تدخل الحرب الأوكرانية عامها الثالث في ظل حالة من عدم اليقين حول مآلاتها، فموازين القوى على الأرض تؤكد أن الحسم من قبل موسكو أو كييف ما زال بعيداً جداً، وأن مسار الحرب يتجه نحو سيناريو حرب استنزاف، من المقدر لها أن تستمر لسنوات، في ظل غياب أي أفق سياسي راهناً يمكن البناء عليه للوصول إلى تسوية من خلال المفاوضات.
هذه الحرب دخلت حالة جمود بعد فشل الهجوم الأوكراني المعاكس صيف العام الماضي، مع عمليات محدودة من الهجمات المتبادلة، كانت اليد العليا فيها نسبياً للجيش الروسي الذي استعاد زمام المبادرة، فيما اضطر الجيش الأوكراني إلى اعتماد تكتيكات دفاعية. وما يزيد المشهد ضبابية، ارتفاع الشكوك في إمكانية استمرار الدعم العسكري والاقتصادي الأميركي لأوكرانيا بوتيرته الحالية، وقدرة بلدان الاتحاد الأوروبي على التحمّل وتقديم المزيد على المدى الطويل، في ظل احتمالات غياب أو تراجع الدور الرئيسي الذي لعبته واشنطن منذ الأيام الأولى لاندلاع الحرب، والتباينات الأوروبية الداخلية في الموقف من الحرب.
وبانتظار عودة السخونة للجبهات المتوقعة في الربيع المقبل، لخّص الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، في مؤتمره الصحافي السنوي في 23 ديسمبر/كانون الأول الماضي، المآلات المتوقعة للحرب في عام 2024 بالقول: “أعتقد أن لا أحد يعرف الجواب… حتى قادتنا أو شركاؤنا الغربيون”. في المقابل، بدا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في وضع مريح نوعاً ما في مؤتمره الصحافي السنوي، في 14 ديسمبر الماضي، بتأكيده أن “القوات الروسية تعزز مواقعها على جميع الخطوط الأمامية للحرب في أوكرانيا تقريباً”، وأن “أهداف العملية العسكرية الخاصة الروسية في أوكرانيا لم تتغير”.
هذه الصورة ربما تعكس واقع الحال اليوم، إلا أن مستقبل تطوّر الصراع يتسم بالضبابية، على الرغم من التشاؤم الذي يبديه زيلينسكي، ومحاولة بوتين أن يظهر بمظهر المتفائل بكسب الحرب في نهاية المطاف، خصوصاً أن معطيات عديدة تؤثر على طرفي الصراع. فأوكرانيا التي تنتظر الدعم الخارجي قد يتراجع الاهتمام الأميركي بها، خصوصاً مع دخول الولايات المتحدة سباق الرئاسة أواخر العام الحالي، ووسط مخاوف من انقلاب في موقف واشنطن بحال وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.
لكنها في المقابل قد تحاول تعزيز ضغطها في الربيع على شبه جزيرة القرم في محاولة لكسر الستاتيكو القائم. في المقابل، فإن روسيا ربما تفتح جبهة جديدة، قد تكون باتجاه مدينة أوديسا، خصوصاً في غياب أي أفق سياسي، وهو ما يتجلى فيما كشفته وكالة “رويترز” قبل أيام، نقلاً عن مصادر روسية، من أن الولايات المتحدة رفضت مقترحاً لبوتين بوقف إطلاق النار في أوكرانيا لتجميد الحرب، وذلك بعد اتصالات بين وسطاء.
من الاجتياح الشامل إلى التغيرات في مسار الحرب الأوكرانية
بدأت الحرب الروسية على أوكرانيا في 24 فبراير/شباط 2022 بضربات صاروخية شملت مئات الأهداف العسكرية والبنى التحتية، ترافقت مع اجتياح شامل وسريع للأراضي الأوكرانية على امتداد مئات الكيلومترات، من الشرق والشمال والجنوب. واستطاعت القوات الروسية السيطرة على مقاطعة تشيرنيهيف في الشمال، والوصول إلى ضواحي العاصمة كييف وإطباق الحصار عليها من الشمال والشرق. وكذلك السيطرة على أجزاء واسعة من مقاطعتي زابوريجيا وخيرسون في الجنوب، ومقاطعة خاركيف، وتوسيع مناطق تواجدها في مقاطعتي لوغانسك ودونيتسك شرقاً.
