ما الذي تخشاه إسرائيل من فلسطين؟ ما الذي تخشاه ولديها ترسانة نووية وإن لم تعترف بذلك علناً، ودعم غربي راسخ؟ ما الذي تخشاه دولة لديها هذه القدرات من شعب بلا دولة، ملايين منه مشتتون في العالم لا يملكون حق العودة، وبعضهم في إسرائيل نفسها مواطنون من درجة أدنى، وبعضهم باتوا ضحايا حرب مستعرة منذ أشهر؟ ما الذي تخافه منهم وهم بلا دولة، وبلا اقتصاد؟
قد يرى البعض أن الإجابة هي: لا شيء. لا يوجد ما تخشاه إسرائيل من الفلسطينيين أو فلسطين… ولعل للسؤال إجابة أخرى نجدها في كتاب صدر حديثاً للكاتب الفلسطيني رجا شحادة عن دار “بروفيل” بعنوان “ما الذي تخشاه إسرائيل من فلسطين؟”.
كابوس المستوطنين
ترسم كلير أرميتستيد في مقالة لها عن الكتاب والكاتب – نشرت في صحيفة “الغارديان” في الثامن من يونيو (حزيران) الماضي – صورة لرجا شحادة، الفلسطيني البالغ من العمر 72 سنة في بيته المليء بالكتب في رام الله، ومضت عليه ستة أشهر دون أن يتحرك إلى أبعد من 16 كيلومتراً من منزله، وذلك “أشبه بنوع كريه من الاعتقال المنزلي بالنسبة لمحامٍ حقوقي تحول إلى الكتابة ووجد في المشي والتجوال مصدر إلهام لأعماله، ووسيلة يظهر بها علاقة الفلسطينيين العميقة بأرض أسلافهم وحقهم فيها”.
يقول شحادة لأرميتستيد مبرراً حبسه الطوعي هذا إن التنقل خطر “لأن المستوطنين منتشرون في كل مكان، وهذا كابوس. والإسرائيليون لا يميزون، ولا يعنيهم في شيء أكنت مشهوراً أم غير مشهور. لقي الناس مصرعهم في أماكن كثيرة ولم يحدث شيء قط”.
ولكن، عما قريب، كما تكتب أرميتستيد، تنتهي عزلة شحادة، إذ يسافر إلى بريطانيا لبدء جولة ترويج كتابه “الذي يبقى حتى لكاتب تخصص في الكتب الوجيزة النحيلة كتاباً شديد القصر لا تتجاوز صفحاته 128. وهو ينقسم إلى جزأين، أولهما مبني على محاضرة ألقاها الكاتب في مؤتمر للسلام عقد في كيوتو سنة 2016، ويوضح فيه التاريخ الذي تردى بالمنطقة إلى وضعها الراهن، بينما يركز الجزء الثاني على الأعمال الانتقامية الوحشية التي تسببت فيها هجمة (حماس) في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023”.
في استعراضه للكتاب بـ”الغارديان” في الـ24 من مايو (أيار) الماضي يكتب توم سبيرلنغر أن النصف الأول من كتاب شحادة يتساءل ببساطة، “كيف وصلنا إلى ما وصلنا إليه الآن؟”، وفيه يتأمل الكاتب الأحداث الأساسية التي وقعت منذ عام 1948، بينما يحلل القسم الثاني أحداث الأشهر الأخيرة.
يستهل سبيرلنغر استعراضه للكتاب بحكي واقعة جرت في الـ24 من مايو 2016 حينما وصل الرقيب الإسرائيلي إيلور عزريا (18 سنة)، وهو جندي في القوات الطبية بالجيش الإسرائيلي إلى موقع حادثة في مدينة الخليل بالضفة الغربية. كان المواطن الفلسطيني عبدالفتاح الشريف (22 سنة) طريح الأرض مصاباً بالرصاص إثر محاولة مزعومة لطعن جندي إسرائيلي. ولما وصل عزريا إلى موقع الحادثة لم يسارع إلى إسعاف الشريف، بل أطلق عليه رصاصة في رأسه أجهزت عليه.
