياسة والعلاقات بين بلدان العالم الذي يحكم طبيعة التعامل الدولي بينهم.
كما يشكل التصريح الذي أدلى به وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان يوم السابع عشر من كانون الثاني 2024 وبعد القصف الجوي لمدينة أربيل بقوله ( ما قمنا به يتماشى مع أمن العراق والمنطقة بأكملها) علامة فارقة في العلاقات الدولية بين البلدان ويؤكد حقيقة التدخل والنفوذ والهيمنة الإيرانية ودليل على استمرار النظام الإيراني في مشروعه السياسي داخل العراق وإعتبار العاصمة بغداد هي إحدى العواصم العربية التي أصبحت تحت النفوذ السياسي لنظام طهران وكما جاء على لسان (حيدر مصلحي ) وزير الإستخبارات الإيراني السابق في حكومة محمود أحمدي نجادي ( أن إيران تسيطر فعلاً على أربع عواصم عربية وهي بيروت-دمشق-صنعاء-بغداد ) ، وتتكرر هذه الأحاديث دائما وفي جميع وسائل الاعلام والمحافل السياسية التي يتواجد فيها النفوذ الايراني.
إتسمت حركة ونشاط المسؤولين الإيرانيين عن الملف العراقي بتعزيز الإرادة الميدانية للنظام الإيراني والحرس الثوري في وضع الخطط واعداد التشكيلات والهياكل التي تحدد مسارات العمل للفصائل المسلحة التي أنشأها وساهم في إعدادها الحرس الثوري وبإشراف فيلق القدس متخذاً من الأرض العراقية ساحة لتنفيذ توجهات وأهداف النظام الإيراني ومؤسساته الأمنية والاستخبارية ومنطلقاً نحو عواصم الأقطار العربية وخاصة بلدان الخليج العربي ولبنان وسورية واليمن وساعده في ذلك ابتعاد الإدارة الأمريكية وسعيها لحل مشاكلها مع النظام الإيراني في الملف النووي وبرامج الأسلحة الباليستية برسم ملامح صورة جديدة لإتفاق مستقبلي مع ايران يحدد فيه الأسس والخطوات التي على كل من واشنطن وطهران اتباعها حلاً للخلافات السياسية والبدأ بمرحلة جديدة في العمل على رفع العقوبات الاقتصادية عن طهران وعودتها لعلاقتها مع المحيط الدولي ، وتشكل العمليات التعرضية على الأهداف والاماكن في العراق او اي دولة أخرى عوامل ضغط تستخدم من قبل النظام الإيراني عبر أدواته ووكلائه داخل العراق لدعم السياسة التفاوضية مع الشركاء الأوربين وواشنطن والحصول على نتائج متقدمة تخدم السياسة التوسعية للنظام وتساعده على مواجهة التدهور الحاصل في المنظومة الاقتصادية الداخلية والتخفيف من شدة المعارضة التي يواجهها من قبل الشعوب الايرانية.
وحدة الدراسات الايرانية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية