الإعلام المصري توجّه له الكثير من الانتقادات بسبب التباس علاقته بالنظام. لكن النظام نفسه ينتقد الإعلام ويتهمه بالتقصير في نقل صورة دقيقة عن نجاحاته. والشارع أيضا كما المعارضة كلاهما يتهم الإعلام، فكيف تقدر المؤسسات الإعلامية على تبديد هذه الصورة بالاقتراب من النظام أكثر أم بتقليل ارتباطها به.
توجه السلطات المصرية لوما للإعلام على أنه لا يقوم بدوره كما يجب ولم يعكس بجدارة حجم الإنجازات التي تحققت على الأرض الفترة الماضية، وكثيرا ما وجه الرئيس عبدالفتاح السيسي انتقادات مباشرة حول هذه المسألة، وثمّن وجود أصوات معارضة إلى جانب تلك المؤيدة، كما أن شريحة كبيرة من المواطنين لا تشعر بوجود كبير لمشاكلها وحلول لها في الإعلام التابع للدولة أو الذي يدور في فلكها، وأصبحت غالبية وسائل الإعلام في نظر الكثير من الخبراء ظالمة ومظلومة.
ظالمة، لأنها أخفقت في توصيل مطالب الناس إلى السلطة والشعور بأوجاعهم والمساعدة في حلها عبر كبار المسؤولين، ولم تحسن الاختيار جيدا في البعض ممن يتصدرون المشهد الإعلامي ويطّلون على الناس كل ليلة في برامجهم الخاصة، وفشل هؤلاء في توصيل الرسائل السياسية بالطريقة التي يريدها رئيس الدولة، بل أجهض بعضهم فرصا كان يمكن أن تضعهم في الواجهة بطريقة مهنية لو أنهم وسّعوا مداركهم واستوعبوا رسائل الرئيس السيسي جيدا، والذي أمل في إعلام يعبر عن نظامه مثل الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، ووصفه بأنه “كان محظوظا بإعلامه”.
ومظلومة، لأن معظم وسائل الإعلام في مصر تطبق أجندة قديمة، تعتمد على البعد عن المحظورات، فبدت مقيدة كثيرا في تناول الكثير من القضايا التي تهم الدولة، ويخشى بعض المسؤولين عنها من عواقب الاجتهاد الخاطئ، فآثروا السلامة باللعب في ما يسمى بـ”المنطقة الآمنة” التي تلتزم بالخط التقليدي للدولة، مع أن الكثير من المسؤولين يتوقون إلى رؤية اجتهادات ورؤى وإبداعات تقدم تصورات وتقديرات عملية لهم، في ظل كمّ كبير من التحديات الداخلية والخارجية.
فهناك خيط رفيع جعل معظم وسائل الإعلام ظالمة ومظلومة، يتمثل في التعامل مع كل انتقادات للمسؤولين عن ملفات وقضايا مختلفة كنوع من المحرمات أو الخيانة الوطنية، مع أن الاقتراب من هذه المنطقة يعطي قيمة للإعلام والقائمين عليه، خاصة إذا كانت الانتقادات مفيدة وهدفها معالجة خلل أو تصويب خطأ، فعندما تغدق في المديح لاحقا يمكن تصديقها من قبل الجمهور الذي يجوب فضاء واسعا، ويستطيع أن يختار منه ما يشاء، ويعبّر عن رأيه كيف ما يشاء أيضا، فلم يعد الإعلام حكرا على أحد.
ويعد تجاوز الخيط الرفيع واحدا من المهام التي يمكن أن تعيد للإعلام دوره، بالشكل الذي يرمي إليه الرئيس السيسي، فلن تتضرر مصر من وجود أصوات معارضة، أو آراء لا تتفق مع الكثير من المسؤولين، فقد تحملت على مدار السنوات الماضية اتهامات ومؤامرات تنوء بها الجبال، مع ذلك تخطت هذه المرحلة، وكان يمكن أن تحقق ذلك مبكرا لو أن إعلامها ضاعف من اجتهاداته في معالجاته للكثير من القضايا، وقلل المسؤولون عنه من حساسيتهم المفرطة لكل صوت لا ينسجم مع رؤاهم، فالعبرة، هل هذا الصوت شاتم وشامت أم نزيه مخلص ويريد تصويب ما يعتقد أنه خطأ؟
كشف الأداء الإعلامي أخيرا عن تحسن طفيف، لكنه يحتاج إلى جرعات جديدة تمنحه ثقة في نفسه وقدرة على التغيير ومجاراة العديد من وسائل الإعلام التي تبث من دول لا تتمتع بهامش سياسي أو مساحة حرية تجعلها قادرة على توجيه انتقادات لأنظمتها، غير أنها نجحت في تقديم وصفات إعلامية مهنية تنسي الكثير من متابعيها الدولة التي تنطلق منها أو النظام الذي تتبعه، لأنها لم تكبل نفسها بمواقف واضحة لهذه الدولة أو ذلك النظام، وحاولت محو اللون الرابط بينهما، أو على الأقل خففت من درجته، وقدمت درجة رمادية مكنتها من النجاح، ولا تمثل عبئا سياسيا على أحد.
