معمر فيصل خولي
بعد تسعة أشهر على إجراء الانتخابات الرئاسية والنيابية، والتي انتصر فيها تحالف حزب العدالة والتنمية الحاكم “ائتلاف الجمهور” برئاسة جمهورية تركيا وأغلبية مقاعد النيابية، شهدت تركيا في يوم الأحد الموافق 31 من آذار/ مارس الفائت انتخابات بلدية” لا تقل أهمية،- وهي الانتخابات التي تركز على تقديم الخدمات، والسياسة الداخلية للدولة-، أسفرت عن فوز كبير لحزب الشعب الجمهوري، الذي سيطر على المجالس البلدية في 35 مدينة، بما فيها الثلاث الكبرى (إسطنبول، وأنقرة، وأزمير).
في المقابل، مثلت نتائج الانتخابات خيبة كبيرة لحزب العدالة والتنمية. وشكلت نتائجها صدمة كبيرة له، فللمرة الأولى في 22 عاماً جاء الحزب في المرتبة الثانية في أي انتخابات يخوضها، كما خسر جميع المدن الكبرى تقريباً وفي أنحاء البلاد أيضاً، ومن شأن، نتائجها أن تنشأ مشهدا سياسيا في تركيا جديدًا لكن ليس كالذي شهدته في عام 2002م.
وبحسب النتائج الأولية، التي أعلنها رئيس المجلس الأعلى للانتخابات أحمد ينار، في مؤتمر صحافي الاثنين الفائت، حصل حزب «الشعب الجمهوري»، أكبر أحزاب المعارضة، على 37.7 في المائة من أصوات الناخبين، وحل حزب «العدالة والتنمية» الحاكم في المرتبة الثانية بنسبة 35.5 في المائة، ثم حزب «الرفاه من جديد» بنسبة 6.2 في المائة، يليه حزب «المساواة الشعبية والديمقراطية»، المؤيد للأكراد بنسبة 5.7 في المائة، بينما واصل حزب «الحركة القومية» شريك العدالة والتنمية في «تحالف الشعب» تراجعه محققاً 5 في المائة فقط.
وقال ينار إن نسبة المشاركة في الانتخابات المحلية، التي أجريت الأحد، بلغت 78.11 في المائة، وفاز «الشعب الجمهوري» بـ35 بلدية (15 بلدية كبرى و20 بلدية حضرية)، وهي المرة الأولى منذ 74 عامًا، و«العدالة والتنمية» بـ24 (12 بلدية كبرى و12 بلدية حضرية)، و«المساواة الشعبية والديمقراطية» بـ10 بلديات كبرى، و«الحركة القومية» بـ8 بلديات كبرى، و«الرفاه من جديد» ببلديتين كبريين من بينهما شانلي أورفا أحد معاقل «العدالة والتنمية» عن طريق ترشيح قاسم غل بينار لرئاسة بلديتها بعد أن استبعده العدالة والتنمية من قائمة المرشحين، وكل من حزبي «الوحدة الكبرى» و«الجيد» ببلدية واحدة.
وأقرّ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مساء الأحد الفائت، بأن نتائج الانتخابات المحلية التركية شكلت “نقطة تحول” لحزبه، لكنه وعد “باحترام قرار الأمة”. وقال في كلمة أمام حشد من أنصاره في مقر الحزب في أنقرة: “للأسف، لم نحصل على النتائج التي أردناها. سنحترم بالطبع قرار الأمة، وسنتجنب العناد والتصرف ضد الإرادة الوطنية والتشكيك في قوة الأمة”.
ولم يتأخر أيضَا الرئيس رجب طيب أردوغان في أن يواجه قيادات حزب العدالة والتنمية بنتائج الانتخابات الصادمة، وأدت إلى خسارة الحزب وتراجعه للمرتبة الثانية، مؤكداً أنه لا يمكن لأحد في حزب العدالة والتنمية، حتى هو، التهرب من مسؤولية الخسارة. ونقلت صحيفة حرييت حديث أردوغان خلال اجتماع مجلس قيادة الحزب المركزية يوم الثلاثاء الفائت، استغرق 4 ساعات، وامتد حتى ساعة متأخرة من الليل وهو الاجتماع الأول بعد الانتخابات.
