يُعتبر جسم ما، أو منظومة (System) معيّنة، مستقرّاً، فقط عندما يكون مجموع القوى التي تُمارس عليه مساوياً للصفر. هكذا هي قوّة الأشياء وتأثير الجاذبية. هكذا هي قدريّة تفاعل الأشياء مع بعضها البعض، ونحن كبشر، نُعتبر الجزء الأهمّ في هذا التفاعل. لذلك عندما يختلّ التوازن في منظومة ما، تسعى المكوّنات الأساسيّة لهذه المنظومة إلى التعويض في مكان ما. والهدف دائماً هو إعادة التوازن والاستقرار. لكن ليس بالضرورة أن تعود المنظومة إلى سابق عهدها. فعند كلّ خلل في التوازن، والسعي في المقابل للتعويض، تُنتج هذه العملية منظومة جديدة، لكن أكثر استقراراً. لكن الاستقرار المُستدام ليس من صفة هذه المنظومات، خاصة عندما يتعلّق الأمر بالدور البشريّ. فحيثما وجد الإنسان، كانت الديناميكيّة والتغيير. وعليه قد يمكن القول إن التغيير هو الثابت الوحيد في التطوّر البشريّ.
التحالفات
تعتبر التحالفات منظومة هرميّة مكوّنة من لاعبين أساسيّين وثانويّين في العلاقات الدوليّة. فهي وبمجرّد تشكّلها، تؤّثر مباشرة في تركيبة النظام العالميّ، فتُحدث خللاً في التوازن، الأمر الذي يؤدّي إلى ردّ فعل من المكوّنات الأخرى للتركيبة العالميّة. والهدف دائماً هو التعويض عن الخلل الذي حدث. تُعتبر التحالفات من ضمن منظومة الردع (Deterrence). هكذا هي حال اليابان مع الولايات المتحدة مقابل الاستراتيجيّة الصينيّة الكبرى في شرق آسيا. هكذا هي حال الدول الصغيرة في أوروبا الشرقيّة. فهي انضمّت لحلف الناتو، فقط كي تردع روسيا عن السعي لاستعادة مناطق نفوذها في محيطها المباشر. في كلّ تحالف كبير، هناك مركز ثقل ومحور أساسيّ تدور حوله كل العناصر المكوّنة لهذا التحالف. ويعود هذا السبب إلى قدرات المركز في الجذب المركزيّ (Centripetal). تتجسّد هذه القدرات أكثر ما تتجسّد في البُعدين العسكريّ والاقتصاديّ للقوّة المركزيّة في أيّ تحالف.
تؤثّر التحالفات مباشرة في الاستراتيجيات الكبرى للدول المكوّنة لها. فاستناداً إلى تركيبة التحالف، الأهداف كما القدرات، ترسم الدول الأعضاء استراتيجياتها، وبشكل تكاملي مع المنظمة ككلّ. في التحالف لا حريّة مُطلقة للدول الأعضاء. فهو يؤمّن الردع، مع تقييدات مهمة في الاستراتيجيّات الكبرى.
يُعتبر النصر على أنه العدو الأوّل للتحالفات. فبعد النصر، يسقط عادة التحالف، أو يتغيّر بشكل جذري. لكن الخطر المُحدق، يعتبر على أنه الصمغ، واللحام (Glue) الذي يربط التحالف ضمن شبكة عنكبوتيّة.
هكذا كانت حال حلف شمال الأطلسي «الناتو»، كما حلف وارسو. تغيّر الناتو، فقط لأن حلف وارسو قد انحلّ، ولم يعد يشكّل الاتحاد السوفياتيّ خطراً وجودياً على الدول المكوّنة لحلف الناتو. ألم يقل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إن حلف الناتو هو حالة الموت السريريّ؟ لكن الناتو عاد، وبحلّة جديدة بعد عودة الخطر الروسيّ والحرب على أوكرانيا.
