معالم الحقبة الجديدة في العلاقات التركية المصرية

معالم الحقبة الجديدة في العلاقات التركية المصرية

مع إجراء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان زيارته التي كانت منتظرة منذ فترة إلى القاهرة في 14 فبراير/ شباط الجاري، أصبح من الواضح أنّ حقبة جديدة في العلاقات التركية المصرية قد انطلقت بالفعل. مع أن البلدين أعادا تبادل السفراء في يوليو/ تموز العام الماضي بعد أزمة استمرت لعقد من الزمن، إلا أن زيارة أردوغان اكتسبت أهمية بالغة، ليس فقط لمُجرد كونها الأولى له إلى مصر منذ اندلاع الأزمة، بل لأنها دشّنت عمليًا دبلوماسية القادة مع السيسي، والتي تسبّب انعدامها في فترة الأزمة بتعميق القطيعة السياسية وإطالة أمدها لفترة طويلة.

وبالنظر إلى الآثار التي خلّفتها الأزمة على علاقات البلدين، فإن تجاوزها بالكامل سيستغرق بعض الوقت. لذلك، يُمكن إدراج التحولات التي طرأت على العلاقات منذ شروع البلدين في المحادثات الاستكشافية وصولًا إلى إعادة تبادل السفراء والزيارات رفيعة المستوى، في إطار التأسيس للوضع الجديد في العلاقات.

لقد وضع الرئيسان أردوغان والسيسي في قمة القاهرة خريطة طريق للحقبة الجديدة في العلاقات ترتكز على عدّة مسارات تتمثل في رفع مستوى التبادل التجاري إلى 15 مليار دولار أمريكي سنويًا، وتعزيز الاستثمارات المتبادلة، والتعاون في القضايا الإقليمية المهمة بالنسبة للجانبين.

حقيقة أن تركيا ومصر لديهما أكبر سواحل مُطلة على شرق البحر المتوسط، تجعل من التعاون بينهما بوابة لتحويل شرق المتوسط إلى منطقة سلام وتعاون إقليمي أوسع. مع ذلك، فإن التعقيدات المحيطة بمثل هذا التعاون ستبقى مؤثرة في هذا السياق

حقيقة أن العلاقات الاقتصادية والتجارية -فضلًا عن التنسيق الأمني والاستخباراتي- التي لم تنقطع تمامًا خلال حقبة الأزمة، تُفسر على نحو كبير كيف أن مجالات التعاون الاقتصادي والعسكري تأخذ الحيّز الأكبر من الاهتمام التركي المصري في الحقبة الجديدة. مع ذلك، فإن السياسات الإقليمية للبلدين ستكون محط اهتمام كبير بعد المصالحة.

إن الأسباب التي دفعت أنقرة والقاهرة إلى تجاوز القطيعة، مُتعددةٌ وتتنوع بين ذاتية تتعلق بحاجتهما إلى التركيز على المنافع الاقتصادية والتجارية، ومزايا التعاون الثنائي في القضايا الإقليمية المؤثرة عليهما، وأخرى إقليمية ارتبطت بالبيئة الجديدة التي نشأت في الشرق الأوسط منذ مطلع العقد الجاري، والتي شرعت فيها القوى الفاعلة المتنافسة في المنطقة في إعادة ضبط علاقاتها، والتحول من سياسة المنافسة الحادة إلى التصالح. مع ذلك، فإن القاسم المشترك بين جميع هذه العوامل هو أنها تشكّلت كنتيجة لتفوق منطق الواقعية السياسية في إدارة العلاقات بين هذه القوى، ومن بينها تركيا ومصر.

ولأن المنطق الذي هيمن على مقاربة أنقرة والقاهرة لعلاقاتهما خلال أزمة العقد تحدى بشكل صارخ هذه الواقعية، فإن الأزمة أفسحت المجال أمام الآثار الجانبية لها لتشكيل واقع جيوسياسي جديد حتى عام 2020 قوّض من قدرة تركيا ومصر على التعاون في ليبيا وشرق البحر المتوسط، وهو ما خلق فرصة أمام قوى منافسة أخرى للعب دور أكبر في هاتين القضيتين يتجاوز حدود نفوذها ومكانتها الإقليمية.

بينما حالت القطيعة السياسية بين أنقرة والقاهرة دون مواءمة مصالحهما في ليبيا خلال العقد الماضي، فإنها في المقابل خلقت هامشًا أمام قوى أخرى لتعزيز حضورها في المشهد الليبي، بشكل اقتطع من حصة الدور المصري في ليبيا، وأفرز تحديات إضافية على الدور التركي في هذا البلد.

