بدءً من إمكانية إجراء محادثات بشأن الحدود البرية وإلى تعزيز ترسانة إسرائيل وإعادة تشكيل قوات “اليونيفيل”، يجب على واشنطن بذل المزيد من الجهد لإبطاء ما قد يكون انزلاقاً لا مفر منه نحو الحرب على الجبهة بين إسرائيل ولبنان.
بعد ما يقرب من ستة أشهر على بدء حرب غزة، أدركت إسرائيل أن الوضع الذي كان قائماً قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر في جنوب لبنان لم يعد مقبولاً. وسواء يتم إنشاء وضع راهن جديد من خلال المفاوضات أو قوة السلاح، فلا بد من أن يتم التراجع من قبل كلا الطرفَين، والسؤال هو متى وتحت أي ظروف. وفي كلتا الحالتين، تستطيع الولايات المتحدة، بل وينبغي لها، أن تتخذ المزيد من الخطوات لتعليق التصعيد.
الوضع الحالي للجبهة اللبنانية
ظلت الحدود الشمالية لإسرائيل في حالة نزاع متوسط الحدة منذ أن هاجمت “حماس” الحدود الجنوبية في تشرين الأول/أكتوبر الماضي. ولا تزال المجتمعات الحدودية الثمانية والعشرون التي تم إخلاؤها قبل أشهر فارغة، حيث مُنع نحو 80 ألف إسرائيلي من العودة إلى ديارهم وسط تبادل يومي لإطلاق النار ومخاوف مستمرة من غزو على غرار ذلك الذي قامت به “حماس” وموجة اختطاف عبر الحدود. ولا يزال عدد مماثل من سكان جنوب لبنان خارج بيوتهم بعد أن تم إجلاؤهم أيضاً.
وتم احتواء الجزء الأكبر من القتال ضمن المنطقة الحدودية، حيث يستهدف الجانبان المقاتلين في معظم الأحيان. ويطلق “حزب الله” النار بشكل رئيسي على المواقع والقواعد العسكرية؛ كما يطلق بشكل دوري الصواريخ والطائرات المسيّرة على المناطق المدنية الفارغة. واستهدف الجيش الإسرائيلي البنية التحتية الرئيسية لـ “حزب الله”، ومستودعات الأسلحة والعناصر التابعة له، لا سيما قوات وحدة “الرضوان” الخاصة التي يقدر عددها بـ 10 آلاف عنصر والتي انتشرت على طول الحدود عندما بدأت الأزمة. بالإضافة إلى ذلك، قام الجيش الإسرائيلي بالرد على تصعيد “حزب الله” من حين لآخر من خلال عمله بصورة أكثر عمقاً (ما يصل إلى 110 كيلومترات) داخل لبنان، وضربه مصانع الطائرات المسيّرة، والبطاريات المضادة للطائرات، وأهداف استراتيجية أخرى في وادي البقاع ومناطق أخرى.
وبصورة إجمالية، قُتل نحو عشرة جنود إسرائيليين في هذه الاشتباكات، إلى جانب حوالي 300 مقاتل على الجانب الآخر (وهو عدد يشمل أفراداً من “حزب الله” والمسلحين الفلسطينيين الذين هاجموا من الأراضي اللبنانية بمباركة الحزب). ومع ذلك، في حين لا يزال خطر التصعيد المفاجئ مرتفعاً، إلّا أن رعاة “حزب الله” في طهران ما زالوا يفضلون على ما يبدو تجنب الحرب الشاملة في الوقت الحالي – وجزئياً للحفاظ على القدرات العسكرية القوية للحزب، ولكن أيضاً لردع الهجمات الإسرائيلية على إيران نفسها، بما في ذلك ضد البرنامج النووي المتسارع للنظام. (ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن الضربة الإسرائيلية على ما يبدو التي وقعت في الأول من نيسان/أبريل على كبار ضباط الجيش الإيراني في منشأة قنصلية في دمشق يمكن أن تغيّر حسابات طهران بشكل كبير وتتطلب مراقبة دقيقة لاحتمال قيام انتقام إيراني وشيك).