كلّما كان التحالف كبيراً، وكلّما ضم بعض الدول ذات الثقل الكبير؛ كان تأثيره على النظام العالميّ أكبر. خرج الزعيم الصيني ماو تسي تونغ من التحالف الشيوعي الكبير مع الاتحاد السوفياتيّ، وذلك بعد زيارة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون إلى بكين. وبسبب هذا الخروج، قال بعض المفكّرين إن العالم انتقل من الثنائيّة إلى عالم ثلاثيّ الأقطاب.
ملامح التحالفات في عالم اليوم
تكفي مراقبة حركيّة رؤساء الدول الكبرى، والدول التي يزورونها، وموقع هذه الدول الجيوسياسيّ، والدور الممكن أن تلعبه هذه الدول، لمعرفة أين سيكون مركز ثقل النظام العالميّ في القرن الحادي والعشرين. وإذا كانت الثورة الصناعية في أوروبا قد جعلت مركز ثقل العالم لمدّة 500 سنة في العالم الغربيّ. فإن الثورة التكنولوجية سوف تنقل مركز الثقل هذا إلى السهل الأوراسيّ، كما إلى منطقة الأندو – باسيفيك. فما هي المؤشرات على ذلك؟
زار الرئيس بوتين كلا من كوريا الشمالية وفيتنام، وهما دولتان تعتبران ضمن منطقة النفوذ الصينيّ. ففي العام 1979، خاضت الصين حرباً محدودة ضد فيتنام تأديباً لها لمشاركتها الاتحاد السوفياتي آنذاك في السعيّ لتطويق واحتواء الصين. كما أن فيتنام على خلاف مباشر مع الصين بسبب ترسيم الحدود البحريّة في بحر جنوب الصين. وبهذه الزيارات، وحسب بعض الخبراء، يهدف الرئيس بوتين إلى إظهار روسيا على أنها قوّة عظمى، وليست قوّة كبرى مُلحقة بالصين.
في المقابل، زار الرئيس الصيني كازاخستان، وهي منطقة النفوذ الروسي التقليديّة والتاريخيّة. ففي آسيا الوسطى يمر مشروع الرئيس الصيني الحزام والطريق. وعبر كازاخستان سيمر المشروع المشترك مع الصين – الممرّ الأوسط – والذي يتجاوز روسيا. حتى أن هناك الكثير من الأصوات التي بدأت ترتفع في الصين مُطالبة باسترجاع الكثير من الأراضي الصينية التي ضمّها بالقوّة الاتحاد السوفياتي، الأمر الذي حرمها من إطلالة مباشرة على بحر اليابان.
زار رئيس الوزراء الهندي روسيا مؤخّرا، الأمر الذي يكمّل المثلث الجيوسياسيّ الأهم في العالم ألا وهو: الصين، روسيا، الهند. وهو قلق، أي الرئيس الهندي، من التقارب الروسي – الصيني. فمع الصين وروسيا هناك السهل الأوراسيّ. ومع الهند وروسيا هناك صلة الوصل بين السهل الأوراسيّ ومنطقة الأندو – باسيفيك. فهل يشهد العالم حالياً مرحلة ربط منطقة الهارتلاند (Heartland) حسب ما بشّر به المفكّر الإنجليزيّ هالفورد ماكندر، بمنطقة الريملاند (Rimland) حسب المفكّر الأميركي نيكولا سبايكمان؟ أم أن الشيطان يكمن في التفاصيل؟
وأخيراً وليس آخراً، عقدت في واشنطن قمّة حلف الناتو الـ75. وفيها أتى الحلف على ذكر الصين كخطر محتمل. كما حدّد الحلف استراتيجيته للحرب الروسية على أوكرانيا.
في الختام، يقول الخبراء إنه لا شيء ثابتاً في السياسة، وإن المصالح دائماً تتقدّم على الصداقات، وإن ما يجمع تلك الدول العظمى، خاصة الصين وروسيا، هو العداء المشترك للولايات المتحدة الأميركيّة. لكن ما يُفرّقهم هو القدرية الجغرافيّة. فالجغرافيا تربطهم حكماً، لكن الخلاف على أن من يسيطر عليها كان قد أدّى في بعض الأحيان إلى الاستعداد حتى إلى استعمال السلاح النوويّ من قبل روسيا.