قرر الجيش الإسرائيلي التحقيق مع الرقيب القاتل، فوجه القرار بغضب وطني، واحتفى اليمين الإسرائيلي بعزريا بوصفه “ابننا وبطلنا”، وذكر شحادة أن “60 في المئة من الشباب في إسرائيل أعربوا عن اعتقادهم أن ما فعله عزريا هو الصواب”. وذكر أيضاً أن “رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو اتصل بعائلة عزريا معرباً عن دعمه”.
“يرصد شحادة في كتابه العوامل المؤثرة في المجتمع الإسرائيلي حتى يحتفي بمثل فعل عزريا ويتقبل تدمير غزة، فهذه العوامل هي، إخفاقات اتفاقات أوسلو، وتوحش احتلال الأراضي الفلسطينية، الدائم بكل المقاييس، وزيادته للانشقاقات في المجتمع الإسرائيلي التي لا يمكن أن يداويها إلا وجود العدو الفلسطيني المشترك، وازدياد هيمنة عناصر اليمين المتطرف في إسرائيل”.
ويشير فوق ذلك كله إلى تفاقم العجز عن تمثل الآخرين ـ ففي حين أن 90 في المئة من العرب في إسرائيل يتحدثون العبرية، فإن أقل من 10 في المئة من الإسرائيليين اليهود هم الذين يتحدثون العربية، وهو ما يؤثر في نظر شحادة على الشباب من أمثال عزريا، “فأي تفسير على المستوى الإنساني لهذا التجريد التام من الإنسانية الذي يفضي بفلسطيني جريح لا يمثل أي خطر إلى أن يلقى مصرعه برصاصة يطلقها فرد في طاقم طبي؟”.
وعلى رغم أن حادثة من ذلك القبيل وأمثالاً عديدة لها كان ينبغي أن تهيئ شحادة للحرب الحالية، فإنه يعترف في كتابه بأن هذه الحرب صدمته. “أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت في البداية أنه (لن تكون هناك كهرباء أو غذاء أو وقود، وكل شيء سيغلق)”. كما تفاخر نتنياهو بأنه “سيحول غزة إلى أرض مهجورة”. ويكتب شحادة “لقد قدرت أن القادة السياسيين في العادة يتبجحون بمثل ذلك، لكن مع تقدم الحرب بات بوسعي أن أرى أنهما كانا يعنيان كل كلمة وأنهما لا يكترثان بالمدنيين ومنهم الأطفال، وأن جميع أهل غزة في نظرهما، وفي نظر معظم الإسرائيليين، مذنبون”.
إسرائيل بأعين فلسطينية
يكتب توم سبيرلنغر أن الكتاب يصور المجتمع الإسرائيلي من منظور فلسطيني. ويحكي أيضاً القصة الفلسطينية المليئة بالمفقودين، سواء بالموت أو بالنزوح، ويطرح شحادة هذه الإجابة اليائسة للسؤال المطروح في عنوان كتابه، “إن الكلفة البشرية والمادية الهائلة لحرب غزة تثبت أن ما تخشاه إسرائيل من فلسطين هو محض وجود فلسطين”. ويرثي للقصة الفلسطينية التي لم تسمع كاملة بعد، فيكتب عن تأسيس إسرائيل سنة 1948، قائلاً إنه “على رغم كل مساعينا في الكتابة عن الموقف، لم يبد أننا معشر الفلسطينيين قد أحدثنا أدنى انبعاج في صورة هذه الأحداث كما يراها الإسرائيليون، بل وكما تراها بقية العالم في واقع الأمر”. ويسيطر على الكتاب إحساس بأنه لا طائل من وراء الكتابة عن الوضع.
“غير أن شحادة يواصل تأمل السؤال الذي يطرحه في شأن إيلور عزريا، من ذا الذي يساعد هذا الجندي الشاب على استرداد إنسانيته؟”، ويطرح تحليله وبحثه رؤى عميقة للقراء حديثي العهد بالوضع وغيرهم ممن يرغبون في تجديد نظرتهم إليه.