إن الطريقة التي عادة ما تدفع القوى الإقليمية الكبيرة إلى التفكير في عواقب الاستمرار في نهج التصادم، تتمثل في أن وصول هذا النهج إلى نقطة قريبة من حافة الهاوية يدفعها إلى إعادة حساباتها. وهذه الطريقة عملت كدافع قوي لأنقرة والقاهرة لتغيير مقاربتهما لدوريهما في ليبيا عندما كاد يؤدي دعمهما العسكري المتعارض لأطراف الصراع في عام 2019 إلى مواجهة عسكرية مباشرة.

يُمكن النظر إلى مخاطر الصدام بين تركيا ومصر في ليبيا في تلك الفترة على أنها شكّلت نقطة التحوّل الجذري في علاقات البلدين من نهج الأزمة إلى التهدئة، ومحاولة التعايش مع بعضهما بعضًا في ليبيا. وهذا يُجسد مفهوم الواقعية الجيوسياسية.

بالنظر إلى أن تركيا ومصر قوتان إقليميتان كبيرتان، فإن منطق الواقعية الجيوسياسية عمل كنقطة توازن بين المنافسة وبين تجنب مخاطر خروجها عن القواعد التي تفرضها هذه الواقعية. والافتراض السائد بعد زيارة أردوغان إلى القاهرة- والرسائل التي أطلقها مع السيسي حول رغبة البلدين في التعاون في ليبيا – أن الحقبة الجديدة في العلاقات التركية المصرية نقلت سياسات البلدين في ليبيا إلى مستوى يُساعدهما في مواءمة مصالحهما ودفع جهود إنهاء الانقسام الليبيّ.

من غير المتصور أن العقبات التي تواجه التعاون الثنائي في الملف الليبي انتهت تمامًا، لكن التركيز التركي المصري على القواسم المشتركة المتعددة للبلدين في ليبيا – وعلى رأسها إنهاء الصراع – يخلق بيئة مناسبة لكليهما للشروع في عملية مواءمة المصالح.

وعلى صعيد الصراع الجيوسياسي في شرق البحر المتوسط، فإن الأزمة التركية المصرية، التي تحدّت منطق الواقعية الجيوسياسية، لم تُقوض فحسب من قدرة البلدين على محاولة مواءمة مصالحهما في هذه المنطقة، بل أفسحت المجال أمام دول أخرى- مثل اليونان- للاستفادة من القطيعة التركية المصرية؛ من أجل تقوية موقفها في صراعها مع تركيا، وتعظيم تأثيرها في معادلة الصراع في شرق المتوسط، بما يتناقض مع منطق الواقعية الجيوسياسية.

وحقيقة أن تركيا ومصر لديهما أكبر سواحل مُطلة على شرق البحر المتوسط، تجعل من التعاون بينهما بوابة لتحويل شرق المتوسط إلى منطقة سلام وتعاون إقليمي أوسع. مع ذلك، فإن التعقيدات المحيطة بمثل هذا التعاون ستبقى مؤثرة في هذا السياق.

وحتى في الوقت الذي بدأت فيه القاهرة تميل إلى فكرة التعاون مع أنقرة في معادلة شرق البحر المتوسط، فإنها ستسعى إلى الموازنة بين علاقاتها الجديدة مع تركيا وعلاقتها مع اليونان، لكنّ هذا التوازن سيُعظم في المستقبل من فرص نقل الصراع الجيوسياسي في شرق البحر المتوسط، إلى مرحلة التعاون الإقليمي الجماعي لدول الحوض.

إن الواقعية السياسية -التي جعلت ما بدا أنه مستحيل خلال أزمة العقد الماضي بين تركيا ومصر أصبح واقعًا الآن- تُجسد في جانب آخر البراغماتية التي يتّسم بها الرئيس رجب طيب أردوغان. وهذه البراغماتية كانت مُكملًا للواقعية السياسية في نقل العلاقات التركية المصرية إلى هذا الوضع الجديد.

إن الحكمة المتصورة من البراغماتية أنها تعمل على دفع القادة إلى التركيز على مصالح بلادهم، حتى لو تطلب الأمر إحداث تحول جذري في السياسات والتخلي عما تبدو أنها قناعات مترسخة لديهم.

وهذا بالضبط ما فعلته براغماتية أردوغان في التحول من خطاب النقد الشخصي الحادّ للسيسي خلال حقبة الأزمة إلى خطاب القادة فيما بينهم.