تعيش منطقتنا منذ سقوط نظام صدام حسين في العراق، ومن بعد موت حافظ الأسد، واغتيال رفيق الحريري في لبنان؛ حالة عدم استقرار كبرى نتيجة البون الشاسع المطلوب والواقع الذي كان. ففي الوقت الذي كانت فيه شعوب هذه البلدان تتطلع نحو التغيير الديمقراطي والحرية، حرصت القوى المستفيدة من استمرارية الأوضاع القديمة، وتلك التي أرادت الاستفادة من ثغرات الانفلات الأمني، أو تلك التي استقوت بالقوى الخارجية لتتحول مع الوقت إلى قوة مهيمنة، حرصت هذه القوى على التحكم بالدولة والمجتمع، وأعلنت بصورة لا لبس فيها عن ارتباطها العضوي بالنظام الإيراني تحت شعارات «المقاومة والممانعة» و«تحرير القدس» ومواجهة «قوى الاستكبار العالمي».
وجاءت الثورة السورية، وحملات الاحتجاج الشعبي في لبنان والعراق، لتؤكد التذمر الشعبي مما كان، وما زال، يحصل، والرفض العارم له.
ومع تغلغل الحرس الثوري الإيراني في ثنايا ومفاصل الدول المعنية، (سوريا، لبنان، العراق) وتمكّنه من التحكّم فيها؛ بل تحوّل هذه الأخيرة إلى كيانات هشة، عاجزة عن حماية نفسها، تفتقر إلى أسباب القوة والسيادة، حتى باتت المنطقة تعيش حالة فراغ، الأمر الذي أعطى المجال أمام القوى الإقليمية المتربّصة للتدخل، والسعي من أجل ترتيب الأوضاع وهندستها وفق المقاسات التي تتناسب مع مشاريعها الإقليمية، خاصة في أجواء عدم وجود مشروع عربي، كان من شأنه، في حال وجوده، الإسهام ضمن حدود الإمكان في التخفيف من حدة الانهيارات والتداعيات التي أصابت دول المنطقة على المستويات كافة: السياسية والاجتماعية والعمرانية والاقتصادية والتعليمية والصحية وغيرها.
ومن بين أهم القوى الإقليمية والدولية التي تحركت بموجب مشاريعها الخاصة بها، يُشار هنا إلى كل من إسرائيل وإيران وروسيا وأمريكا. واللافت هنا هو حدوث نوع من التناغم في مرحلة من المراحل بين هذه الدول، خاصة في آواخر عام 2014 وبدايات 2015، وذلك بعد بروز مؤشرات قوية توحي بإمكانية سقوط سلطة بشار الأسد؛ وهو الأمر الذي لم يكن يتوافق مع حسابات القوى الإقليمية؛ ولا مع حسابات القوى الدولية المشار إليها.
ونحن هنا لسنا في وارد تناول التفصيلات التي كانت وأسفرت لاحقاً عن تشكل مناطق النفوذ الخاصة بكل القوى الإقليمية والدولية المنخرطة في الملف السوري؛ لأن ذلك يأخذ الكثير من الوقت والجهد. وإنما سنحاول ضمن حدود الإمكان تسليط الضوء على التحولات الأخيرة في الموقف التركي الذي كان يبدو منسجماً مع الموقفين الروسي والإيراني ضمن مسار أستانا، وهو المسار الذي مكّن سلطة بشار الأسد من استعادة مناطق واسعة في جنوب ووسط وشمال سوريا، ورسم الحدود بين مناطق النفوذ، وحدد قواعد التعامل والاشتباك بين القوى المهيمنة على كل منطقة من تلك المناطق.
ولكن مع كل الانسجام الظاهر بين الموقفين الإيراني والتركي في الملف السوري، لم يكن خافياً وجود حالة تنافسية بين الطرفين، سواء في الملف العراقي أم السوري، وحتى في آذربيجان وغيرها من دول آسيا الوسطى. ولكن ما يهمنا هنا هو ما جرى، ويجري، في كل من سوريا والعراق بصورة أساسية.
فالتحولات الأخيرة في الموقف التركي تجاه الوضع السوري، والتصريحات العلنية للرئيس التركي رجب طيب اردوغان المطالبة بعقد لقاء قمة مع بشار الأسد؛ هذا إلى جانب اللقاءات والاتصالات التي كانت مستمرة بين المسؤولين العسكريين والأمنيين، وحتى السياسيين من الجانبين، قد فُسرت من قبل بعض المحللين، بأنها كانت بناء على حاجات تركيا الداخلية. وهو الأمر الذي لا يجانب الصواب، ولكنه لا يغطي اللوحة بأكملها، أو لا يقــــدم تفســيراً مقنعاً كافياً للانعطافة الأخيرة الكبيرة في الموقف التركي من السلطة الأسدية.
فإلى جانب الأوضاع والحساسيات والحسابات الداخلية التركية، ومنها موضوع اللاجئين السوريين، والحملات العنصرية عليهم؛ وتحت وطأة الأزمة الاقتصادية العميقة التي تعاني منها تركيا راهناً؛ هذا فضلاً عن الخسائر المبينة التي مُني بها حزب العدالة والتنمية في الانتخابات المحلية الأخيرة. وعلاوة على ما تقدم كان لبقاء القضية الكردية في تركيا من دون حل وطني عادل يطمئن الجميع، ويكون في صالح الجميع دوره السلبي المؤثر في حيوية الموقف التركي؛ فالحل العادل المطلوب للقضية المذكورة سيكون عامل استقرار لتركيا ولكل من سوريا والعراق. الأمر الذي سيقطع الطريق أمام الجهود الإيرانية والدولية الأخرى التي تحاول استغلال هذه القضية لصالح مشاريعها، وليس لصالح شعوب المنطقة، وفي المقدمة منها الشعوب العربية والتركية والكردية.
