ظل الدولار عملة الاحتياط الدولية في البنوك المركزية، وعملة التسوية الرئيسية في الصفقات التجارية، وعملة الشراء والبيع الأساسية للسلع الاستراتيجية مثل النفط والغاز والعديد من المعادن الاستراتيجية للصناعة منذ الحرب العالمية الثانية التي كتبت صعود الإمبراطورية الأميركية وتراجع الإمبراطورية البريطانية، وكذلك بناء النظام المالي العالمي الذي كرّس هيمنة الدولار الذي حل محل الجنيه الإسترليني. لكن في الآونة الأخيرة، بات العالم يتململ من هيمنة الدولار، خاصة بعد استخدام واشنطن بكثافة العملة الأميركية في بسط النفوذ العالمي، عبر سياسات الحظر والعقوبات وشبكة “سويفت” الرابطة بين البنوك العالمية، وبات الدولار أهم الأدوات إلى جانب القوة العسكرية في الحروب التجارية.
هذه العوامل أثارت السؤال حول مدى استمرارية نفوذ الدولار وسطوته على النظام المالي العالمي وأدواته مثل صندوق النقد والبنك الدوليين ومؤسسة التمويل الدولية وأخواتها. فالعالم يشهد تحولات جيوسياسية وجيواستراتيجية، بما في ذلك الأزمة المستمرة بين روسيا وأوكرانيا، والتوترات بشأن تايوان، والعدوان الإسرائيلي على غزة، ودعم واشنطن اللامحدود لإسرائيل في حرب الإبادة على غزة التي أثارت سخط العالم ضد واشنطن. وباتت هذه التحولات تشكل محركات رئيسية وراء تراجع دور وهيمنة الدولار، يدعمها الصعود الاقتصادي السريع للصين ودورها في التجارة العالمية.
الدولار هو العملة العالمية الوحيدة التي تستخدم على نطاق واسع في المعاملات والتسعير والتسوية والاستثمار من قبل الحكومات والجهات الفاعلة خارج الولايات المتحدة
وبالتالي، أصبحت هيمنة الدولار والحفاظ عليه مسرحاً رئيسياً لصراع القوى العظمى بين واشنطن وتقارب بكين ـ موسكو، مما يضع مستقبل النظام الدولي الرأسمالي في الميزان ويهدد تبعاً لذلك عرش الدولار، ووفقاً لشهادة أدلت بها الخبيرة كارلا نورلوف، أمام لجنة الكونغرس الأميركي المالية في 5 يونيو/حزيران 2023، فإن مركز الدولار لا يزال قوياً. وترى نورلوف، أن ضعف مكانة الدولار سيؤرخ لنهاية الهيمنة الأميركية المطلقة على النظام العالمي وبداية لحقبة جديدة لنظام عالمي متعدد الأقطاب.
ويعد الدولار العملة العالمية الوحيدة التي تستخدم على نطاق واسع في المعاملات والتسعير والتسوية والاستثمار من قبل الحكومات والجهات الفاعلة خارج الولايات المتحدة. وتوفر هذه الأدوار للولايات المتحدة امتيازات اقتصادية وسياسية واجتماعية.
اقتصادياً، يستفيد الأميركيون من سهولة وراحة التعامل بالدولار، ومن رسوم صك العملة، والمرونة النقدية. ويلاحظ أن كلفة ورقة عملة نقدية من فئة 100 دولار تكلف الولايات المتحدة نحو 14 سنتاً فقط، بينما تكلف العملة من فئة 50 دولاراً نحو 11 سنتاً، وهو ما يعني أرباحاً حكومية كبيرة. يضاف إلى ذلك الفوائد التي توفرها الملاذات الآمنة في أوقات الأزمات للمصارف الأميركية. ومن الناحية السياسية، يعد الدولار أداة غير عسكرية تستخدمها واشنطن لإكراه الدول، والمساهمة في تغيير الأنظمة التي تعترض على سياساتها، وكذلك مراقبة النظام الدولي وحركة الأموال العالمية، وفقاً لتحليل “أتلانتك كاونسل”. ومن الناحية الاجتماعية، تكتسب الولايات المتحدة المكانة والهيبة، وبالتالي فإن الحفاظ على مكانة الدولار “عملة عالمية” يُعد من أهم ركائز الأمن القومي الأميركي.
ويرى تحليل “أتلانتك كاونسل” للدراسات، أن من غير المرجح أن تتغير الهيمنة المطلقة للدولار في العقود المقبلة، على الرغم من تراجع الهيمنة النسبية للدولار عن مستويات الذروة. ويلاحظ أن هناك تراجعاً في مكانة الدولار، وهو ما يعتبر نذيراً بتحول مراكز القوى على المدى الطويل نحو التحالف الصيني الروسي، وربما يعجّل ببداية نظام متعدد الأقطاب، حيث تصبح الولايات المتحدة أقل قدرة وأقل نفوذاً فيه. في هذا الصدد، تراجعت قوة الدولار في التسويات التجارية العالمية، حيث قفزت حصة اليوان في التسويات التجارية الصينية في التجارة الخارجية من 15% في عام 2021 إلى 27% في العام الماضي 2023. وبحسب الاقتصادي جيرارد دي بيبو في تعليقات نقلتها وكالة بلومبيرغ، فإن هذا يعود إلى العقوبات الأميركية والغربية على روسيا التي حولت تجارتها من أوروبا إلى الصين ودول جنوب شرق أسيا وغيرها من دول العالم.
