في كلمته أمام حشد من مؤيديه، بعد ظهور نتائج معظم صناديق الاقتراع، اعترف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالخسارة الكبيرة التي تعرض له حزبه، ووعد بعمل ما يلزم من محاسبة ذاتية لتلافي النواقص التي أدت إليها، وأبدى احترامه لإرادة الشعب.
فعلى المستوى الوطني تراجعت شعبية حزب العدالة والتنمية إلى 35٪، وهي نتيجة متقاربة مع تلك التي أحرزها الحزب في أول انتخابات عامة يخوضها في العام 2002 وحملته إلى السلطة. فإذا أخذنا بنظر الاعتبار أن قسماً من النسبة المذكورة جاءت من ناخبي حزب الحركة القومية الذي تحالف معه بتقاسم البلديات، وهي لا تقل عن 5٪، تكون النسبة الحقيقية لشعبية العدالة والتنمية 30٪، وهي أدنى مستوى يصل إليها الحزب منذ تأسيسه، علماً بأنه تجاوز في بعض الانتخابات التي خاضها نسبة 50٪ من أصوات الناخبين. بهذه النتيجة فقد العدالة والتنمية موقع الحزب الأول لمصلحة منافسه التقليدي «الشعب الجمهوري» ليحتل الموقع الثاني بعده، للمرة الأولى منذ استلامه السلطة.
صحيح أنها، في نهاية المطاف، انتخابات لاختيار الإدارات المحلية ولن تؤثر على السلطتين التنفيذية والتشريعية، لكنها تعبر عن موجة اجتماعية مخالفة لآمال وتوقعات أردوغان وحزبه من شأن استمرارها أن يقلق السلطة على مستقبلها السياسي، وبخاصة على مستقبل أردوغان السياسي. وعلى أي حال فقد خاضت كل من السلطة والمعارضة هذه الانتخابات كما لو كانت انتخابات سياسية، فاستنفرا كل ما لديهما من إمكانات للفوز بها.
وعلى مستوى البلديات كان أردوغان يأمل، بصورة خاصة، أن يستعيد بلديتي إسطنبول وأنقرة من حزب الشعب الجمهوري، لكن ما حدث هو أن الأخير لم يكتف بالمحافظة عليهما، بل أضاف إليهما عدداً كبيراً من البلديات الكبيرة والفرعية، بما في ذلك انتزاعه لبلديات في مناطق تعتبر من قلاع الحزب الحاكم كأوسكودار في إسطنبول ومانيسا وغيرها.
ومن المفاجآت اللافتة أن نسبة اقبال الناخبين على صناديق الاقتراع قد تراجعت في عموم البلاد كما في بعض مناطق شعبية العدالة والتنمية. الأمر الذي شكل أحد عوامل تراجع نسبة التصويت له. وهي ظاهرة غير مسبوقة لدى ناخبي العدالة والتنمية المخلصين، يرجح تفسيرها باستياء الناخبين من الوضع الاقتصادي، التضخم والبطالة وتراجع القيمة الشرائية للعملة الوطنية. ومن المحتمل أن قسماً من الكتلة الكبيرة للمتقاعدين (16 مليوناً) ممن يصوتون تقليدياً للحزب الحاكم، قد عزف عن المشاركة في الانتخابات بسبب خيبة أملهم في الزيادة التي أقرتها الحكومة على معاشاتهم وكانت أدنى بكثير من توقعاتهم في وقت التهم فيه ارتفاع أسعار السلع والخدمات الأساسية بتصاعد كبير تلك المعاشات.
وعموماً يبدو أن الناخب الذي صوت لتحالف السلطة وللرئيس أردوغان في الانتخابات النيابية والرئاسية في شهر أيار الفائت، وجد أن أحواله الاقتصادية قد تراجعت عموماً في الأشهر التالية بدلاً من أن تتحسن، هذا حتى إذا لم نحسب العوامل الأخرى موضوع شكاوى عامة في المجتمع غير الوضع الاقتصادي.