أثارت النتائج “المخيبة”، التساؤلات عن الأسباب التي أدت إلى هذا ” الهزيمة” لحزب العدالة والتنمية بهذا الشكل وسط توقعات بخسارة كبيرة لأحزاب المعارضة بعد الهزيمة التي منيت بها في انتخابات أيار/ مايو الماضي، ولما انقلبت التوقعات بهذا الشكل؟ السبب الأول يتعلق بالوضع الاقتصادي المتراجع بشكل كبير والذي أثّر على القدرة الشرائية للمواطن وارتفاع الأسعار، وكان محرك هذه الخسارة المتقاعدون في البلاد الذين يشكلون كتلة تصويتية كبيرة عددها يفوق 10 ملايين ناخب، لم يكونوا راضين على رواتبهم وأجورهم ولم ترتفع بما يناسب التضخم الذي وصل إلى 67 في المئة. وفي رأي بعض المراقبين أن الناخبين أجلوا هذا العقاب في انتخابات مايو الماضي على أمل تحسن الأوضاع، لكن استمرار الأداء الاقتصادي السيئ، دفعهم إلى إصدار تحذير شديد لإردوغان وحكومته.
يضاف إلى ذلك السبب الثاني، وهو تراجع عدد ناخبي العدالة والتنمية نحو مليوني صوت مع انخفاض نسبة المشاركة وارتفاع الأصوات الملغية، حيث بلغت نسبة المشاركة في عام 2019 أكثر من 18 مليون ناخب، وفي انتخابات الأحد الفائت بلغت نحو 16 مليون ناخب. ويرى مراقبون أن عدم اتخاذ الحكومة خطوات ضد إسرائيل بعد حربها على قطاع غزة أثّر أيضاً على الناخبين المحافظين الإسلاميين، إضافة إلى الأسباب الاقتصادية.
أما السبب الثالث، فهو نجاح حزب الشعب الجمهوري في إحداث تغيير جذري في هياكله بعد انتخابات الرئاسية والنيابية التي جرت في أيار/ مايو الماضي، لدرجة أنه كان الحزب الوحيد الذي أدار عملية ديمقراطية في مؤتمره العام بعد الانتخابات التي أدت إلى تغيير رئيس الحزب كمال كليتشدار أوغلو، الذي خسر الرئاسة أمام الرئيس التركي رجب طيب إردوغان وأهدر مقاعد المجلس النيابي على الأحزاب الأخرى التي شاركت في «تحالف الأمة» أو«طاولة الستة» التي استفادت من خوض الانتخابات البرلمانية على قوائمه بـ35 مقعداً، 16 لحزب «الديمقراطية والتقدم»، و10 لكل من حزبي «السعادة» و«المستقبل».
ونجح الحزب في أن يتحول إلى حزب شاب وديناميكي وأكثر وصولاً إلى الشارع التركي وقياساً لنبضه، تحت رئاسة أوزغوز أوزيل، الذي علق على نتائج الانتخابات المحلية الأولية قائلاً: «لقد نجحنا في جعل الحزب الذي أسسه مصطفى كمال أتاتورك يحتل المرتبة الأولى من جديد، ونسير الآن نحو حكم البلاد في أول انتخابات عامة قادمة».
وعلى الرغم من تفكك «تحالف الأمة» المعارض عقب الانتخابات البرلمانية والرئاسية، بل والهجوم الضاري الذي تعرض له سواء من إردوغان، أو من حليفة الأمس رئيسة حزب «الجيد» ميرال أكشنار، فإن «الشعب الجمهوري» تمكن من تجاوز الحالة المعنوية السلبية الناشئة عن انتخابات مايو، وقام بحملة تغيير جددت دماءه وتبنى خطابات أكثر اعتدالاً واحتضاناً للشعب ونشاطاً في الشارع.