كانت روسيا تراهن على حرب سريعة وخاطفة، إلا أن هذه المراهنة تلاشت سريعاً
وكانت روسيا تراهن على حرب سريعة وخاطفة، إلا أن هذه المراهنة تلاشت سريعاً بعد ما يقرب من أربعة أسابيع فقط من بدء اجتياح قواتها للأراضي الأوكرانية، بفعل المقاومة الأوكرانية الشرسة، ومعاناة القوات الروسية المتقدمة من مشاكل لوجستية كبيرة، وتكبّدها خسائر كبيرة في الأرواح والمعدات.
واضطرت قيادة الجيش الروسي إلى إعادة النظر في خططها العسكرية، فقررت الانسحاب من ضواحي كييف، ومقاطعة تشيرنيهيف، وتركيز جهدها على مقاطعات شرق وجنوب أوكرانيا، وربط المناطق التي تسيطر عليها روسيا في تلك المقاطعات برياً مع شبه جزيرة القرم، وحرمان أوكرانيا من الوصول إلى بحر آزوف، وهو ما حققته بالفعل بعد استيلائها على مدينة ماريوبول الاستراتيجية، في مايو/أيار 2022.
ومثّل الانكفاء الروسي التحوّل الرئيسي الأول في مسار الحرب، وتعزز بالهجوم المعاكس والخاطف الذي شنّته القوات الأوكرانية على جبهات مقاطعة خاركيف شرق البلاد، في سبتمبر/أيلول من عام 2022، ومن ثم على مقاطعة خيرسون. ونتيجة الهجوم المعاكس استعادت القوات الأوكرانية حوالي ثلاثة آلاف كيلومتر مربع من الأراضي الذي احتلها الجيش الروسي، وأجبرته على الانسحاب من مدينة خيرسون الاستراتيجية في نوفمبر/تشرين الثاني، ضمن ما عرف بإعادة الانتشار.
وحمل التغير في مسار الحرب على عدة مراحل متداخلة (حينذاك) مجموعة من الدلالات، أهمها سوء أداء المستوى القيادي في الجيش الروسي، والضعف الكبير في الإعداد والقدرات اللوجستية. ويضاف إلى ذلك خطأ في تقدير إمكانيات القوات الأوكرانية وقدرتها على الصمود، ومدى فاعلية الدعم العسكري النوعي الذي قدّمه الغرب لأوكرانيا، في تلك المرحلة، على الرغم من محدوديته كمّاً ونوعاً مقارنة مع ما كانت تطالب به أوكرانيا، وهو ما أجبر روسيا على تقليص أهدافها عدة مرات.
رهان موسكو على أن هجومها سيحظى بالترحيب في المناطق ذات الأغلبية السكانية من أصول روسية لم يكن واقعياً
وثبت أن رهان موسكو على أن هجومها سيحظى بالترحيب في المناطق الأوكرانية ذات الأغلبية السكانية من أصول روسية لم يكن واقعياً، وبرز هذا في شراسة المقاومة التي أبدتها مدينة خاركيف وضواحيها في بداية الحرب، وتكبّد القوات الروسية خسائر فادحة، اضطرتها لاحقاً للانسحاب في سبتمبر/أيلول 2022. ومثّل ذلك خذلاناً غير متوقع للقيادة الروسية، وفي المقابل عامل راحة للقيادة الأوكرانية التي كانت تخشى أن تشكل خاركيف خاصرة رخوة بالنظر إلى النزعة الانفصالية التي اجتاحتها عام 2014، مع مقاطعتي دونيتسك ولوغانسك.
في محاولة التقليل من وقع الانتكاسات التي تعرضت لها القوات الروسية، وفرض سقف أدنى لأي تسوية سياسية مستقبلاً، وقّع بوتين في 30 سبتمبر 2022 على وثيقة لضم أربع مقاطعات أوكرانية، دونيتسك ولوغانسك وخيرسون وزابوريجيا. غير أن انسحاب القوات الروسية من خيرسون وضع علامات استفهام حول قدرة روسيا على فرض واقع جديد من خلال قرار ضم المقاطعات الأربع.
