أخيراً، وبعد تمهّل أسبوعين، جاء ردّ إيران المتوقّع على القصف الإسرائيلي قنصليتها في دمشق، الذي قتل 16 شخصاً، بينهم اثنان من كبار قادرة الحرس الثوري الإيراني، قصفاً مباشراً على إسرائيل بـ420 مسيّرة وصاروخ، بين كروز وباليستي، وهو ردّ ذو دلالة رمزية قوية بوصفه الاستهداف الإيراني المباشر الأوّل من نوعه لأراضٍِ إسرائيليةٍ ومن داخل إيران، وليس عبر وكلائها، ولكنّه أيضاً ردّ مضبوط ومُنسّق مسبقاً، إذ أعلمت به طهرانُ واشنطن قبل 72 ساعة، وأُفشل بمنظومة الردع الإسرائيلية وحلفائها، خصوصاً الولايات المتحدة، في حين أنّ صواريخ قليلة سقطت في قاعدة لسلاح الجو الإسرائيلي وأحدثت أضراراً طفيفة في البنية التحتية وبعض الإصابات. أعلنت البعثة الإيرانية في الأمم المتحدة “انتهاء الردّ” على قصف القنصلية، وتم فتح الأجواء أمام حركة الطيران في إسرائيل والأردن والعراق ولبنان مباشرة بعد انتهاء العملية، فيما كانت فحوى المكالمة الهاتفية بين الرئيس الأميركي جو بايدن ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تأكيد واشنطن التمسّك بأمن إسرائيل، وفي الوقت نفسه محاولة لجم الأخيرة عن استفزاز طهران بمزيد من العمليات النوعية والاغتيالات.
لم تدعم طهران حركة حماس في مقاومتها الاعتداء الإسرائيلي على القطاع، وحاولت التنصّل من أيّ مسؤولية أو علم لها بـ”طوفان الأقصى”
بالنسبة لإيران ليس التصعيد في المنطقة في مصلحتها، وكما الولايات المتحدة، تريد للحرب أن تبقى محصورة في غزّة. أصلاً لم تدعم طهران حركة حماس في مقاومتها الاعتداء الإسرائيلي على القطاع، وحاولت التنصّل من أيّ مسؤولية أو علم لها بـ”طوفان الأقصى” ومنعت أذرعها من انخراطٍ مباشرٍ في الحرب، إذ تجري مناوشات بين حزب الله وإسرائيل من دون التصعيد العالي، واكتفت جماعة الحوثي في اليمن بالتضييق على حركة الملاحة في البحر الأحمر التي تخصّ الكيان الإسرائيلي. اختلال ميزان القوى لمصلحة إسرائيل، بسبب الدعم الغربي، الأميركي خصوصاً، لا يسمح لإيران بالمواجهة والتصعيد إلى حرب أوسع، خاصة أنّ حلفاءها ليسوا في وارد الانخراط في حرب إقليمية، فالصين تركّز على نموها الاقتصادي واستراتيجية الحزام والطريق، وروسيا منهكة في حربها في أوكرانيا. جاء الردّ الحتمي الذي توعّدت به طهرانُ إسرائيلَ رمزياً لحفظ ماء الوجه، وكان من الممكن تنفيذه فوراً بعد قصف إسرائيل القنصلية الإيرانية، لكنّ مدّة أسبوعين من الانتظار كانت حافلة بجولات مكّوكية في المنطقة لوزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان من أجل التنسيق مع الولايات المتحدة عبر الوساطة العُمانية، لاحتواء ردّ إيران الانتقامي، مقابل تحقيق مكاسب تتعلق بإيقاف الاغتيالات الإسرائيلية النوعية لقادة الحرس الثوري، بعد خساراتٍ موجعةٍ، كوادر عديدة من الحرس الثوري في ستة أشهر. تريد طهران تعزيز دورها في الإقليم عبر الحفاظ على أذرعها المنتشرة في أربع دول عربية؛ ورغم حدّة شعاراتها المُعلنة، والتي ترفض الوجود الإسرائيلي في المنطقة، فإنّ العلاقة بين طهران وتل أبيب علاقة منافسة على النفوذ والمصالح الإقليمية.