يكتب أوليفر فاري مستعرضاً الكتاب في “ذي أيريش تايمز” في الثامن من يونيو الماضي، قائلاً إن “من الواضح تماماً أن شحادة لا يشعر أن شيئاً يذكر قد تغير على مدار العقد الأخير (أي منذ إلقائه محاضرة كيوتو التي يقوم عليه نصف كتابه الأول)، فلم تزل حججه الأصلية قائمة. وفي حين أن أهوال الحرب الجارية في غزة أثارت الاشمئزاز على المستوى العالمي، واجتذبت بلا شك أنصاراً جدداً كثيرين للقضية الفلسطينية، فإن الاحتلال لا يزال قائماً ويمثل بؤرة السخط الفلسطيني”.
“يأسى شحادة على فشل اتفاقات أوسلو للسلام ويعترف أن المعارضين الذين انشقوا عن الجانب الفلسطيني عام 1993 (عقب تلك الاتفاقات) كانوا محقين، وأن إسرائيل لم تكن لديها النية قط لتفكيك مستوطناتها، كما أن إسرائيل أسهمت في تأجيج الغضب الفلسطيني خلال محادثات تالية أقيمت عام 2000 ثم عام 2008 بتعتنها الشديد ثم بسماحها بمزيد من التهام الأرض في الضفة الغربية… وباتباعها نظام ’الأبارتايد‘ بشهادة الوضع القائم”.
ويمضي أوليفر فاري قائلاً إن هذا الوضع “لم يتنبأ به أحد أقل من إسحاق رابين نفسه، الذي قال عام 1976 إن المستوطنات الستين آنذاك تمثل (سرطاناً في النسيج الاجتماعي والديمقراطي لدولة إسرائيل). غير أن رابين، شأن كثير من القيادات الإسرائيلية، لم يفعل شيئاً يذكر لاحتواء المستوطنات إبان وجوده في السلطة”.
يعود أوليفر فاري ليقول إن كتاب شحادة القصير المشرب بالغضب لا ينحدر مطلقاً إلى المرارة، بل إنه “ينتهي بملاحظة فيها قدر من التفاؤل إذ يشير إلى أن مؤتمر السلام في مدريد جاء في أعقاب أيام الانتفاضة العصيبة الأولى، ويجد الأمل أيضاً في حقيقة أن بلاداً أوروبية معينة، وبخاصة إسبانيا وإيرلندا، تشرع في التحرك من أجل تمكين الحوار مرة أخرى بعد أكثر من عقد من معارضة بنيامين نتنياهو”.
نبرة تفاؤل
وينتبه توم سبيرلنغر أيضاً إلى نبرة التفاؤل هذه فيكتب أن “شحادة يقر بأن السلام يقتضي ضغطاً من الخارج، لكن هناك سوابق – بعضها في الشرق الأوسط – لاضطرابات هائلة تفضي إلى تغيير إيجابي، فعلى مدار هذه الحرب المدمرة ليست لدى إلا فكرة متفائلة واحدة. ماذا لو لم تنته هذه الحرب بوقف لإطلاق النار أو بهدنة، شأن حروب سابقة مع (حماس)، وإنما بحل شامل لصراع قائم منذ قرن من الزمن؟”.
والحق أن رجا شحادة قديم عهد بالتفاؤل، بل إن مسيرة عمره المهنية تبدو قائمة أساساً على حسن ظن بالعالم ومؤسساته، فكتب من قبل في ملحق “نيويورك تايمز” للكتب في أواخر عام 2021 يقول، “رجعت إلى رام الله عام 1987 بعد دراستي للقانون في لندن ممتلئاً بأفكار عن أهمية سيادة القانون وإمكانات استعمال القانون الدولي لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي. وفي العام التالي… قمت (مع آخرين) بتأسيس منظمة أطلقنا عليها اسم (الحق) تابعة للجنة الدولية للحقوقيين في جنيف فكانت من أوائل جماعات حقوق الإنسان في العالم العربي، والأولى والوحيدة في الأراضي الفلسطينية… وعلى مدى أكثر من أربعة عقود منذ تأسيسها عملت المنظمة على السعي من أجل تحقيق أهدافها التي تأسست من أجلها فوثقت وقاومت بالقانون انتهاكات حقوق الإنسان الإسرائيلية، ومنها سوء معاملة السجناء، والاستغلال الاقتصادي لموارد الأراضي المحتلة الطبيعية، وبناء المستوطنات غير المشروعة”.