أحدثت الحرب الروسية على أوكرانيا تغيراً كبيراً في العقيدة الدفاعية الغربية، التي اعتُمدت بعد نهاية الحرب الباردة بتفكك الاتحاد السوفييتي. وبتخلي فنلندا والسويد عن موقف الحياد ومسارعتهما إلى تقديم طلب للانضمام لعضوية حلف شمال الأطلسي (الناتو)، تبلورت خريطة جيوسياسية جديدة في ميزان القوى بين روسيا والناتو، في منطقة بحر البلطيق ومنطقة القطب الشمالي.
ومن المؤشرات في تلك المرحلة أيضاً، تماسك المواقف الغربية ضد الحرب الروسية، وتقديم دعم عسكري واقتصادي لأوكرانيا متزايد حتى خريف عام 2023. وساهم الدعم الغربي في انكفاء القوات الروسية ونجاح الهجوم المعاكس في خريف 2022. إلا أن تحقيق تحوّل حاسم في مسار الحرب كان يتطلب تقديم دعم عسكري أكثر بكثير مما استعدت لتقديمه الولايات المتحدة وبلدان الاتحاد الأوروبي وباقي الدول الغربية، وأن يشمل الدعم أسلحة نوعية، مثل الدبابات ومنظومات الدفاع الجوي والصواريخ بعيدة المدى والطائرات المقاتلة، ووصول الدعم في الوقت المناسب قبل هجمات الربيع في 2023.
عاشت الجبهات بعد نهاية الهجوم الأوكراني المعاكس، خريف 2022، حالة حرجة، فعلى الرغم من نجاح الهجوم، ظلت روسيا تسيطر على 18 في المائة من مساحة أوكرانيا، وبقي الوضع على الجبهات ملتبساً، وبات عامل الوقت لا يعمل في صالح أوكرانيا. فعدم تحقيق الجيش الأوكراني نتائج حاسمة في هجمات الربيع المضادة 2023 من شأنه أن يلحق ضرراً كبيراً بحجم الدعم الغربي لها، وتحوّل الحرب أكثر فأكثر إلى حرب خنادق واستنزاف لفترة طويلة.
وسبق الهجوم الأوكراني المعاكس ربيع 2023 العديد من المؤشرات على المصاعب التي ستواجه القوات الأوكرانية، بسبب تأخر وصول الأسلحة التي وعد بها الغرب، وتكثيف الجيش الروسي هجماته على البنى التحتية في أوكرانيا، وتحذيرات من استعداده لزجّ أسلحة جديدة من ترسانته على نطاق واسع، ونجاحه في بناء خطوط دفاع قوية خلال أشهر الشتاء، يقال إنها الأكبر من نوعها في التاريخ الحديث.
جاءت نتائج الهجوم الأوكراني المعاكس مخيبة للآمال، بعد تأخير لعدة أسابيع
وبالفعل جاءت نتائج الهجوم الأوكراني المعاكس مخيبة للآمال، بعد تأخير لعدة أسابيع. وبدأ الحديث عن أنه يجب على كييف خفض سقف طموحاتها في استرداد مناطق جنوب وجنوب شرق البلاد التي تحتلها القوات الروسية، والاستعداد لصراع طويل الأمد، يغلب عليه طابع الجمود، إلا إذا استطاع الجيش الأوكراني التكيف بشكل أسرع مع الظروف المستجدة، جنباً إلى جنب مع تكيف الصناعات العسكرية في أوروبا والغرب، لإمداد الجيش الأوكراني بما يكفي من أسلحة ومعدات، قبل تجدد الهجمات المتبادلة بين الجيشين الأوكراني والروسي في الربيع المقبل.
السيناريوهات المتوقعة للحرب
لا شيء مؤكداً بشأن متى وكيف ستنتهي الحرب، لكن باعتراف الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وقادة الغرب وحلف الناتو، فإن الأفضلية لروسيا راهناً في الذخيرة والمعدات. فيما تأخذ الحرب طابع استنزاف على المدى المفتوح، من الصعب على أوكرانيا الانتصار فيه، ناهيك عن تنامي الشكوك في إمكانية استمرار الدعم العسكري والاقتصادي السخي الذي تقدمه الولايات المتحدة لأوكرانيا، وعجز بلدان الاتحاد الأوروبي عن تحمّل تكاليف الدعم وحدها، أو الجزء الأكبر منه، إذا توقف الدعم الأميركي أو تراجع بنسبة كبيرة، في حال تمخضت الانتخابات الرئاسية الأميركية عن عودة الجمهوريين للبيت الأبيض.
