اعتذرت القيادة الرسمية للسلطة الفلسطينية عن المشاركة في اجتماع دعت إليه الصين الشعبية مؤخرا لجمع الفصائل الفلسطينية الأربعة عشر، للخروج من مأزق الانقسام، إلى وضع وحدوي أفضل، في مواجهة حرب الإبادة التي يشنها الكيان الصهيوني على الشعب الفلسطينية، خاصة في غزة. وبهذا تتهرب القيادة الرسمية ربما للمرة العاشرة من محاولات رأب الصدع الفلسطيني، وآخر محاولتين كانتا في اجتماع العلمين بتاريخ 3 يوليو 2023 واجتماع الجزائر الذي صدر عنه بيان مهم بتاريخ 13 أكتوبر 2022 للفصائل إياها. روسيا حاولت وفشلت والسعودية وقطر وتركيا. والسبب في التهرب من الوحدة على أرضية ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية، يفرض نوعا من التنازلات من القيادة الرسمية وأولها التخلي عن اتفاقيات أوسلو، التي أوصلت الشعب الفلسطيني إلى ما هو عليه من تمزق وضياع، وفتح المجال للعديد من الأنظمة العربية أن تطبع علاقاتها مع الكيان وتتهرب من مسؤولياتها تجاه القضية الفلسطينية، واتفاقيات المقاطعة وقرارات القمم العربية، التي ترتب التطبيع بعد تنفيذ حقوق الشعب الفلسطيني في قيام الدولة المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، وحل قضية اللاجئين حلا عادلا كما نص على ذلك مؤتمر بيروت للقمة عام 2002.
منذ الفصل الجديد من حرب الإبادة، التي لم تتوقف يوما منذ 1948، التي شنها الكيان الصهيوني بعد السابع من أكتوبر، والتي أدت لغاية الآن، لسقوط أكثر من 140 ألفا بين شهيد وجريح ومفقود، وتدمير البنى التحتية بكاملها في غزة من مدارس وجامعات ومستشفيات ومساجد وكنائس وطرق وملاجئ ومؤسسات محلية ودولية. وهناك حقائق سطعت واضحة كالشمس، لا نشك بأنها تشكل إجماعا أو شبه إجماع لدى الشعب الفلسطيني، ألخصها في النقاط التالية:
– إن الخيار الذي يقدمه الكيان الصهيوني للشعب الفلسطيني هو الإبادة النهائية، والقضاء على مشروعه الوطني وتدمير الكيانية الفلسطينية بكاملها. ولا يوجد لديهم فلسطيني جيد وفلسطيني سيئ، بل فلسطيني ميت أو معاق أو مهجّر. ومن لا يعتقد بصدقية هذه العقيدة الراسخة لدى المؤسسة الصهيونية، فلينتظر دوره فهو آتٍ لا ريب فيه، إذا سمحنا لحرب الإبادة أن تحقق أهدافها. هذا هو الخيار الوحيد الذي تعرضه إسرائيل على الفلسطينيين منذ اليوم الأول لقيام فكرة الدولة. أعطوني رئيس وزراء إسرائيلي واحد لم يمارس القتل ضد الفلسطينيين. أعطوني رئيس وزراء إسرائيلي واحد بعد عام 1967 لم يوسع الاستيطان. أعطوني تصريحا لرئيس وزراء إسرائيلي واحد يعترف فيه بحق الفلسطينيين في دولة مستقلة ذات سيادة فعلية ومتواصلة جغرافيا وقابلة للحياة والاعتراف بحق العودة والمسؤولية التاريخية عن تشريد الشعب الفلسطيني.
الفلسطيني أضعف في ظل الانقسام، والوحدة الوطنية تعزز من الصمود والمواجهة والاحترام الدولي وتسهل إدارة مفاوضات ترتكز على القوة لا على المسكنة والدعوة للحماية
– الكيان الصهيوني قاعدة متقدمة للدول الاستعمارية والإمبريالية، قديمها وحديثها، خاصة الدول الخمس الكبرى، الولايات المتحدة، وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، التي أعلنت بعد حادثة 7 أكتوبر، التضامن مع الكيان وقدمت كل وسائل القتل والتدمير له، ووضعت ترسانتها وقدراتها العسكرية، جوا وبحرا وبرا وتكنولوجيا متقدمة تحت تصرفه. والمثل الأسطع جاء عندما تصدت هذه الدول نفسها لتحمي الكيان من الصواريخ الإيرانية التي انهالت على الكيان عشية 14 أبريل حيث استخدمت إمكانياتها كافة لتشكل مظلة حماية للداخل الإسرائيلي. هذه حقيقة يجب ألا تغيب عنا. فمن يعتقد أن العدالة للشعب الفلسطيني ستأتي من الذين أنشأوا إسرائيل ومدوها بأنابيب الحياة وما زالوا، فهو واهم.
