أخيراً خرج الرد الإيراني من محبسه، وبعد طول انتظار من أحاديث حول سيناريوهات الرد وأسلوبه جاءت الطائرات المسيرة والصواريخ التي أطلقت من الأراضي الإيرانية لتحسم حديثاً طال أمده حول طبيعة الرد، وعن مكانه وزمانه، بينما عاش السوريون ليلتهم يراقبون السماء، ويترقبون ما بعد الضربة.
الشارع السوري منقسم
هجوم “الحرس الثوري” الذي جاء رداً على قصف إسرائيل لمقر دبلوماسي في سوريا في الأول من أبريل (نيسان) الجاري كان كفيلاً بأن ينظر إليه السوريون كل منهم بحسب رؤيته السياسية.
ويعتقد الجمهور الموالي لطهران أن دفعات الطائرات المسيرة والصواريخ التي دفعت سكان الأراضي الإسرائيلية ليفكروا بالعودة إلى الملاجئ ثانية كما حصل في حرب “هجوم حماس” في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، حققت غايتها وسارع منهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي لنشر عبارات التأييد، لا سيما أن كلفة إسقاط هذه الدفعات من الصواريخ عبر القبة الحديدة وصلت إلى مليار دولار أميركي، بحسب تقارير إعلامية.
في المقابل، وصف جمهور المعارضة السورية مجريات الأحداث، ومهما أثارت من غبار لا تتعدى عن كونها “مسرحية” لحفظ ماء وجه قادة إيران، بخاصة أن الهجوم وطبيعته علمت به إسرائيل بصورة مسبقة.
الهجوم بعد حروب الوكالة
ويعد هجوم “الحرس الثوري” الأول من نوعه، فهي سابقة من نوعها أن تضرب طهران إسرائيل من أراضيها، بينما وعبر عقود كانت تستخدم وكلاء لها بالمنطقة، ولا سيما في سوريا ولبنان والعراق لضرب إسرائيل ودعم حركة “حماس” أو “حزب الله” في سوريا ولبنان أو الميليشيات الموالية في العراق.
الهجوم الذي استمر لأكثر من خمس ساعات متواصلة من ليلة (السبت/ الأحد) عبر ما يقارب (185 طائرة من دون طيار، و36 صاروخ كروز، و110 صواريخ أرض – أرض) أسقطت الدفاعات الجوية الإسرائيلية معظمها، في وقت سمعت فيه أصوات متلاحقة وبصورة مخيفة فوق سماء دمشق جراء إطلاق الدفاعات الجوية في سوريا نيرانها على المضادات الجوية الإسرائيلية لصد الهجوم الجوي قبل أن تصل إليها.
وأكدت إسرائيل أنها أحبطت الهجوم الإيراني واعترضت “99 في المئة مما أطلق” باتجاه أراضيها.
حرب إقليمية
إزاء ذلك تتسع هواجس ما بعد الضربة الأخيرة لتتوسع حلقة النار إلى الدول المجاورة، ونشوب حرب إقليمية، وهذا ما دفع العاصمة التركية للمسارعة عبر وزارة خارجيتها للتخفيف من حدة التطورات الأخيرة، وذكرت أنها تتشاور في ما يتعلق بالتهديدات الأمنية، وجاء في بيان لها العمل بوضوح من أجل عدم إلحاق أي ضرر باستقرار المنطقة، التي من شأنها أن تتسبب في صراعات أكبر على المستوى العالمي.
وجاء أيضاً في البيان الذي نشرته فور الهجوم الإيراني، “قبل الحادثة التقينا السلطات الإيرانية والأميركية، ودعونا إلى الاعتدال، كما نقل الرسائل المتبادلة والتوقعات بين الطرفين عبر بلادنا، واتخاذ المبادرات اللازمة لضمان أن تكون ردود الفعل متناسبة، واليوم ننقل رسائلنا بوضوح إلى المسؤولين الإيرانيين والدول الغربية التي لها نفوذ على إسرائيل لوقف التصعيد”.
وتشعر أوساط سياسية محايدة بالقلق من التطور الأخير وانعكاساته على السوريين، إذ يمكن لتل أبيب الرد السريع على مواقع عسكرية توجد فيها القوات الإيرانية أو فصائل موالية لها، وقبل موعد الرد الإيراني بساعات توقع السفير والدبلوماسي السابق نضال قبلان خطة الرد الإيراني بأن تسبقه مشاغلة مكثفة بالصواريخ والمسيرات التي قد تكون كفيلة باستنزاف شبكات وجدران الدفاعات الجوية الأميركية والإسرائيلية بمراحلها الثلاث، من البر والجو والبحر مع حملة تشويش إلكتروني وسيبراني معقدة، وقد يكون هذا أول هجوم عسكري إيراني باستخدام إمكانات الأقمار الاصطناعية الإيرانية.
