أبوظبي – في ظل ضبابية المشهد الاقتصادي العالمي، لا تزال منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تواجه تحديات اقتصادية واسعة النطاق، بما في ذلك التباطؤ العالمي، وارتفاع أسعار الفائدة، وتشديد الأوضاع المالية والنقدية، فضلا عن التوترات الإقليمية والدولية التي تُلقي بظلال كثيفة على سلاسل التوريد وحركة التجارة والسياحة وتدفقات رؤوس الأموال.
تباطؤ إقليمي
توقع صندوق النقد الدولي، عشية نشوب الحرب في غزة، أن يتباطأ النمو الاقتصادي بشكل ملحوظ في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بنهاية عام 2023 إلى 2 في المئة، نزولا من 5.6 في المئة في العام السابق، وسط انخفاض إنتاج النفط في الدول المُصدرة له، وتشديد السياسات النقدية والمالية في الأسواق الناشئة والاقتصادات متوسطة الدخل، والظروف الاقتصادية الداخلية السائدة في عدد من دول المنطقة.
أزمة حرب غزة قد تكون بمثابة بداية حقبة من عدم اليقين في ظل البيئة العالمية الأكثر عرضة للصدمات
كما توقع الصندوق أن تتحسن الظروف الاقتصادية نسبيا في عام 2024، مع وصول النمو في المنطقة إلى 3.4 في المئة، مع تراجع الانكماش في السودان، وتبدد العوامل الأخرى التي تضعف النمو، بما في ذلك التخفيضات المؤقتة في إنتاج النفط.
ويقول الدكتور مدحت نافع الخبير الاقتصادي ومساعد وزير التموين والتجارة المصري سابقا في تقرير نشره مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، إن مع ذلك، لا تزال أزمة الدين العام قائمة، ومن المتوقع أن يظل النمو متوسط الأجل ضعيفا.
وعلى الرغم من تراجع التضخم على نطاق واسع، فإنه لا يزال مرتفعا في بعض الاقتصادات، إذ يؤدي ارتفاع أسعار المواد الغذائية إلى تفاقم فرص انعدام الأمن الغذائي.
ويرى نافع أن التباطؤ الإقليمي يعود بشكل رئيسي إلى تراجع الطفرة في الدول المصدرة للنفط، إذ إن من المتوقع أن يتباطأ النمو فيها إلى 3.3 في المئة و2.3 في المئة في عامي 2023 و2024 على التوالي، انخفاضا من 6.1 في المئة في عام 2022، مع مراعاة أثر الأساس المنخفض لهذا العام، إذ تتم مقارنته بعام 2021 الذي شهد انكماشا كبيرا على خلفية إغلاقات جائحة كورونا.
ويعكس التعديل النزولي لآفاق النمو في الدول ذات الفائض النفطي، التباطؤ المتوقع في اقتصادات الشركاء التجاريين، والتخفيضات الجديدة في إنتاج النفط، والآثار المتأخرة لتشديد السياسة النقدية المحلية.
ويرى صندوق النقد الدولي أن الدول المصدرة للنفط يجب أن تركز على جهود التنويع الاقتصادي، مع تعزيز الاحتياطيات المالية لتعزيز مرونتها.
وكذلك، من المتوقع أن يتراجع النمو في العراق إلى 4 في المئة في 2023، و2.9 في المئة في عام 2024، وهو أقل من وتيرة ما قبل الجائحة.
ومن المرجح أن يؤدي نقص المياه والكهرباء، فضلا عن عدم الاستقرار السياسي والأمني، إلى إعاقة المسار التنموي في هذا البلد.
ومن المتوقع أن تشهد سوريا المزيد من الانكماش في عام 2023، ويواجه اقتصادها صدمات متعددة، بما في ذلك التأثيرات المناخية، والعنف المستمر، وعدم اليقين بشأن السياسات، ونقص الوقود. ونتيجة للأوضاع غير المستقرة في سوريا، انخفض الدخل إلى النصف بين عامي 2010 و2020، وتواجه الأسر مستويات غير مسبوقة من الفقر وانعدام الأمن الغذائي.
وفي سائر الدول المستوردة الصافية للنفط في المنطقة، من المتوقع أن يظل النمو ثابتا خلال الفترة 2023 – 2024، عند معدل يزيد قليلا عن 4 في المئة سنويا، لكن يؤدي ارتفاع التضخم في معظم تلك الدول إلى تآكل الأجور الحقيقية، مما يؤثر في الاستهلاك المحلي، الذي يعد الرافد الأهم للنمو في الدول كثيفة السكان.