– إن الكيان الصهيوني يتصرف فوق القانون الدولي، بسبب تأمين الولايات المتحدة مظلة حماية داخل منظومة الأمم المتحدة وخارجها. لا توجد دولة في العالم انتهكت كل القوانين الدولية بما فيها القانون الدولي الإنساني، والقانون الدولي لحقوق الإنسان مثل هذا الكيان. لقد صدرت عن مجلس الأمن أربعة قرارات لوقف إطلاق النار، وقراران من الجمعية العامة، وثلاث مجموعات من الإجراءات العاجلة عن محكمة العدل الدولية، عدا عن بيانات مجلس حقوق الإنسان، والفريق المستقل للتحقيق في الأراضي الفلسطينية والمحتلة وإسرائيل ومسؤولي المنظمات الإنسانية. لم تحترم إسرائيل أيا من هذه القرارات والمناشدات والإجراءات. لا يمكن لدولة أخرى أن تتصرف بهذه الطريقة وتفلت من العقاب، كما هو حال هذا الكيان. فلا يعتقدن أحد أن اعتماد قرار أو قرارين جديدين في مجلس الأمن سيغير شيئا في الوضع على الأرض. تتعامل إسرائيل مع هذه القرارات، كما تعامل ممثلها الأكثر توحشا وقلة أدب جلعاد إردان، عندما مزق ميثاق الأمم المتحدة أمام عيون جميع أعضاء الجمعية العامة.
– الوضع العربي ميئوس منه، لقد أثبت النظام العربي أنه غائب، وأن الغالبية الساحقة من هذه الدول هي كيانات وظيفية تأخذ شرعيتها من الخارج لا من إرادة شعوبها. إذ كيف يمكن أن نفسر هذه المواقف من حرب الإبادة، فلا سفير سحب ولا علاقات قطعت ولا تجارة توقفت ولا طيران ألغي ولا علاقات عسكرية جمدت، أو تأجلت ولا اتصالات توقفت.
– الوضع الفلسطيني أضعف في ظل الانقسام، والوحدة الوطنية تعزز من الصمود والمواجهة والاحترام الدولي وتسهل إدارة مفاوضات ترتكز على القوة لا على المسكنة والدعوة للحماية.
هنا مجموعة نقاط قد تساهم في الخروج من الأزمة الوجودية التي تعيشها القضية الفلسطينية:
أولا – يجب الاعتراف ثم الاعتذارللشعب الفلسطيني عن مصيبة أوسلو، من المسؤولين عن الكارثة، الذين أوصلوا المشروع الوطني الفلسطيني إلى أزمته القاتلة التي يمر بها الآن.
ثانيا – يجب الاعتراف بأن المفاوضات من أجل المفاوضات، قد انتهت وإلى الأبد، وأن الاحتماء بالمجتمع الدولي، لن يعيد وطنا ولن يوقف مستوطنة، ولن يفكك حاجزا ولن يخرج أسيرا ولن يهدم جدارا. المقاومة بمعناها الشامل المستندة إلى موقف وطني موحد يجمع الشعب الفلسطيني خلفه سيكون البداية الصحيحة للخروج الحقيقي من الأزمة القاتلة.
ثالثا- العمل الجماعي من أطياف الشعب الفلسطيني كافة، على إعادة بناء وتفعيل منظمة التحرير الفلسطينية حقيقة لا قولا. وهذا يعني عقد مؤتمر وطني شامل للفعاليات الفلسطينية وانتخاب لجنة قيادية مؤقتة مهمتها إعادة الاعتبار لمؤسسات المنظمة والعمل على عقد مجلس وطني فلسطيني يمثل الشعب الفلسطيني في كل مكان، ينتخب قيادة شرعية تحظى بدعم الشعب الفلسطيني، وتفويض واضح للعمل على برنامج وطني يرضى به الشعب. من هنا فإننا ندعم الدعوة المعممة لعقد مثل هذا المؤتمر، وقد وقع عليها 1200 شخصية فلسطينية وطنية مستقلة يمثلون 45 دولة.
رابعا- التمسك بخيار المقاومة بمفهومها الشامل، الذي يضم القوى الشعبية والاتحادات والنقابات والفصائل، بحيث تعمل كلها في مواجهة الكيان على كل الصعد الأمنية والسياسية والإعلامية والدبلوماسية والقانونية والشعبية والفنية وغيرها. يجب أن تستمر جهود عزل هذا الكيان المجرم وتعريته ومحاصرته وفضح جرائمه حتى لا يبقى له بين الشعوب مكان.
لقد جسدت الوحدة الميدانية في غزة فكرة بسيطة وهي، أن المواجهة توحد والمفاوضات العبثية تفرق. الميدان يجمع وغرف المفاوضات تفرق. المواجهة تخرج أجمل ما في الإنسان من شجاعة وصبر وتحمل واستعداد عال للتضحية وصمود، أما التراخي والاتكاء على المفاوضات العبثية فتخرج أسوأ ما عند الناس من تنافس ورشوة وتزلف وبحث عن مكاسب مادية واستعداد عال للفساد والتفريط في الحقوق، والتكيف مع شروط القوي وتقديم التنازل تلو التنازل. ولهذا فطريق المقاومة هو الذي يشير بسهم واسع وعريض إلى فلسطين وليست المفاوضات العبثية التي جربناها لأكثر من ثلاثين سنة.