إن أمام التحالف الحاكم تحديات كبيرة في السنوات الأربع القادمة قبل موعد الانتخابات النيابية والرئاسية، من أجل استعادة شعبيته وتغيير الدستور
أما حزب الشعب الجمهوري فقد حصل على نتائج فاجأت الجميع، بما في ذلك الحزب نفسه، نسبة 37٪ من أصوات الناخبين في عموم البلاد هي أعلى نسبة يحصل عليها منذ الانتخابات العامة في 1977 حين حصل بقيادة زعيمه الراحل بولند أجاويد على نسبة 41٪. ومنذ العام 2000 انحبس الحزب تحت سقف 25٪ من أصوات الناخبين، فجاءت نتيجة انتخابات 31 آذار 2024 لتحمل الحزب إلى الموقع الأول بين الأحزاب المتنافسة، كاسراً بذلك «السقف الزجاجي» لشعبيته المألوفة على حد تعبير زعيمه أوزغور أوزل. أما من أين جاءت هذه الزيادة فثمة عوامل عدة يشار إليها، أهمها حصول الحزب على أصوات ناخبين من خارج كتلته التقليدية، من أحزاب أخرى ومن الناخب غير المسيس، ومن كتلة الشباب الذين يصوتون للمرة الأولى في هذه الانتخابات. أما الأحزاب الأخرى فمن المحتمل أن قسماً من ناخبي العدالة والتنمية والحزب الجيد وحزب الحركة القومية ومن الأحزاب الصغيرة التي كانت متحالفة معه في إطار التحالف السداسي قد صوتوا للحزب. والمؤكد أن أصوات ناخبي حزب المساواة والديمقراطية في المدن الغربية قد ذهبت لمصلحة مرشحي الشعب الجمهوري، بخاصة في إسطنبول وأنقرة وإزمير. ففي إسطنبول وحدها يحصل هذا الحزب «الكردي» عادةً على نحو 8٪ من أصوات الناخبين، فقد تراجعت هذه النسبة في الانتخابات الحالية إلى ما دون 3٪. وذلك على رغم أن تياراً وازناً داخل الحزب، تمثل في صلاح الدين دمرتاش وأحمد ترك وليلى زانا، قد دعا ناخبيه إلى التصويت لمرشحي الحزب الخاصين. ولكن يبدو أن ناخبي الحزب الذي استعاد أكثرية البلديات في الشرق التي سبق وانتزعت منه بقرارات قضائية، قد صوتوا لمرشحي الشعب الجمهوري في المدن الغربية بدافع إضعاف سطوة الحزب الحاكم.
ومن المفاجآت البارزة أن حزب الرفاه من جديد بقيادة فاتح أربكان قد احتل المركز الثالث من حيث نسبة التصويت بـ6٪ من أصوات الناخبين، بعدما كانت تحت 3٪ في انتخابات 14 أيار 2023. من المرجح أن هذا الحزب الإسلامي قد اجتذب قسماً من ناخبي العدالة والتنمية المستائين من سياسات الأخير، وربما قسماً من ناخبي كل من أحزاب السعادة، والتقدم والديمقراطية، والمستقبل، هذه الأحزاب الإسلامية أو ذات الجذور الإسلامية كادت تتلاشى شعبيتها المحدودة أصلاً. أما الحزب الجيد الذي تراجعت شعبيته من نحو 10٪ إلى 3٪ فقد تعرض لمصير مشابه بعدما ابتعد عنه ناخبوه ليصوتوا للشعب الجمهوري بصورة راجحة.
كذلك كان لافتاً تراجع شعبية حزب النصر الذي بنى خطابه السياسي على مناهضة اللاجئين إلى نحو 1٪، ومن المحتمل أن موضوع اللاجئين تراجع في اهتمامات الناخب التركي أمام سطوة الهم الاقتصادي.
تقول هذه القراءة بصورة إجمالية إن أمام التحالف الحاكم تحديات كبيرة في السنوات الأربع القادمة قبل موعد الانتخابات النيابية والرئاسية، من أجل استعادة شعبيته وتغيير الدستور بما يتيح لأردوغان خوض الانتخابات الرئاسية من جديد، مقابل حزب الشعب الجمهوري الذي تمكن من تحقيق فوز كبير يحمّله مسؤولية القطب المعارض القادر على التغيير السياسي. أما أكرم إمام أوغلو الذي فاز على منافسه مراد قرم (العدالة والتنمية) بفارق كبير فالجميع في الرأي العام بات ينظر إليه باعتباره مرشح المعارضة الذي سينافس على موقع رئاسة الجمهورية في انتخابات العام 2028.