وبعد أيام فقط من اتفاق زعماء الاتحاد الأوروبي على الحزمة الخاصة بأوكرانيا بقيمة 50 مليار يورو، في يناير/كانون الثاني الماضي، أفادت تقارير بوجود خلافات بينهم حول تجديد ميزانية الصندوق المشترك لشراء الأسلحة لكييف. ووفقاً للمعلومات المسربة، تريد الحكومة الألمانية المساهمة بمبالغ أقل من السابق، لأنها تتعرض لضغوط بسبب قواعد الميزانية الخاصة بهما، ولذلك تتأخر عمليات تسليم الذخائر والأسلحة لأوكرانيا، لأن ألمانيا المساهم الأكبر في الصندوق. فضلاً عن أن القدرة الانتاجية غير متوفرة ببساطة.
وفي مقابلة له مع صحيفة “فيلت” الألمانية، في 10 فبراير/شباط الحالي، قال الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ: “نحن بحاجة إلى استعادة وتوسيع قاعدتنا الصناعية حتى نتمكن من زيادة الإمدادات إلى أوكرانيا، وهذا يعني التحوّل من معدل الإنتاج البطيء في أوقات السلم إلى الإنتاج السريع في أوقات الحرب”. غير أن دعوة ستولتنبرغ يحول دونها محدودية الاستثمارات في الصناعات العسكرية الأوروبية.
السيناريو الأقرب على ضوء ميزان القوى الراهن أن تستمر حالة الجمود نسبياً، والاكتفاء بهجمات محدودة
ومع عدم تحقيق روسيا نتائج كبيرة من هجوم الشتاء الحالي باستثناء السيطرة على مدينة أفدييفكا شرق أوكرانيا، فالسيناريو الأقرب على ضوء ميزان القوى الراهن أن تستمر حالة الجمود نسبياً، والاكتفاء بهجمات محدودة، وأن ينشغل طرفا الحرب بالاستعدادات لمواجهات قد تستمر طوال العامين الحالي والمقبل، إذا لم تحدث مفاجآت أو تطورات استثنائية غير متوقعة.
لكن هذا السيناريو ربما يختلف بشكل كبير ضمن احتمالين: الأول سعي روسيا لفتح جبهة جديدة باتجاه مدينة أوديسا، التي تحتل مكانة تاريخية واستراتيجية ضمن عقيدة بوتين وسرديته حول “نوفوروسيا” ونشوء الدولة الأوكرانية، فإشعال هذه الجبهة سيعتبر مصيرياً بالنسبة لمستقبل دول أوروبا الشرقية. والثاني ضغط أوكراني مكثف على جبهة شبه جزيرة القرم، يقود إلى معركة كسر عظم.
وتظل الخشية الأكبر لكييف هي تصدع الموقف الغربي الداعم لها على المدى الطويل، وتراجع الدعم العسكري والاقتصادي المقدم لها. وللحيلولة دون ذلك تحتاج أوكرانيا إلى تحقيق إنجاز يقنع الأميركيين والأوروبيين باستمرار دعمها، مثل المغامرة بهجمات ولو بثمن كبير بالأفراد.
في الجهة المقابلة، صحيح أن روسيا لم تحقق كل أهدافها التي وضعتها في حربها على أوكرانيا، وأنها أُجبرت على تقليص أهدافها، إلا أنها ما زالت تسيطر على نحو خُمس الأراضي الأوكرانية. ومن شأن تأخر الدعم العسكري الغربي لأوكرانيا، وتسارع عمليات استعادة الصناعة العسكرية الروسية لقدراتها ومضاعفة إنتاجها، وإعداد الاقتصاد الروسي لحرب طويلة، خلق معادلة تكون اليد العليا فيها لروسيا، التي تؤكد تقديرات غربية أنها ستكون مستعدة لشن حرب واسعة مرة أخرى في ربيع عام 2025، من أجل فرض تسوية أقرب إلى شروطها. ودون ذلك، يبقى السيناريو الذي سيفرض نفسه، حرب استنزاف طويلة، مع عدم استبعاد أن تشمل الحرب بلداناً أوروبية أخرى، ربما تضع العالم أمام خطر حرب عالمية ثالثة.