ويمكن أن يصبح الإعلام المصري أكثر تأثيرا إذا اعتمد وصفة مهنية صحيحة وقلل من ارتباطه المباشر بالدولة المصرية، أو قام بتوزيع الأدوار، بمعنى منح مساحات من الحرية لقنوات وصحف أكثر من غيرها، وإيجاد منافسة ضمنية، تصب مكاسبها لصالح الدولة، فهناك الكثير من الإعلاميين يمكنهم خدمة بلدهم بطريقة أفضل، لأن الفكرة في الطبخة التي تقدم للجمهور، فليس كل مديح جيد، وليس كل انتقاد فاسد، فقد يكون المديح فاسدا، والانتقاد جيدا.
ويحتاج الأمر إلى توسيع الهدف أو الرسالة المطلوب من الإعلام توصيلها، ومن يجيد تحقيق ذلك عليه أن يستمر، ومن يخطئ عليه أن يتوارى أو تتم تنحيته، فالتحديات الإقليمية التي تواجهها الدولة كبيرة وعميقة، ولا تصلح معها شعارات أو نفاق من خلال اللقطات المفتعلة، فكلاهما خادع وإن حقق ارتياحا مؤقتا لبعض المسؤولين، فالنتيجة النهائية هي التي تحدد مستوى النجاح والإخفاق، وأيّ مراجعة لما جرى في السنوات الماضية تشير إلى وجود حاجة إلى تصحيح في مسار الإعلام.
◙ الإعلام المصري يطبق أجندة قديمة تبتعد عن المحظورات ليبدو مقيدا في تناول الكثير من القضايا التي تهم الدولة
إذا كانت المرحلة الماضية قامت فيها الدولة بترتيب أوراقها الداخلية وفرضت تضييقا معيّنا وتبني سياسة تقلق من الأصوات المعارضة، فالمرحلة المقبلة تتطلب المزيد من الحريات العامة وانفتاح يتماشى مع أهداف الجمهورية الجديدة، كي تصبح اسما على مسمّى، فألف باء التأسيس لها أن يكون لها إعلام جيد يعبر عنها ويتواءم مع معطيات دولية تتجاوز حدود الأخذ بعوامل التكنولوجيا والإفراط في تعظيم أداوت الذكاء الاصطناعي على حساب كسل في المضمون وبخل في الحرية.
وأشار البعض من الإعلاميين إلى حركة تغييرات كبيرة تطال العديد من رؤساء تحرير ومجالس إدارات الصحف والمواقع الإلكترونية الحكومية، قد تحدث خلال الأيام المقبلة، وهي فرصة لاختيار كفاءات قادرة على تطبيق سياسة إعلامية تتسق مع أهداف الرئيس السيسي في ولايته الثالثة والأخيرة، والتعبير عن رؤيته بطريقة تتخلّى عن حصر الولاء لنظامه في المديح، والإغداق في هذه المسألة بلا ضوابط، فهل حقق السابقون نجاحا ملموسا عندما تبنّوا هذه النوعية من التصورات؟
الإجابة القاطعة لا، لأن الرئيس السيسي كرّر شكواه من عدم قيام الإعلام بالتعبير عن رؤاه بالطريقة المناسبة، وفسرت تصريحاته بعدم رفضه لأيّ انتقادات موضوعية أو غضبه من أصوات معارضة، ومن فهموا رسالته بدقة عليهم تطبيق ما يريده عندما يقومون باختيار شخصيات قيادية جديدة، تملك قدرة على فهم ما يدور من تطورات متسارعة في المنطقة، وديناميكية في التعامل معها، وأدوات يمكنها تحقيق أهداف الدولة، وهي صفات سوف تحدد صورة الإعلام الفترة القادمة.
فكمّ الخطوات والتحركات التي قامت بها مصر، داخليا وخارجيا، الفترة الماضية كان كبيرا، والإنجازات التي تحققت ليست هيّنة، لكن التعبير عنها تم بطريقة شككت فئة من المواطنين فيها، وجعلت من وسائل الإعلام المناوئة تتفوق على الداعمة أحيانا، لأنها قدمت مضمونا مغرضا شيقا وجذابا، بينما قدمت الثانية مضمونا حقيقيا منفّرا.
العرب