ومن المرجح أيضا أن يؤدي ضعف نمو الطلب الخارجي إلى الحد من النشاط في قطاعي التصنيع والسياحة، وأن يؤدي تشديد السياسة المالية والنقدية (بهدف كبح جماح التضخم المرتفع والعجز في الحساب الجاري) إلى تقييد النمو.
ومن المتوقع أن ينتعش النمو في المغرب إلى 3.5 في المئة في عام 2023، أي أقل من التوقعات السابقة، وإلى 3.7 في المئة في عام 2024، مع تعافي قطاع الزراعة تدريجيا من الجفاف الذي شهده العام الماضي. ويُنتظر أن يعوض الإنفاق الحكومي جزئيا ضعف الاستهلاك الخاص الناجم عن ارتفاع التضخم.
ومن الممكن أن يؤدي المزيد من التدهور في الظروف المالية أو الاقتصادية العالمية والمحلية خلال عام 2024، إلى المزيد من المعاناة في الاقتصادات التي تعاني من اختلالات هيكلية كبيرة في الاقتصاد الكلي. وعلى الرغم من عدم مراجعة تلك التوقعات بشكل جوهري في ضوء تداعيات حرب غزة، فإن الاتجاهات العامة للنمو تظل معبّرة عن سائر العوامل الاقتصادية الأخرى.
إذ كان مصدرو النفط يستفيدون من ارتفاع أسعار الطاقة نسبيا، فإن الاقتصادات متوسطة الدخل تتأثر بالقيود الناجمة عن عدم الاستقرار المالي. وتعاني الدول منخفضة الدخل من ارتفاع أسعار السلع الأساسية والآثار المستمرة لجائحة كورونا، فضلا عن تداعيات الحرب في كل من أوكرانيا وغزة. واستمر التضخم في الارتفاع عام 2023، ومن المتوقع أن تظل قيمته مكونة من خانتين حتى نهاية العام على الأقل، كما أن التعافي من الصدمات التضخمية قد يستهلك النصف الأول من عام 2024 على أقل تقدير، وذلك بافتراض بقاء سائر العوامل الأخرى على حالها.
ويشهد معدل التضخم تراجعا في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، باستثناءات محدودة. ومن المتوقع أن يرتفع متوسط التضخم في المنطقة إلى 17.5 في المئة عام 2023، و15 في المئة عام 2024.
ويرى تقرير حديث لصندوق النقد الدولي، صدر في أكتوبر الماضي، أن على الرغم من انخفاض التحديات العالمية غير المواتية مقارنة بشهر أبريل 2023، فإن التهديدات المتعلقة بالمناخ تتزايد، في حين أن الانخفاض (الأسرع من المتوقع) في التضخم العالمي، من شأنه أن يقلل الضغوط على البنوك المركزية في ما يتعلق بالمزيد من رفع أسعار الفائدة.
ومع ذلك، لا تزال هناك مخاطر عديدة، بما في ذلك احتمال انخفاض الطلب الخارجي في حالة حدوث تباطؤ أكثر حدة في الصين، على خلفية أزمتها العقارية، وارتفاع ضغوط الأسعار العالمية بسبب تصاعد الحرب في أوكرانيا، والكوارث المرتبطة بتغير المناخ أو الكوارث الطبيعية.
ووفقا لصندوق النقد الدولي، فإن استعادة استقرار الأسعار، ومعالجة انعدام الأمن الغذائي، وتخفيف أزمة تكاليف المعيشة، وحماية الفئات الضعيفة، تعد جميعا من أولويات السياسات الاقتصادية في المنطقة خلال عام 2024.
وشدد الصندوق على أهمية إعطاء الأولوية لاستقرار الأسعار في السياسة النقدية. وبالنسبة للدول التي تعاني من ضغوط تضخمية مستمرة، ينبغي أن تظل السياسة متشددة.
وعلاوة على ذلك، قد تحتاج بعض دول شمال أفريقيا إلى النظر في اتخاذ تدابير تشديد إضافية. وفي الدول التي بدأ فيها التضخم في العودة إلى المستوى المستهدف، ينبغي تخفيف السياسة المتشددة بحذر.