أما السبب الرابع، رفض حزب “الرفاه من جديد” الاستمرار في ” تحالف الشعب” حيث تمكن من انتزاع أصوات المحافظين الإسلاميين ووصل إلى نسبة معقولة، فقد ارتفعت نسبة أصوات الحزب من 2.8 في المائة في انتخابات الرئاسية والنيابية في أيار/ مايو الماضي، إلى 6.2 في الانتخابات الحالية. ومما لاشك فيه أثرت هذه النسبة على حزب العدالة والتنمية وتمكن عبر مرشحي “العدالة والتنمية” السابقين من الوصول إلى الفوز، كما حصل في ولاية شانلي أورفة بترشيح رئيس بلديتها السابق عن حزب العدالة والتنمية والذي لم يرشحه حزبه السابق، قاسم غولبنار. وعلى صعيد حرب إسرائيل على غزة، طالب الحزب الحكومة بشكل صريح بقطع العلاقات التجارية والسياسية مع إسرائيل، ورفع رواتب المتقاعدين لدعم مرشحي العدالة والتنمية. ليقدم نفسه كـ«حصان أسود» في الانتخابات المحلية واعداً بمزيد من الصعود في الانتخابات الرئاسية والنيابية في عام 2028م.
أما السبب الخامس، ساهمت نتائج الانتخابات الرئاسية والنيابية في أيار/ مايو الماضي، في خداع «العدالة والتنمية» الحاكم، لاعتقاده بأنه لا يوجد حزب على الساحة يمكنه مقارعته في أي انتخابات، بل إن أحزاب المعارضة مجتمعة لا يمكنها أن تهزمه، ودخل إردوغان وحزبه الانتخابات المحلية بثقة كبيرة جداً في الفوز، بل بتعالٍ أيضاً، كما أجمع على ذلك الكثير من المراقبين والمحللين.
وبات واضحاً في السنوات الأخيرة أن «العدالة والتنمية» يعاني نضوباً في الكوادر، ويلجأ إلى سياسة «إعادة تدوير» في الوجوه وتنقل الأسماء ذاتها بين المناصب والترشيحات، مما أعطى رسالة للشارع التركي مفادها أن الحزب الحاكم وإردوغان لم يعد لديهما جديد لتقديمه أكثر من ذلك.
وذهب الكاتب الصحافي، مراد يتكين، إلى أن الرئيس التركي رجب طيب إردوغان أدار المعركة في الانتخابات المحلية على أنها معركة سياسية بينه وبين رئيس بلدية إسطنبول، أكرم إمام أوغلو، وحشد كل إمكانات الدولة ووزراء حكومته بالكامل للفوز على إمام أوغلو، لكن ذلك أتى بنتيجة عكسية.
ولفت إلى أن إردوغان تغافل عن المشكلات الحقيقية في البلاد وفي مقدمتها الوضع الاقتصادي، وإهدار سيادة القانون، والقيود على الحريات، والعبث بالديمقراطية، فضلاً عن سوء الاختيارات في الترشيحات، ويعد أسوأ هذه الاختيارات مراد كوروم مرشح رئاسة بلدية إسطنبول، بعد إخفاقه عندما كان وزيراً للبيئة والتحضر العمراني في مواجهة كارثة الزلزال وبقاء ضحاياه في الخيام حتى الآن بعد أكثر من عام على الكارثة.
وعلى الرغم من أن نتائج الانتخابات لم تصب في صالح حزب العدالة والتنمية وخاصة في المدن الكبرى الرئيسة” أنقرة وأسطنبول وأزمير” وجاءت معظمها مخيبة لآمال الحزب، إلا أن ما يحسب له ولقيادته السياسية، قبولها وبدون أي تردد، في الوقت الذي كان يسعى فيه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في استعادتها وخاصة اسطنبول قبل مغادرته للحياة السياسية، فالقبول بها من قبل الحزب الذي يقود الدولة التركية منذ أكثر من 20 عاما، ويسيطر على السلطة التنفيذية والتشريعية، وتأتمر بأوامره الأجهزة الأمنية بمختلف أشكالها، ومع هذا، لم يفكر في تزوير إرادة الناخب التركي، واحترم الإرادة العامة التي مثلتها نتائج صناديق الاقتراع، فهو انجاز يضاف إلى قائمة الانجازات التي تحققت طيلة سنوات حكم حزب العدالة والتنمية، فهذا القبول يأتي في سياق تجذير مرتكزات الدولة المدنية المعاصرة التي ترتكز على آليات النظام الديمقراطي. ولأجلهه خرجوا الأتراك قبل سنوات للتعبير عن رفضهم لمحاولة الانقلاب في 15 تموز /يوليو عام 2016م.
وحدة الدراسات التركية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية