منذ عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وإيران لا تكفّ عن محاولات الاستثمار في حرب غزّة لتعزيز وضع نظامها في الداخل، أو لتحسين مواقعها التفاوضية في العلاقة مع الخارج. بدأت إيران هذه المحاولات بعد أن استوعبت صدمة 7 أكتوبر، سواء لجهة نتائجها أو توقيتها، إذ كانت منخرطةً في محاولة جدّية أخيرة للتفاوض مع واشنطن على العودة إلى الاتفاق النووي ورفع العقوبات قبل أن يدخل موسم الانتخابات الرئاسية الأميركية، حيث يلوح شبح عودة ترامب في الأفق ومعه مخاوف العودة إلى سياسة “الضغوط القصوى” التي استخدمها لإضعاف طهران بعد انسحابه من الاتفاق النووي في مايو/ أيار 2018.
ردّ فعل إيران الأولي على هجمات 7 أكتوبر تمثل في الترحيب بها مع “النأي بالنفس” عنها، وهو ما جاء على لسان المرشد مباشرة في اليوم التالي، خوفاً من ردّة فعل أميركية أو إسرائيلية ضد ايران، بعد أن حاول الطرفان تصوير الهجمات وكأنها “11 سبتمبر” إسرائيلية، لكن الصمود الأسطوري لفصائل المقاومة الفلسطينية في غزّة دفع إلى إعادة إيران النظر في موقفها، فبدأت تنسب لنفسها فضلاً في نجاحات المقاومة، وتلمّح إلى علاقة لها بها، حتى بلغ الأمر بأحد قادة الحرس الثوري أن يزعم إن عملية طوفان الأقصى جاءت رد فعل على قتل أميركا قائد فيلق القدس، قاسم سليماني، في مطار بغداد مطلع يناير/ كانون الثاني 2020، ولو أن العملية تأخّرت قليلا لتتوافق مع الذكرى الرابعة لتصفية سليماني، لوجدنا من يشدّد في إيران على هذه الرواية البائسة، وهو ما لم تتحمّله حركة حماس التي ثارت ثائرتها على محاولات تقزيم تضحيات الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال، وهي التي بدأت قبل مولد سليماني، لا بل قبل ولادة نظام الملالي نفسه في طهران.
محاولات إيران الاستثمار في حرب غزّة، وتجيير الدم الفلسطيني لخدمة أجندتها الإقليمية والدولية (وهي استمرار لسياسة محاربتها بالدم العربي في سورية والعراق واليمن ولبنان وغيرها خدمة لمصالحها)، لم تتوقّف هنا، بل سلكت طريقها المعهودة في تحريك أدواتها الإقليمية، بعيداً عنها، لإحداث حالة من الفوضى، ثم التفاوض مع واشنطن على إعادة الاستقرار، بعد أن تكون قد قبضت الثمن. إذ أوعزت إيران، بعد أن برّأتها واشنطن من أي علاقةٍ بهجمات 7 أكتوبر، لوكلائها في العراق وسورية (من غير الواضح ما إذا كان هذا ينطبق على الحوثيين في اليمن) بشنّ هجماتٍ ضد الوجود العسكري الأميركي في البلدين بحجّة الضغط على واشنطن لوقف الحرب في غزّة، في حين أن الهدف الحقيقي هو دفع واشنطن إلى التفاوض، بما في ذلك على خروجها من العراق وسورية. وكانت إيران تطلب في ذلك كله من حلفائها اتباع استراتيجية شديدة الحذر، بمعنى مهاجمة القواعد الأميركية من دون توليد رد فعل كبير من واشنطن قد تدفع طهران ثمنه. لكن الأمور لم تسرِ دائما بهذا الاتجاه، اذ سقط في آخر هجوم على قاعدة أميركية (البرج 22) شمال الأردن، ثلاثة قتلى، ما تسبّب في هجوم أميركي واسع طاول 85 هدفا للمليشيات التابعة لإيران واستهداف بعض رؤوسها.
هنا تغير كل شيء. وبحسب تقرير نشرته وكالة رويترز الأحد الماضي، أرسلت إيران على عجل قائد عملياتها في المشرق العربي، إسماعيل قاآني، في زيارة سريعة لم يخرج خلالها من مطار بغداد، خشية أن يلقى مصير سليماني، بعد يومين فقط من استهداف البرج 22، وطلب من قادة المليشيات التابعين له وقف كل الهجمات على القوات الأميركية في سورية والعراق “لأن استمرارَها قد يؤدّي إلى هجوم أميركي ضد إيران”. وبالفعل، منذ 4 فبراير/ شباط الجاري، لم تتعرّض القواعد الأميركية في سورية والعراق، بحسب وزارة الدفاع الأميركية، لأيّ هجمات، رغم قتل واشنطن القيادي في “كتائب حزب الله” العراقي أبو باقر الساعدي في السابع من الشهر نفسه. كانت رسالة إيران واضحة هنا: نحن من أطلق الهجمات ونحن من على واشنطن الحديث معه لإعادة الاستقرار الإقليمي. … اللوم كل اللوم في ذلك يقع على عاتق الطرف العربي الذي نأى بنفسه عن قضاياه، وترك إيران “تبيع وتشتري” بالدم العربي.