يكمن التحدي في إيجاد خط مشترك يفسر المواقف الوطنية المختلفة بشأن القضايا الإقليمية فيما يستمر في تعزيز سياسة خارجية متماسكة.
أحيلت أوروبا إلى المرتبة الثانية في الشرق الأوسط، وهي المنطقة التي كانت تهيمن عليها ذات يوم قوى ما بعد الحرب العالمية الأولى، وقد كافحت لسنوات لتصميم دور جديد لذاتها. فالشرق الأوسط يشهد منافسة شرسة، تتخللها في الكثير من الأحيان حالات متزايدة من الاحتكاك العلني، بين الولايات المتحدة وروسيا (كلتاهما تعتمدان على وجودهما العسكري في بلدان مختلفة)، فضلًا عن الصراع بين الولايات المتحدة والصين في المجالات التكنولوجية والاقتصادية. إن القضية الرئيسية بالنسبة للاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة هي كيف وإلى أي مدى ينبغي بهما أن تساعدا في تشكيل السياسة الأمريكية، والمشاركة في جهد منسق لمنع انزلاق الدول العربية إلى دائرة متسعة باستمرار من الأعمال العدائية، وتجنب الخطر الشديد للغاية المتمثل بالانزلاق إلى الفقر والإفلاس والهروب الجماعي نحو الشواطئ الشمالية للبحر الأبيض المتوسط.
محاولات عقيمة
لقد أثبتت المحاولات التي بذلتها العديد من الحكومات الأوروبية لإيجاد حلول مستقلة للأزمات في المنطقة عدم جدواها. فقد اتبعت فرنسا وإيطاليا سياسات متناقضة في ليبيا وفشلتا معًا في إعادة توحيد الدولة المنقسمة في ظل حكومة فعالة. وأثبت إصرار فرنسا المثير للشفقة حقًا على الوساطة في لبنان عدم أهميتها في البلاد. لم يؤدِ التزام الاتحاد الأوروبي، واستثماره المالي في رؤية حل الدولتين للمستنقع الإسرائيلي الفلسطيني إلى وقف التدهور المستمر على تلك الجبهة. وينسحب الأمر ذاته على الدبلوماسية الأوروبية في سوريا منذ اندلاع الحرب الأهلية المدمرة في عام 2011.
باختصار، تدرك أوروبا جيدًا حدودها. لا يعني ذلك بأي حال من الأحوال أنه ليس لدى القارة مصالح حاسمة في المنطقة أو أنه ما من مساهمات كبيرة يمكنها تقديمها للتخفيف من المخاطر وتوجيه المنطقة نحو مستقبل أكثر سلامًا وعلى أمل أن يكون أكثر ازدهارًا. في ما يلي بعض مسارات العمل الممكنة.
إيران
لم تحاول أي دولة أخرى منذ أكثر من 30 عامًا الحصول على أسلحة نووية من دون صنع قنبلة نووية. ومن المؤكد أن الجمهورية الإسلامية تمتلك المواد والدراية اللازمة للحصول على ترسانة أسلحة، لكنها اختارت المضي قدمًا نحو التحول إلى قوة نووية من دون تجاوز الخط الأحمر.
يتمثل أحد الأسباب الكامنة وراء هذا السلوك في الخوف من أن يسارع الآخرون، مثل المملكة العربية السعودية ومصر وتركيا وحتى الإمارات العربية المتحدة، للحصول على قنابلهم الخاصة. والسبب الثاني هو التهديد بفرض نظام عقوبات دولية أكثر شمولًا بكثير. لذلك، يجب على مجموعة الثلاث الكبار (ترتيب التعاون الخارجي والأمني غير الرسمي بين المملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا) أن تمارس الضغط على واشنطن لكي تطرح، بصوت عالٍ وواضح، خيار “إعادة فرض العقوبات”، بالإضافة إلى تدابير إضافية من أجل دعم الجهات في طهران التي تحذر من جهود الحرس الثوري الإيراني الرامية إلى إنتاج قنبلة.
“محور المقاومة”
من خلال “فيلق القدس” التابع للحرس الثوري الإيراني، تنفذ إيران “عقيدة المقاومة”، التي تصورها الجنرال الراحل قاسم سليماني، للسيطرة على بلاد الشام عبر الميليشيات الوكيلة في لبنان وسوريا والعراق واليمن، لكي تصبح القوة المهيمنة بحكم الأمر الواقع على الشرق العربي وتطوق إسرائيل بـ “حلقة نار”. وهي تهدد بمهاجمة دولة عضو في الاتحاد الأوروبي، وهي قبرص، وقد أعلنت بصراحة عن عزمها بأن تصبح قادرة على القيام بعمل عسكري على مسافة 10 آلاف كيلومتر، والتي تشمل قسمًا كبيرًا من أوروبا. ويتطلب تعطيل هذه الاستراتيجية تحركات أمريكية أوروبية مشتركة لمنع تحول العراق وإقليم كردستان إلى دمى تتحكم بها إيران.