معضلة إسرائيل
يتعرض رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لضغوط داخلية متزايدة من أجل تسهيل عودة المواطنين الذين تم إجلاؤهم في شمال البلاد، خاصة بعد الاحتجاجات الحاشدة التي جرت هذا الأسبوع ضد حكومته. ولكن لضمان سلامة هؤلاء العائدين، يقول مسؤولو الدفاع الإسرائيليون إنوحدة “الرضوان” يجب أن تبقى على بعد حوالي سبعة إلى عشرة كيلومترات شمال الحدود. ويختلف هذا المطلب – الذي يعكس المدى التقريبي لصواريخ “كورنيت” الفتاكة المضادة للدبابات التي يمتلكها “حزب الله” – حتى عن كيفية توزيع قوات “حزب الله” قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر، وبالتالي سيتطلب إما تنازلاً كبيراً من جانب الحزب أو حملة عسكرية كبيرة ترغمه على التراجع بشكل دائم. وما يزيد الأمور تعقيداً هو أن إسرائيل تأمل في تحقيق هذه الظروف الجديدة بحلول شهر أيلول/سبتمبر، وذلك لضمان أن يبدأ الأطفال من شمال البلاد العام الدراسي الجديد في مناطقهم الأصلية.
لقد دفعت العمليات الجوية الإسرائيلية معظم وحدات “الرضوان” إلى الانسحاب من الحدود، لكن إسرائيل تخشى عودتها بعد وقف إطلاق النار. وهذا التخوف له ما يبرره. ففي أعقاب حرب إسرائيل السابقة مع “حزب الله” في عام 2006، نص “قرار مجلس الأمن رقم 1701” على قيام الحزب بنقل قواته وأصوله إلى شمال نهر الليطاني. وكان من المفترض أن يتم ضمان هذا الترتيب من قبل الحكومة اللبنانية وقوات حفظ السلام البالغ عددها 15 ألف جندي والتي تشكل “قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان” (“اليونيفيل”)، وهي أكبر تجمع لقوات حفظ السلام للكيلومتر الواحد في العالم. ومع ذلك، أعاد “حزب الله” في النهاية ترسيخ وجوده على الحدود على أي حال.
الإمكانية العملية لوقف إطلاق النار واتفاق على الحدود
من أجل منع نشوب حرب شاملة، تسعى إدارة بايدن إلى التوسط في وقف إطلاق النار والتوصل إلى اتفاق أوسع نطاقاً يبقي بموجبه “حزب الله” جميع قواته على بعد سبعة كيلومترات من الحدود. وفي المقابل، تنهي إسرائيل على الأقل بعض عملياتها الجوية فوق لبنان، بينما تنشر بيروت 15 ألف جندي من الجيش اللبناني جنوب نهر الليطاني. ويدعو هذا الجهد بقيادة المبعوث الأمريكي آموس هوكستين، والرامي إلى تنفيذ بعض جوانب “القرار 1701″، البلدين أيضاً إلى بدء نقاشات حول النقاط الحدودية المتنازع عليها على طول ما يسمى بـ “الخط الأزرق”. ويعتقد المراقبون أن مثل هذه المفاوضات قد تؤدي على الأرجح إلى تعديلات حدودية تبلغ عدة مئات من الأمتار لصالح لبنان في المناطق التي تعترف إسرائيل بأنها ذهبت إليها شمال “الخط الأزرق”؛ ويشمل ذلك إعادة توحيد قرية الغجر المقسمة.
وعلى الرغم من أن “حزب الله” سيصوّر على الأرجح وقف إطلاق النار واتفاق الحدود البرية على أنه “نصر إلهي” آخر كما حدث في عام 2006، إلّان الحكومة الإسرائيلية ما زالت ترحب بهذا الاتفاق. وعلى الرغم من صعوبة الحرب في غزة، فإن أي نزاع مع “حزب الله” سوف يكون أكثر صعوبة وتدميراً. ويعتبر بعض الإسرائيليين أن مثل هذا النزاع لا مفر منه، لكنهم حتى يعترفون بأن الدولة تحتاج إلى الوقت للسماح لاقتصادها بالتنفس مجدداً وتجديد ترسانتها استعدادا لحرب صعبة في الشمال.