لا تربط الدولتين حدود مشتركة، ولم يسبق أن احتلت أيّ منهما أراضي في الأخرى، ولدى كلّ منهما برنامج نووي غير معلن، ومطامح نفوذ في المنطقة. رغم العداء المتبادل، وتبادل تسجيل الأهداف العسكرية، إلا أنّ إيران وإسرائيل تتبادلان أيضاً المنفعة من الفوضى الحاصلة في المنطقة؛ فإيران مستفيدة من الانتهاكات الإسرائيلية في الضفة الغربية وقطاع غزّة، وفي المسجد الأقصى، وتقدّم الدعم السياسي والعسكري واللوجستي لحركات المقاومة في القطاع، رغم أنّه لا يمكن اعتبار تلك الحركات أذرعاً لها، لأنّ قرارها مستقلٌّ بدليل “طوفان الأقصى”، لكنّها، في الوقت نفسه، تعتبر تعزيز العلاقة مع “حماس”، خصوصاً، نفوذاً لها في فلسطين. أمّا باقي الأذرع، أي حزب الله والحشد الشعبي والحوثيين والزينبيين والفاطميين وغيرهم، فهي تدعم تشكيل جماعات طائفية ضدّ المصالح الوطنية. وهذا التوتير في المنطقة يُضعف إمكانية تشكيل دورٍ مقاومٍ حقيقي للشعوب بإلهائها بصراعات طائفية وبمشكلات يومية وبصراعات مستمرّة مع الفقر والاستبداد. الغرب، خاصّة الولايات المتحدة، يتبنّى دعم إسرائيل كياناً يضمن استمرار توتير المنطقة، وراضٍ عن دور طهران فيها، ويعمل على ضبط إيقاع الاستفزازات بين إسرائيل وإيران، وأن تبقى دون سقف التصعيد.
وجود الكيان الصهيوني، وإشكالية الصراع العربي معه، شكّلا رافعة لطهران لبناء أذرعها الطائفية في المنطقة، في لبنان تحديداً
وجود الكيان الصهيوني، وإشكالية الصراع العربي معه، شكّلا رافعة لطهران لبناء أذرعها الطائفية في المنطقة، في لبنان تحديداً، والتي نمت مع انهيار فصائل المقاومة الوطنية الفلسطينية. وخاض حزب الله حرباً في 2006 ضدّ إسرائيل لتبرير وجوده تنظيماً مسلّحاً في لبنان، في حين أنّ باقي المليشيات في العراق واليمن وسورية كانت بسبب الحرب والفوضى الأمنية الحاصلة، واستغلال العامل الطائفي. إنّ وجود كيان استعماري استيطاني مدعوم من الغرب بشكل لا محدود في فلسطين هو في عمق أسباب عدم الاستقرار في المنطقة، وبالتالي، إزالة الكيان هي في مصلحة تقدّم العالم العربي واستقراره، وليست في مصلحة نفوذ إيران. ورفع شعار إبادة إسرائيل هو لتبرير أجندة أذرع إيران “المُقَاوِمَة”، وليس للقيام بفعل المقاومة ذاتها. هنا كان على طهران أنّ تردّ عسكرياً على اعتداء تل أبيب على قنصليّتها لتحفظ ماء وجهها، أمام وكلائها في المنطقة بالدرجة الأولى. تصرّفت طهران بحكمة عبر ردّها الحتمي، لكن المضبوط والمعلن عنه، فلا يصيب أهدافاً تجرّ المنطقة إلى حرب أوسع تهدم كلّ ما بنته إيران، الدولة المنبوذة من الغرب، من نفوذ، فظلّت تواجه الضربات الموجعة بصبر استراتيجي، ولن تضحّي بأذرعها في المنطقة من أجل ردّ عسكري على إسرائيل، فتلك الأذرع التي تقوم بدور إزعاج إسرائيل، وليس إيذائها، هي أوراق مفاوضة إيرانية أمام الغرب للاعتراف بدورها الإقليمي في المنطقة، في أيّ تسوياتٍ مستقبلية، في اليمن ولبنان والعراق وسورية، وكذلك في فلسطين.