ينصح خبراء المال الإدارات الأميركية بأن تكون أكثر حكمة في استخدامها للعقوبات التجارية التي يمكن أن تعجل بتخفيض الحيازات الأجنبية من الديون الأميركية، خاصة السندات وأذون الخزانة
ووفقاً لموقع ستاتيستا المتخصص في البيانات الاقتصادية والمالية، ارتفعت حصة اليوان الصيني لأول مرة في تسويات التجارة الصينية بنسبة 52.9%، مقارنة بتسويات الدولار البالغة 42% في العام الماضي. وتؤخذ حصة التسويات التجارية من نسبة 200% وليس مائة في المائة، لأن التسويات التجارية تحتاج لعملتين وليس لعملة واحدة. ويرجح محللون حدوث تسارع تدريجي في التراجع عن ظاهرة الدولرة خلال السنوات المقبلة، بسبب ارتفاع الديون الأميركية، وربما عدم القدرة على تسديدها.
وكانت وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين قد حذرت، في وقت سابق، من مخاطر بقاء الفائدة الأميركية مرتفعة على الدولار، وقالت، في مايو/أيار الماضي، إن توقعات ارتفاع أسعار الفائدة على المدى الطويل تجعل من الصعب احتواء احتياجات الاقتراض الأميركية، وهو ما يزيد من أهمية زيادة الإيرادات في المفاوضات مع المشرّعين الجمهوريين في الكونغرس. وتقدّر ديون الولايات المتحدة في الوقت الراهن بأكثر من 34.7 تريليون دولار، وفق بيانات الخزانة الأميركية، وهذا الارتفاع في الفائدة على الدولار وارتفاع حجم الديون قد يمثل عبئاً كبيراً على الميزانية الأميركية من ناحية أعباء خدمة الدين.
وحسب بيانات وزارة الخزانة الأميركية، اعتبارًا من إبريل/نيسان 2024، بلغت تكلفة خدمة الدين 624 مليار دولار، وهو ما يمثل 16% من إجمالي الإنفاق الفيدرالي في السنة المالية 2024. وربما تقود الديون المتفاقمة تدريجياً إلى عزوف المستثمرين عن شراء السندات الأميركية، وتحدث تخفيضات أعلى في الحيازات الأجنبية من سندات الخزانة. وربما لن يحدث ذلك في العام الجاري 2024، ولكن لا شك في أن الأحداث العالمية المتسارعة ستتم مراقبتها من قبل وكالات التصنيف العالمية لمعرفة مسار القدرة الأميركية المستقبلية على الإيفاء بالتزاماتها المالية. وحتى الآن، تستفيد مزادات الخزانة الأميركية من الثقة العالمية في سداد قيمة السندات التي تباع وتشترى بقيمتها من دون خسارة مقارنة بالسندات العالمية الأخرى التي تنقص قيمتها وتحتاج إلى تأمين.
اقتصاد دولي
الدولار يتربع على عرش عملات العالم في 2023… ماذا عن العام المقبل؟
وينصح خبراء المال الإدارات الأميركية بأن تكون أكثر حكمة في استخدامها للعقوبات التجارية التي يمكن أن تعجل بتخفيض الحيازات الأجنبية من الديون الأميركية، خاصة السندات وأذون الخزانة. ولا يستبعد خبراء أن تشكل العملات الأخرى وديونها العامة عنصراً متزايداً في الاحتياطات العالمية من العملات الأجنبية خلال العقود المقبلة ويفقد الدولار ميزاته بالنسبة للمستثمرين الأجانب، وسيؤثر ذلك تلقائياً على بورصات وول ستريت، السوق المالية الأكبر والأكثر سيولة في العالم.
ومن بين العوامل التي تهدد مستقبل الدولار تكالب البنوك المركزية على اكتناز الذهب. ولاحظ مجلس الذهب العالمي أن البنوك المركزية تواصل زيادة حيازتها من الذهب، وقال في تقريره الصادر في 4 يونيو/حزيران الجاري، إن ثمانية بنوك مركزية زادت احتياطاتها من الذهب بمقدار طن أو أكثر في شهر إبريل الماضي. وكان البنك المركزي التركي أكبر مشترٍ، إذ زاد احتياطاته الرسمية بمقدار 8 أطنان. وبلغ صافي مشتريات البنك منذ بداية العام الجاري 38 طناً، مما يرفع إجمالي حيازاته الرسمية من الذهب إلى 578 طناً. ورفع البنك الوطني الكازاخستاني مشترياته من المعدن الأصفر بستة أطنان، وبنك الاحتياط الهندي بستة أطنان، والبنك الوطني البولندي بخمسة، وسلطة النقد السنغافورية بأربعة، والبنك المركزي الروسي بثلاثة، والبنك الوطني التشيكي بطنّين. ويعد هؤلاء كبار المشترين للذهب خلال هذا الشهر، فيما واصلت الصين مشترياتها من الذهب في خلال الـ18 شهرا الماضية، إذ اشترت 316 طنا، ليرتفع احتياطي الذهب بالبنك المركزي الصيني إلى 2264 طنا في منتصف مايو الماضي. كما أن لدى الصين احتياطات دولارية تقدّر بنحو 3.2 تريليونات دولار.
ويرى مراقبون أن الصين تخطط عبر هذه الاحتياطات الضخمة لدعم عملة “بريكس” (مجموعة اقتصادية تضم روسيا والصين وعددا من الدول) التي أعلن عنها في قمة جوهانسبرغ العام الماضي. وهذه كلها مؤشرات على أن عرش الدولار سيهتز في حال استمرار واشنطن في سياساتها الحالية القائمة على التمويل، من خلال الاستدانة واستخدام الدولار كأداة سياسية لتنفيذ تسلطها على الشعوب.