لكن التوصل إلى اتفاق قد لا يكون ممكناً. فـ”حزب الله” لا يريد الحرب في الوقت الحالي، ويظل هدفه المعلن “مقاومة الاحتلال” الإسرائيلي للبنان. ومع ذلك، ليس من الواضح ما إذا كان الحزب يريد فعلياً حدوداً مرسّمة بوضوح مع إسرائيل، لأن هذه النتيجة من شأنها أن تقوض مبرراته للحفاظ على قوة ميليشيات ضخمة والسيطرة على الدولة اللبنانية. وحتى لو تم وضع اللمسات النهائية على الاتفاق الذي تجري مناقشته حالياً، فمن شبه المؤكد أن يدّعي “حزب الله” أن إسرائيل لا تزال تحتل “أراضي لبنانية” – ومزارع شبعا على وجه التحديد (أي الأراضي السورية التي تسيطر عليها إسرائيل والتي يدّعي “حزب الله” أنها لبنانية) وسبع قرى يعود وضعها المتنازع عليه إلى “الانتداب البريطاني على فلسطين” عام 1923.
يمكن لإدارة بايدن أن تحاول تشجيع “حزب الله” على الإذعان بصورة أكثر من خلال عرض دعم سليمان فرنجية، مرشح الحزب المفضل لرئاسة الجمهورية في لبنان، وهو المنصب الذي ظل شاغراً منذ ما يقرب من عامين. لكن في حين أن اختيار الرئيس هو أمر ضروري في النهاية للموافقة على اتفاق الحدود، فإن دعم فرنجية يشكل مناورة غير حكيمة لن تؤدي إلا إلى تعزيز جهود “حزب الله” المتقدمة أساساً للسيطرة على الدولة.
ووفقاً لبعض التقارير، تحاول واشنطن أيضاً تسهيل الاتفاق من خلال اقتراح ضمان رواتب الجيش اللبناني وتطوير جنوب لبنان اقتصادياً، كل ذلك على أمل تثبيط المغامرات المستقبلية لـ “حزب الله ضد إسرائيل. ومع ذلك، فمن المرجح أن يكون هذا الاحتمال غير مستساغ لدى “حزب الله”، الذي لطالما سعى إلى منع الاستثمار في لبنان من أجل إبقاء ناخبيه الشيعة معتمدين على سخائه (الانتقائي).
وتشكل الطلعات الجوية الإسرائيلية نقطة شائكة محتملة أخرى. ونظراً لفشل “اليونيفيل” الكامل في مراقبة امتثال “حزب الله” لشرط البقاء شمال الليطاني، فإن إسرائيل لا تحبذ الاعتماد على هذه المنظمة التي تتجنب النزاعات في المهمة الحيوية المتمثلة بمراقبة ما إذا كانت وحدة “الرضوان” ستبقى بعيدة عن الحدود. وتشمل الأفكار قيد الدراسة تعزيز قوة “اليونيفيل” من خلال وجود بعثة ألمانية و/أو فرنسية منفصلة للمراقبة على الأرض. لكن هذين البلدَين لطالما أبديا نفورهما من النزاعات في المنطقة، وبالتالي من غير المرجح أن تؤدي مطالبتهما بالانتشار إلى تهدئة إسرائيل. وبدلاً من ذلك، من شبه المؤكد أن يصر الجيش الإسرائيلي على مواصلة الطلعات الاستطلاعية بطائرات بدون طيار فوق جنوب لبنان بعد وقف إطلاق النار، ومن غير المرجح أن يوافق “حزب الله” على هذا الشرط.
وحتى لو تم التوصل إلى وقف إطلاق النار في غزة وتراجع “حزب الله” عن التصعيد رداً على ذلك، فقد تختار إسرائيل مواصلة المستوى الحالي من عملياتها في جنوب لبنان. فقبل حرب غزة بفترة طويلة، كان “حزب الله” يثير التصعيد من خلال إطلاق طائرات مسيّرة وصواريخ مضادة للدبابات على إسرائيل، وإنشاء موقع عسكري صغير على الأراضي الإسرائيلية، وتفجير قنبلة على جانب الطريق بالقرب من مجيدو، من بين انتهاكات أخرى. ويبدو أن ردود إسرائيل الفاترة أدت إلى تراجع الردع وتشجيع الحزب. ولكن منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، أظهرت ضربات الجيش الإسرائيلي في لبنان مستوى عالٍ من القدرة الهجومية والدفاعية، والاستهداف الاستخباراتي وجمع المعلومات الاستخبارية، والاستعداد للمخاطرة التصعيدية. باختصار، تعمل إسرائيل الآن هناك من دون قيود تُذكر، مثلما تعاملت مع التهديدات الإيرانية في سوريا طوال عقد من الزمن تقريباً. ولذلك، قد يستنتج المسؤولون الإسرائيليون أن السماح للجيش الإسرائيلي بممارسة قواعد الاشتباك الجديدة هذه في جنوب لبنان هو خيار أفضل من وضع ثقتهم في “اليونيفيل” أو الجيش اللبناني لتقييد وحدة “الرضوان” أو حماية سكان المناطق الحدودية.