وقال السفير السابق قبلان، “إذا كانت واشنطن تراهن على منظومات الدفاع الجوي الأميركية والإسرائيلية في إسقاط الصواريخ والمسيرات الإيرانية المتطورة، فكيف تمكنت طهران وحلفاؤها من تدمير أهداف وقواعد أميركية وإسرائيلية عشرات المرات في العراق واليمن وفلسطين ولبنان بأسلحة شبه بدائية مقارنة بأحدث صواريخ فرط صوتية”.
وكشفت صحيفة “إيران إنترناشيونال” المعارضة عن استخدام مؤيدين للسلطات الإيرانية أخباراً مضللة ومزيفة عبر حملة تهدف الترويج عن نجاح الهجوم الإيراني، وشملت الحملة تقديم “صورة منتصرة” للعمليات العسكرية في حين هوت عملة إيران (التومان) 70 ألف تومان مقابل الدولار الأميركي مسجلاً رقماً قياسياً جديداً.
وكانت القناة “12 الإخبارية” الإسرائيلية ذكرت نقلاً عن مسؤولين عسكريين أن الرد الإيراني على استهداف القنصلية لن يأتي إلا بعد عيد الفطر، ويستهدف أصولاً عسكرية واستراتيجية، ويبتعد عن المواقع المدنية.
وفي وقت اعتبرت فيه البعثة الإيرانية في الأمم المتحدة في بيان لها، “الرد على الضربة الإسرائيلية بالأمر المنتهي، وإذا ارتكبت إسرائيل خطأً آخر فسيكون الرد أكثر قسوة”. ونقل موقع “أكسيوس” أن الرئيس الأميركي جو بايدن أبلغ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو معارضته أي هجوم إسرائيلي مضاد ضد إيران وسط قلق أوساط سياسية في واشنطن من رد إسرائيلي سريع على الهجوم الإيراني من دون التفكير بتداعياته، بينما تداولت وسائل إعلام عبرية عن نية تل أبيب الرد.
مخاوف من حرب أوسع
مخاوف امتداد النيران المتبادلة واتساعها لتتحول إلى حرب إقليمية هو أكثر ما تراقبه دمشق التي حرصت على ضبط نفسها وعدم الانجرار نحو الانخراط بأي دور من أدوار الرد، ولعل اتخاذ طهران قرار إطلاق الصواريخ والطائرات من أراضيها جاء ضرورياً، وكي لا يضع سوريا بموقف الهدف المباشر.
في هذه الأثناء أعلن رئيس هيئة الأركان العامة في الجيش الإيراني، محمد باقري رسمياً انتهاء رد طهران على استهداف قنصليتها بضربة إسرائيلية لدى دمشق، وعدم رغبتها في مواصلته. وقال باقري “لقد تجاوزت إسرائيل الخطوط الحمراء باستهداف القنصلية في سوريا، وكان لا بد من الرد عليها”.
علم واشنطن المسبق
وبينما دار حديث هاتفي بين وزير الخارجية الإيراني حسين عبداللهيان ونظيره السوري فيصل المقداد بالاتفاق على حق الدفاع النفس، أعرب المسؤول الإيراني على علم واشنطن المسبق بالعملية العسكرية الدفاعية “المشروعة”، وذلك قبل 48 ساعة من موعد القصف، بحسب وصفه.
في النهاية نتائج الضربات أقرب لـ”الصفر” عدا عن حالات هلع وسط العشرات من الإسرائيليين، وهو مبرر إلى حد للحفاظ على قواعد الاشتباك المرسومة، وعلى رغم حديث وسائل إعلام إيرانية عن سقوط إصابات وقتلى في قاعدة جوية فيها طائرات “أف 35″، الأمر الذي نفاه المسؤولون الإسرائيليون.
و”الكرة بملعب” تل أبيب التي ترى أوساط سياسية أن الضربة جاءت لصالح نتنياهو وسط تضامن دولي وداخلي معه في وقت كان فيه على شفير الهاوية، ولا تقارن النتائج بالضربات السابقة والخسارات لقادة من “الحرس الثوري” بالعشرات سقطوا في لبنان وسوريا والعراق، ولا تقارن مع الاختراق الأمني لمنظومات إيرانية بالقطاعات الاستخباراتية والعسكرية والنووية.