لا شك أن إسرائيل وقطاع غزة والضفة الغربية هي الجبهات الأكثر تضررا من الحرب الحالية، لكن التأثير الاقتصادي يمتد إلى ما هو أبعد من مناطق القتال. إذ تعاني الدول المجاورة، مثل مصر والأردن ولبنان، بالفعل من أصداء اقتصادية. فوسط مخاوف بشأن خطر التصعيد، ألغى عدد من السائحين والمستثمرين زياراتهم إلى المنطقة، مما أدى إلى ضرب شريان الحياة لهذه الاقتصادات.
وتعد السياحة، التي شكلت ما بين 35 في المئة وما يقرب من 50 في المئة من صادرات السلع والخدمات في تلك الاقتصادات عام 2019، مصدرا بالغ الأهمية للنقد الأجنبي وفرص العمل.
وستشهد الاقتصادات المعتمدة على السياحة مثل لبنان، تأثيرات غير مباشرة في النمو، إذ انخفضت معدلات إشغال الفنادق بنسبة 45 نقطة مئوية في أكتوبر 2023 مقارنة بالعام السابق عليه.
وقد تكون أزمة حرب غزة بمثابة بداية حقبة من عدم اليقين في العديد من دول الشرق الأوسط إذا لم يتم التعامل معها على النحو المناسب، خاصة في ضوء التحديات الهيكلية القائمة، والبيئة العالمية الأكثر عرضة للصدمات.
ويمكن أن تساعد الإصلاحات الهيكلية على دعم النمو على المدى القريب، وآفاق النمو على المدى الطويل. ومن المرجح أن تتمكن الاقتصادات الأقوى والأكثر مرونة من تحمل الصدمات المفاجئة.
على الرغم من تراجع التضخم على نطاق واسع، فإنه لا يزال مرتفعا في بعض الاقتصادات، إذ يؤدي ارتفاع أسعار المواد الغذائية إلى تفاقم فرص انعدام الأمن الغذائي
وتتوقع مؤسسة “فيتش” أن يتفوق النشاط الاقتصادي والأساسيات في دول مجلس التعاون الخليجي على بقية منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في عام 2024.
وسيدعم الاقتصاد غير النفطي القوي في دول الخليج واستقرار إنتاج النفط انتعاش الاقتصاد عبر تعزيز النمو والحفاظ على فائض في معظم حساباتها الجارية وأرصدتها المالية.
وفي مقابل ذلك، ستواجه دول شمال أفريقيا مجموعة مختلفة من المشكلات الهيكلية، أبرزها العجز التوأم؛ المتمثل في عجز الموازنات العامة وعجز ميزان المدفوعات، فضلا عن ارتفاع البطالة.
ويجعل التفاوت في الدخل والثروة بين دول مجلس التعاون الخليجي من ناحية، وبعض دول الجوار مثل اليمن، والدول منخفضة الدخل مثل الأردن وسوريا ولبنان وتونس، التي تكافح من أجل احتواء الفقر والبطالة من ناحية أخرى، التوقعات لعام 2024 شديدة التباين داخل الإقليم.
وإذا تسببت الحرب في غزة والضفة الغربية في إحداث اضطرابات أكثر خطورة في البحر الأحمر، فإن الدول الأكثر ازدهارا في المنطقة ربما لن تسلم من التداعيات السلبية.
ويمكن للأزمات أيضا أن تكشف عن نقاط الضعف الأساسية، مما يؤدي إلى تفاقم المخاطر السلبية التي تهدد الآفاق المستقبلية. فقد يؤدي ارتفاع هامش المخاطرة إلى ارتفاع تكاليف الاقتراض والتأمين، وهو ما قد يؤثر سلبا في الاقتصادات المثقلة بالديون.
وعلاوة على ذلك، فإن الدول الهشة والمتأثرة بالصراعات في المنطقة، يمكن أن تشهد انخفاضا في تدفقات المساعدات الحيوية، إذا تحوّل تركيز الجهات المانحة بعيدا، ولم يتسع نطاق المساعدات الدولية لتلبية الاحتياجات العالمية المتزايدة.
وقد ارتفعت عائدات السندات الحكومية في بعض الاقتصادات بالفعل على خلفية حرب غزة، وكان صافي تدفقات المحافظ إلى المنطقة (وهو مؤشر على جاذبية الاستثمار) يتراجع مع تطور الأزمة، لكنه عاد مؤخرا إلى مستويات ما قبل الحرب، تماما كما فعلت أسعار النفط بعد استبعاد المتعاملين في الأسواق لاحتمال تمدد الصراع إلى دول أخرى في الشرق الأوسط.
العرب