ولا أحسب أننا بعد ما نراه خلال الأشهر الماضية فحسب في حاجة إلى أي حديث عما انتهت إليه جهود المنظمة، ومدى ما حققت من أهدافها، ومغبة إحسان الظن بمؤسسات العالم، كما لا أحسبنا في حاجة إلى التنبؤ بما سينتهي إليها تفاؤل شحادة الحالي القائم في يبدو على قاعدة أن “بعد العسر يسراً”، غير أن هذا لا يعني التشاؤم، ولكنه ربما يعني مزيداً من التفاؤل، أو التفاؤل في اتجاه جديد بأن يمضي الوضع الحالي بالقضية الفلسطينية في طريق لم تسلكه من قبل، ويفضي إلى نتائج لم تخطر لنا قبل السابع من أكتوبر 2023.
فقاعة
تصف كلير أرميتستيد في مقالتها عن الكتاب والكاتب حياة رجا شحادة في رام الله بالفقاعة، فتكتب أنه “أقام بيته هو وزوجته الأميركية… بعد توقيع اتفاقات أوسلو سنة 1995 التي منحت الفلسطينيين حكماً ذاتياً محدوداً في الضفة الغربية وقطاع غزة. وبوصفه محامياً قضى عقوداً في النضال من أجل الحق في الأرض بالنيابة عن المشردين، عارض شحادة الاتفاقات معارضة عميقة، إذ يقول (رأيت أن الوضع سيكون فوضوياً، فرأيت أنه خير لي أن أمتلك ملجأً ومكاناً يمكنني أن ألوذ به من الفوضى بالخارج، وهكذا بدأت البناء)”. ويضيف شحادة أن الحديقة “كانت منقذة حقيقية لي، لأنها مكان للحب، أجلس فيها وأقرأ وأعمل، فهي بحق التي أنقذتني”.
من هذه “الفقاعة” تابع شحادة الحرب في ذهول على شاشة التلفزيون، لكنه ابتهج أيضاً لمرأى تظاهرات الطلبة في أرجاء العالم، وبخاصة في الولايات المتحدة التي يرى أن سياستها الخارجية عقبة أساسية تعترض التوصل إلى حل. يقول “كان أمراً عظيماً أن نرى كل هذه المقاومة لحرب غزة والإبادة الجماعية، لكنني أفكر طوال الوقت في الانتفاضة الأولى، فحينها رأينا أيضاً دعماً وتضامناً كبيرين من العالم، ثم تبدد كل ذلك تماماً”.
“لكنه يتشبث في فكرة أن الأمر مختلف هذه المرة لأن الشباب الآن يفهمون القضية الفلسطينية، لا في ذاتها، ولكن بتجسيدها ما يجري لهم في بلادهم. ففي أميركا، وبريطانيا أيضاً، تعاملهم الشرطة بعنف. وهذا ما يجعل كثيرين ينتبهون إلى وضعهم”، لكنه سرعان ما يرتد إلى الحذر المحسوب من احتمالية النهاية السعيدة، مشيراً إلى أنه “مع كل هذا التضامن، وكل هذا الدعم الهادر، لم يتغير شيء. لا يزال الإسرائيليون مستمرين في قصف كل شيء، والمستوطنون يواصلون أعمالهم، والاختلاف الوحيد هو أن ذلك يجري الآن بدعم من الجيش”.
“غير أن ذلك كله لا يمنعه من القيام بواجبه، فهو يرسل كتبه النحيلة الحادة إلى العالم. ففي مطلع هذه الألفية كتب سيرة عن حصار 2002 لرام الله بعنوان (حينما كف البلبل عن الغناء)… وهو سعيد إذ ينهي إلينا أن البلبل، في حديقة بيته في الأقل، لم يزل حياً وبخير و’يستيقظ كل صباح‘”.