التدخل السافر لرجال الشرطة والأمن في شؤون الإيرانيين بإيعاز من النظام يطال أدق تفاصيل حياتهم اليومية ويمس أبسط الحريات الشخصية فلا يحق للإيرانيين رجالا ونساء أثرياء وفقراء أن يختاروا لباسهم وأن يختاروا الهيئة التي يريدون أن يظهروا بها في الشوارع والأماكن العامة. فمن يلبي رغباته في اللباس ويختار ما يلائم الموضة وما يتماشى مع ذوقه يعرض نفسه لسوء المعاملة من رجال الأمن وللإهانة في الفضاء العام والأخطر أنه يواجه عقوبات قانونية مثل السجن.
منذ قيام الثورة الإسلامية عام 1979 فرض نظام الملالي، ومازال، القوانين التي تسير الشأن العام والشأن الخاص، فالرؤية الإسلامية لدولة الفقيه يجب أن تنتشر وتمتد في جميع أنحاء البلاد عبر فرض الدين ومظاهر التدين قسرا على الجميع ولا خيار أمام أفراد المجتمع في ذلك، بل هم مجبرون بالقانون على تطبيق النموذج المجتمعي الذي تريد الدولة أن ترى رعاياها عليه. الدين والتدين يفرضان قسرا على الناس سواء بالملبس حيث ترغم النساء على ارتداء الحجاب والرجال يمنعون من ارتداء ربطات العنق أو بمصادرة جميع أشكال الحريات والتدخل حتى في المأكل والمشرب.
بعد انتصار الثورة الإسلامية أقرت تشريعات عديدة تقنن اللباس الإيراني ومنع بموجبها على الرجل ارتداء ربطة العنق في جميع الأماكن وفي كل المناسبات وذلك بعد إفتاء رجال الدين وعلى رأسهم المرشد الأعلى أية الله خامنئي الذي أكد في فتاويه أن “ارتداء ربطة العنق غير جائز” وينظر رجال الدين الإيرانيون إلى ربطة العنق على أنها تشبه في شكلها الصليب وبالتالي فهي حسب أيديولويجيتهم رمز للصليب ولدين ولباس الغرب العدو والكافر… وهو ما جعل الأجهزة التابعة للشرطة وقوات الأمن تمنع المحال التجارية ومحلات الألبسة من المتاجرة في ربطات العنق، ومن يخالف هذا المنع يعرض نفسه للتتبعات القانونية والجزائية.
هذا ما يفسر عدم ارتداء الرجال في إيران لربطات العنق داخل الحدود الإيرانية وخارجها وعندما يسافر الإيرانيون لا يقدمون على ارتداء ربطة العنق خوفا من العقوبة وخوفا مما سيلحقهم من تهم بالكفر وتجاوز للقانون خاصة إن كان سفرهم لفترة قصيرة، أما رجال الدولة والسياسيون الإيرانيون فلا يرتدونها لا داخل الدولة ولا خارجها حتى عندما يمثلون بلادهم في المناسبات الدولية وهو ما يميزهم في جميع تحركاتهم الدبلوماسية ويثير استغراب العديد من المتابعين للشأن السياسي خاصة من الدول الغربية حيث لا يفهمون السر وراء ظهور السياسيين الإيرانيين في المحافل الدولية في ملابس حديثة ومتأنقين دون ربطة عنق.
إيران هي الدولة الوحيدة في العالم التي تمنع الرجال من ارتداء ربطات العنق ورجال الدين الإيرانيون أبدعـوا في فتاواهم الدينية وتفطنوا خلافا لجميع رجال الدين في العالم الإسلامي لأن شكل ربطة العنق يرمز للصليـب. التطرف في قراءات وتفسير الشريعة الإسلامية على الطريقة الإيرانية بلغ درجة من التشدد لم تبلغها أغلب الدول التي تطبق الشريعة الإسلامية، فلم تسع أي من هذه الدول إلى التدخل في حرية اللباس خاصة بالنسبة إلى لباس الرجال إلى هذا الحد كما لم تطرح لدى رجال الدين فكرة أن ربطة العنق ترمز للصليب، ولم يتجرأ هؤلاء على البحث عن كل شقيقـة ورقيقـة من الشـريعة الإسـلامية ليضيقوا بها على المجتمع مجال الحريات الشخصية.
ولا تقف سطوة السلطات الدينية والسياسية الإيرانية عند حرمان ومنع الرجال من ارتداء ربطات العنق بل تتجاوزها إلى منع حلق الشعر على الطريقة الأجنبية وإلى التدخل في حلق اللحي من عدمه وإلى منع الوشم ومنع تسريحات الشعر التي تشبه بنظرهم تلك التي يقوم بها عبدة الشيطان والملحدون بل تجاوزه إلى أن كل شخص يدعو إلى توسيع دائرة الحريات الشخصية والاجتماعية يلقى مواجهة عنيفة من رجال الدين المتشددين وهو ما تعرض له الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد الذي تعرض لموجة انتقادات شديدة اللهجة من رجال الدين عام 2010 عندما دافع على ارتداء ربطة العنق بقوله “أن لا أحد من كبار رجال الدين حرم ارتداء ربطة العنق”، حيث رد عليه رجل الدين عضو مجلس خبراء القيادة حاليا في إيران آية الله أحمد خاتمي بلهجة شديدة حيث قال في تصريحات نقلتها وسائل إعلام عديدة “قلت له إن الكثير من رجال الدين يرون أنه لا ينبغي وضع ربطة العنق. المرشد الأعلى، آية الله علي خامنئي نفسه أكد في فتوى أن ارتداء الكرافت وربطة العنق الرسمية الصغيرة غير جائز”.
كما انتقد خاتمي الرئيس الإيراني الأسبق لكونه صرح بأن بعض رجال الدين يقولون إن حلق اللحية “ليس مشكلة”، وقال إن “معظم رجال الدين وخاصة المرشد الأعلى أكدوا أن حلق اللحية حرام”.
هذا المثال يحيلنا إلى استكشاف درجة تشبث رجال الدين المتمكنين من السلطة في إيران بأحادية الرأي وبفرض رؤيتهم ومعتقداتهم على الشعب الإيراني، فتشددهم في فرض نمط لباس معين على جميع أفراد المجتمع بلغ حد صدّ كل من يحاول تخفيف التضييق على الحريات حتى في حال كان المحاول في أعلى درجات السلطة السياسية فما بالك لو كانت محاولات الحصول على الحق في اللباس وعلى هامش بسيط من الحرية الشخصية نابعة من عامة الشعب سواء كان الشباب أو الرجال أو النساء.
لا تقف المحرمات عند منع ربطة العنق وتحديد تسريحات الشعر “الشرعية” (المسموح بها) ولا عند فرض الحجاب على الفتيات منذ صغر سنهن بل تصل إلى حد التدخل في الألوان التي يسمح للمرأة بارتدائها وفي نوعية السراويل وألوان الأحذية وحتى كيفية وضع الماكياج. ولأن قائمة الممنوعات تطول فقد طرح البرلمان الإيراني عام 2004 فكرة اعتماد لباس “وطني إسلامي” من أجل محاربة آثار الموضة في المجتمع الإيراني وهذه أيضا تندرج ضمن الحرب ضد الاختلاف وضد كل السلوكيات ومظاهر الحياة اليومية التي تحمل إحالات ودلالات على التشبه بالغرب وهو يصنف ضمن المحرمات والكفر.
سامح بن عبادة
صحيفة العرب اللندنية