ينبغي أن يكون دعم القوى السياسية في بغداد التي لا تزال تعارض طموح إيران في السيطرة على جارتها هدفًا أساسيًا. بالتعاون مع دول الخليج، قد تؤدي الحوافز الاقتصادية إلى عرقلة استيلاء عملاء إيران في “قوات الحشد الشعبي” على البلاد، علمًا أن هذه الأخيرة هي ميليشيا تدعمها إيران تم تشكيلها لمحاربة تنظيم “الدولة الإسلامية” وتدعمها الآن الحكومة العراقية الضعيفة. وحتى الشخصيات المنشقة مثل مقتدى الصدر، رجل الدين العراقي المتطرف، والزعيم الميليشيوي، والسياسي الشيعي الذي قاتلت قواته القوات الأمريكية والعراقية من عام 2004 إلى عام 2008، يمكن اعتبارهم شركاء محتملين.
وإذا تم إبقاء العراق خارج السيطرة الإيرانية الكاملة، سيعيق ذلك حملة طهران لإنشاء ممرات برية متجهة غربًا من حدودها إلى البحر. وقد يدرس الاتحاد الأوروبي أيضًا إيجابيات وسلبيات إرسال وحدات صغيرة من القوات بهدف ثني من سيفوز بالرئاسة الأمريكية في تشرين الثاني/نوفمبر عن الانسحاب من العراق.
سوريا
لإيران علاقات معقدة مع روسيا في سوريا. على سبيل المثال، منع الرئيس بوتين المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي من توريط نظام الأسد في المواجهة الحالية مع إسرائيل، على الرغم من تحالفهما الوثيق في أوكرانيا.
يمكن بذل المزيد من الجهود للحد من نفوذ إيران في سوريا. فكما هو الحال في العراق، يمكن لأوروبا إرسال وحدات صغيرة إلى شمال شرق سوريا وإلى قاعدة التنف الجنوبية الشرقية (قاعدة عسكرية في سوريا تستخدمها الولايات المتحدة) لدعم قضية أولئك في واشنطن الذين يحذرون من السماح للأسد بالسيطرة على المناطق الخصبة الغنية بالنفط عبر نهر الفرات، والتي يسيطر عليها الأكراد الآن. كما تعمل هاتان المنطقتان أيضًا كحواجز مهمة أمام شحنات الأسلحة الإيرانية إلى “حزب الله” و(عن طريق التهريب) إلى الضفة الغربية. ومن شأن إخلاء التنف أن يشكل تهديدات متزايدة لاستقرار الأردن، كما أن الإتجار الهائل بالمخدرات المنتجة في لبنان وسوريا سيصل إلى أبعاد أكبر، ما يؤدي إلى إغراق شبه الجزيرة العربية وخارجها بهذه المخدرات. ويتمثل خيار آخر محتمل لأوروبا في دعم فتح ممر إنساني بطول ثلاثة كيلومترات من الأردن إلى أقرب قرية درزية، بالتعاون مع الولايات المتحدة، من أجل دعم الثورة غير المسلحة في محافظة السويداء ضد الأسد ورعاته الإيرانيين.
لبنان
لسوء الحظ، لا يمكن للبنان استعادة دوره كدولة فاعلة أو تحرير نفسه من قبضة “حزب الله” في المستقبل المنظور. لكن مرة أخرى، يمكن لأوروبا أن تتعاون مع الولايات المتحدة لإيجاد طرق لتعزيز الأحزاب السياسية المناهضة لإيران، بما في ذلك منافسي الشيخ حسن نصر الله داخل الطائفة الشيعية، الذين يتشاركون هدف منع انتخاب رئيس موالٍ لإيران وتعيين حكومة موالية لإيران.
يتعين على أوروبا أيضًا أن تفكر في المشاركة في قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (اليونيفيل) التي تتم ترقيتها بعد الحرب، وأن تضع شروطًا لتوفير المعدات للجيش اللبناني من أجل إبقاء أكبر قدر ممكن منها بعيدًا عن أيدي “حزب الله”. وعندما يحين الوقت، قد تفكر أوروبا ربما في تقديم خدماتها لترسيم الحدود نهائيًا مع إسرائيل. ويتمثل أحد المشاريع الكبيرة التي فشلت حتى الآن في الانطلاق بضخ الغاز “المصري” (في الواقع الإسرائيلي) من الأردن إلى لبنان، الذي يعاني من نقص حاد في الكهرباء.