توصيات في مجال السياسة العامة
إن إدارة بايدن عازمة على التفاوض على وقف إطلاق النار في غزة وخفض التصعيد بين “حزب الله” وإسرائيل. وقد لا يكون هذا الهدف المنشود قابلاً للتحقيق، لا سيما في وقت يعتقد فيه الكثير من الإسرائيليين أن الحرب مع “حزب الله” هي مسألة وقت إذ باتت محتمة. ومع ذلك، ينبغي على واشنطن مواصلة هذه الجهود الدبلوماسية ولو لمجرد عرقلة ما هو محتم، ولكن دون تقديم تنازلات بشأن رئاسة الجمهورية اللبنانية. وينبغي لها أيضاً المساهمة في ضمان استعداد إسرائيل لمثل هذا النزاع في المستقبل من خلال تجديد ترسانة البلاد – وإذا لزم الأمر، مع النص على عدم استخدام هذه الأسلحة في الحملة على رفح. وقد يساهم تجهيز إسرائيل بشكل أفضل في تثبيط عدوان “حزب الله” على المدى القريب.
وبالتزامن مع ذلك، يجب أن تعيد واشنطن التركيز على إيجاد حلول لمشكلة المراقبة في جنوب لبنان. فقد أثبت “حزب الله” أنه سيلجأ إلى الغش في أي اتفاق من شأنه تغيير الوضع الراهن لانتشار قواته هناك، في حين أثبتت قوات “اليونيفيل” عدم فعاليتها منذ إنشائها. وفي الفترة التي تسبق تجديد تفويض هذه القوة في آب/أغسطس المقبل، ينبغي على المسؤولين الأمريكيين أن يقودوا جهود حثيثة لتغيير طريقة ممارسة “اليونيفيل” أعمالها. باختصار، يحتاج المراقبون إلى المراقبة. على سبيل المثال، يمكن لقوات “اليونيفيل” أن توافق على البدء في تحليق طائرات استطلاع بدون طيار فوق الجنوب وإتاحة مقاطع الفيديو التي تبثها للعلن. ولطالما وصف “حزب الله” الطائرات المسيّرة التابعة لقوات “اليونيفيل” بأنها “خط أحمر” – وهي إشارة مؤكدة مثلها مثل أي إشارة أخرى على أن الحزب لا يريد الكشف عن انتهاكاته “للقرار 1701”.
وفي الوقت نفسه، يجب على واشنطن أن تحاول إشراك سكان جنوب لبنان والاستفادة منهم، حيث لا يجني الكثير منهم فائدة تُذكر من “حزب الله”، أو صراعه الذي لا نهاية له مع إسرائيل، أو عمليات الإخلاء التي عانوا منها لعدة أشهر. وفي هذا الصدد، يوفر وجود قوات “اليونيفيل” ميزتين فعليتين: زيادة النشاط الاقتصادي وتقليل فرص التورط في اشتباكات مسلحة مع إسرائيل. وإذا أرادت المدن الجنوبية جني هذه الفوائد، فيُتوقع منها أن تطالب بشكل استباقي بمواقع ودوريات تابعة للأمم المتحدة وترحب بها، حتى عندما يثبت أن عمليات الانتشار هذه تطفلية في بعض الأحيان. وفي أفضل الأحوال، يعرب السكان المحليون أيضاً عن عدم رغبتهم في التسامح مع نشاط الميليشيات بطرق أخرى. ففي الأسبوع الماضي، على سبيل المثال، منع سكان بلدة رميش ذات الأغلبية المسيحية قوات “حزب الله” من إطلاق الصواريخ من داخل بلدتهم.
في نهاية المطاف، قد لا يكون إصلاح قوات “اليونيفيل” ونشر الجيش اللبناني في الجنوب كافيين لمنع نشوب نزاع في المستقبل. ومع ذلك، لا تزال لدى واشنطن وإسرائيل مصلحة في تأجيل التصعيد.