إلى جانب هذه العوامل الداخلية الخاصة بتركيا؛ هناك حسابات إقليمية لها علاقة مباشرة بالرؤية الجيوسياسية لمستقبل المنطقة، وتوزع مناطق النفوذ الحيوي بين دولها الأساسية. وتركيا في جميع الأحوال ليست بعيدة عن مثل هذه الاهتمامات والحسابات على المستويين الإقليمي والدولي، خاصة في أجواء الحرب الإسرائيلية على غزة، والروسية على أوكرانيا، والحرب الباردة في مناطق عدة من العالم، لا سيما في جنوب شرق آسيا.
أما بالنسبة إلى المشروع الإيراني فهو يتخذ من المنطقة الواقعة بين المناطق الغربية في إيران وشواطئ البحر الأبيض المتوسط ميداناً حيوياً له، وهو مشروع يتسع ليشمل أجزاء واسعة من اليمن، ومنطقة باب المندب، وكل ذلك يمثل عامل تهديد مستقبلي لكل من تركيا والسعودية ومعها دول الخليج. وليس سراً في هذا المنحى أن الخطر الأكبر سيكون مع اكتمال المشروع النووي الإيراني، والتطوير المستقبلي في سلاح الصواريخ؛ بالإضافة إلى الاستمرار في استراتيجية توظيف التوجهات المذهبية في خدمة المشاريع السياسية، وذلك عبر أسلوب التجييش المذهبي التعبوي الذي ما زال معتمداً في كل من العرق ولبنان، وإلى حد ما في سوريا واليمن.
ولكن المتغيرات الإقليمية والدولية المستجدة، والاحتمالات المستقبلية، أسهمت في عملية إعادة النظر في التحالفات والاصطفافات. فقد أدت حرب غزة إلى عرقلة وضعية الإنسجام، ولو مرحلياً، بين كل من إسرائيل وإيران؛ وذلك بعد أن تجاوز العامل الإيراني في سوريا حد وظيفة ضبط الأوضاع بما يتواءم مع الرغبات والمسلمات والحسابات الإسرائيلية، وذلك مقابل غض النظر عن التمدد الإيراني في بعض دول المنطقة. وما يستشف من المعطيات والتحركات الخاصة بالنظام الإيراني، هو أن هذا الأخير لم يعد يقتنع بدور المنفذ للخطط المتفق عليها؛ بل يريد بصورة أو بأخرى الحصول على امتيازات مجزية مقابل الجهود التي أداها لصالح إسرائيل. هذا رغم شعارات المقاومة والممانعة التي كان، وما زال، يرفعها هنا وهناك. فما يريده النظام الإيراني هو الاحتفاظ على الأقل بامتيازات في كل من العراق وسوريا ولبنان واليمن. وهو الأمر الذي ترى فيه إسرائيل، ومعها الولايات المتحدة الأمريكية، خطراً جدياً لا يمكن المقامرة بغض النظر عنه، لذلك يرى الحليفان الاستراتيجيان المتماهيان ضرورة وضع ضوابط ومحددات جديدة تضمن عدم حدوث ما هو غير مرغوب فيه.
أما بالنسبة لموقف بشار الأسد نفسه من كل التحركات والتصريحات التي تجري، ويُعلن عنها بخصوص قرب موعد المصالحة مع تركيا، وجدوى لقاء القمة مع أردوغان، فهو موقف لا يُحسد عليه. لأنه من ناحية يرى أن التطبيع العربي سيفتح أبواب المجتمع الدولي أمامه بطريقة أيسر وأقل كلفة؛ ولكنه من ناحية أخرى على اطلاع كامل بما حدث للرئيس اليمني الأسبق على عبد الله صالح حينما أراد ترك الحوثيين بعد استقوائه بهم في مقارعة خصوصه السياسيين.
وبناء على ذلك، ربما يكون التقارب مع تركيا التي يبدو أنها تسعى لإعادة بناء علاقاتها العربية، ومع السعودية تحديداً، هو الطريق الأكثر ضماناً للخروج من أزمته. ولكن التهديدات الإيرانية في المنطقة، ومن بينها التلويح بورقة الديون والالتزامات القانونية، بالإضافة إلى التغلغل الإيراني الواسع في الأجهزة الأمنية والعسكرية التابعة للسلطة الأسدية، هذا فضلاً عن العلاقات الوثيقة القائمة بين النظام الإيراني، وحزب العمال الكردستاني، وقدرة النظام المعني على تحريك هذا الحزب وفق توجيهاته ومخططاته كما فعل، ويفعل، في إقليم كردستان العراق؛ كل هذه العوامل وغيرها تقلص هامش المناورة أمام بشار الأسد وتضيق الخناق عليه.
بقي أن نقول استناداً إلى كل ما تقدم: إن المعارضة السورية الرسمية هي التي ستكون من أكبر الخاسرين بكل أسف؛ ولا غرابة في ذلك، ما دامت قد تخلت عن أولويات شعبها، وغدت مجرد جزء تابع منقاد ضمن ماكينات مشاريع الآخرين وأولوياتهم.