السلطة الفلسطينية
يجب أن يكون لأوروبا، باعتبارها جهة مانحة رئيسية للسلطة الفلسطينية ووكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا)، مصلحة قوية في إرغام الرئيس محمود عباس على إدخال إصلاحات جادة، ما يمكن أن يساعد على اجتثاث ثقافة الفساد والهدر وتشكيل حكومة جديدة “قادرة على العمل” ومستعدة لإنشاء خدمات اجتماعية لائقة، والاستثمار في تطوير اقتصاد منتج، وإعادة تنظيم الأجهزة الأمنية.
إن خطط الإصلاحات مطروحة على الطاولة، لكن عباس البالغ من العمر 87 عامًا يقاوم الضغوط الأمريكية والخليجية للتخلي على الأقل عن بعض مسؤولياته ونقل صلاحياته إلى خبراء مؤهلين ومستقلين سياسيًا. فالركود المستمر الذي تعيشه السلطة الفلسطينية وتراجع شعبيتها يعرضان فرص بقائها للخطر.
ضاعفت “حماس”، المدعومة من إيران، جهودها لتقويض شرعية السلطة الفلسطينية والاستعداد للاستيلاء على الضفة الغربية. وقد أصبح الإصلاح الشامل للسلطة الفلسطينية مهمة ملحة، لا سيما إذا ما تم تكليفها بإدارة قطاع غزة. ويبدو أنه في هذه المرحلة، لا يمكن إلا لإنذار نهائي إحداث تغيير: يتعين على الاتحاد الأوروبي، إلى جانب النرويج واليابان ودول أخرى، تحذير عباس من أن الدول المانحة سوف توقف تحويل الأموال إلى أن يتم تنفيذ الإصلاح. وقد يكون ذلك السبيل الوحيد لإقناعه.
إسرائيل
بالتوازي مع الضغط على السلطة الفلسطينية، ومن دون الخوض في الانقسامات المعقدة في أوروبا في ما يتعلق بإسرائيل، من الواضح أنه يتعين على الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة الضغط على حكومة بنيامين نتنياهو (طالما أنها متمسكة بالسلطة) لاتخاذ الخطوات التالية:
إنهاء الحرب الحالية في غزة، حتى لو استمرت في السعي لتحقيق هدف تحويل “حماس” من جيش إرهابي يملك عددًا كبيرًا من الأنفاق ومستودعات كبيرة من الصواريخ إلى قوة غير مسلحة تحت الأرض.
إعلان خضوع غزة للسلطة الفلسطينية عند بدء الإصلاح.
إعلان تمسكها برؤية الدولتين.
تعليق المزيد من أعمال البناء في المستوطنات.
إصدار تعليمات للشرطة بالمضي قدمًا في الإجراءات القانونية ضد العشرات من المستوطنين اليمينيين المتطرفين الشباب الذين يضايقون الفلسطينيين المجاورين.
رفع الحظر المفروض على قدوم العمال الفلسطينيين إلى إسرائيل من أجل تحسين الوضع الاقتصادي الصعب في الضفة الغربية.
من شأن هذه الخطوات أن تساعد في نزع فتيل التوترات وتتيح التعاون بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية في إعادة إعمار غزة.
مصر
“عملاق النيل” على وشك الانهيار، بحيث أنقذه حتى الآن ضخ الأموال من دول خليجية بقيادة الإمارات العربية المتحدة. ومن شأن انهيار دولة يبلغ عدد سكانها 100 مليون نسمة أن يحمل تداعيات هائلة على أوروبا. يجب أن تتمثل المهمة المباشرة بالضغط على الرئيس السيسي لتخصيص الشركات المملوكة للدولة والعديد من الشركات التي تديرها القوات المسلحة. فالاقتصاد الحر ضروري لانتشال مصر من البؤس. وبدلًا من الاستجابة برحابة صدر لشهية مصر اللامتناهية لشراء معدات عسكرية باهظة الثمن، سيستفيد الأوروبيون في نهاية المطاف بشكل أكبر من تحقيق الأرباح من الاستثمارات الاقتصادية في البلاد.
إن إنقاذ مصر من ذاتها أساسي حتى تتمكن من التعامل مع شبح البطالة الذي سيتربص بها في المستقبل، والذي سيطال 300 مليون شاب في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بأكملها بعد عقدين من الزمن. وهذا مصدر قلق أوروبي لن يتلاشى إذا لم تتم معالجته بشكل صحيح. فالشرق الأوسط يشكل قنبلة موقوتة تهدد بالانفجار باتجاه أوروبا.