أعطت الأحداث التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط مجالًا لاستعادة العديد من المعايير والخطوط العريضة التي تم غض النظر عليها أو الابتعاد عنها لفترة وجيزة ليس لعدم أهميتها ولكن للتفرغ لمسألة وقضية مهمة تتعلق بالردع الإسرائيلي والرد الإيراني، ومن أهم هذه الملفات هو البرنامج النووي الإيراني الذي كان موضع اهتمام كبير من قبل الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوربية واعتبر من المواضيع المنسية أو المؤجلة بسبب ما تشهده المنطقة من أحداث متسارعة قد تفضي إلى مواجهة ميدانية حقيقية، وهو الأمر الذي سعت إليه إدارة الرئيس جو بايدن في منع حالة تصعيد المواجهة بين إسرائيل وإيران، ولكنها رأت نفسها مضطرة للعودة مرة أخرى لمناقشة عملية التطور الحاصل في البناء العلمي والتقني للبرنامج النووي الإيراني، خاصة بعد المعلومات التي أكدت قيام طهران بنصب أجهزة متطورة لتخصيب اليورانيوم بنسبة 60٪ وأن الإيرانيين مصممين على المضي قدمًا في حيازة السلاح النووي وبدأ الجانب الأوربي يلوم الموقف الأمريكي من عدم معالجة السلوك الإيراني والتأخير في اتخاذ الإجراءات المناسبة في عدم تجاوب إيران مع متطلبات الوكالة الدولية للطاقة الذرية والذي أدى إلى انخفاض عمليات التفتيش وتوسيع الأنشطة النووية في المنشأت الإيرانية وتحديدًا في منشأتي ( نطنز وفوردو) والتي اوصلت إيران إلى مرحلة متقدمة في برنامجها النووي.
جاءت الأحداث الأخيرة في المنطقة لتعيد الاهتمام الأمريكي – الأوربي بتطورات الجانب التقني في تخصيب اليورانيوم بعد تقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية الذي صدر في آيار 2024 والذي أشار إلى امتلاك إيران 142كغم من اليورانيوم المخصب بنسبة 60٪ وهي الزيادة التي تتجاوز 20 كغم عن التقرير السابق للوكالة في شباط 2024، وهو ما يتوافق مع رأي وكالتي الاستخبارات الأمريكية والإسرائيلية اللتين إشاراتا إلى إمكانية قيام إيران بتصنيع السلاح النووي خلال أسابيع بعد وصولها إلى تخصيب اليورانيوم بنسبة 90٪، ورغم قيام الولايات المتحدة الأمريكية وإيران بإجراء مباحثات غير مباشرة بوساطة عُمانية في الأشهر الأخيرة من أجل التوصل إلى صيغ وتفاهمات تفضي إلى وضع قيود مؤقتة على البرنامج النووي الإيراني ورغم الطلب الأمريكي للدول الأوربية في إيقاف قرار الادانة بحق إيران حول استمرارها بنشاطها النووي، إلا أنها ردت بتركيب أجهزة طرد مركزي جديدة أكثر تقدمًا في منشأة ( فوردو) لتخصيب اليورانيوم تحت الارض.
جميع هذه المعطيات الميدانية واستمرار السلوك والمنهج الإيراني في التعامل وفق المصالح والأهداف التي تجعل المشروع السياسي الإيراني مستمر في التمدد والنفوذ، يأتي تقرير منظمة الأمن الوطني الأمريكي الصادر يوم 18آب 2024 حول النشاط النووي الإيراني ليؤكد حقيقة عودة الاهتمام به خاصة بعد أن وردت في التقرير عبارة لم تسبق للمنظمة وان أشارت إليها في تقاريرها السابقة والتي تقول ( أن إيران ليست منهمكة بإنتاج أدوات نووية قبالة للاختبار)، وهذا يعني أنها بدأت بأنشطة علمية وتقنية لإنتاج أدوات نووية قابلة للاختبار وانها تقترب من هذا الهدف المهم الذي يحقق لها طموحها في أن تكون دولة نووية، وجاء التقرير موافقًا لرأي الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي تؤكد أن جميع انشطة إيران النووية لا تجري لأغراض سلمية.
وهناك عدة أمور جعلت من الاهتمام الامريكي بالعودة للبرنامج النووي الإيراني منها ما جاء على لسان رافائيل غروسي رئيس الوكالة الدولية في 5 آب 2024 من ( إن إيران بإمكانها تخصيب يورانيوم يكفي لصنع قنبلة نووية خلال أسابيع عدة فقط).
وكانت الولايات المتحدة الأميركية أكدت مراراً أنه إذا ما فشلت خطط العقوبات في ردع البرنامج النووي الإيراني، فإن الخيار العسكري مطروح على الطاولة، ولكن رأي نواب الحزب الديمقراطي يرون أن الإجراءات العسكرية لا تقضي على البرنامج النووي بل تساهم في الإسراع بإنجازه وتطويره ردًا عن أي ضربة أمريكية إسرائيلية تطال المنشأت الإيرانية النووية، ومع هذا فقد حذر تقرير قدمه مدير الاستخبارات الوطنية إلى الكونغرس في تموز 2024 من أن إيران (قامت بأنشطة تجعلها في وضع أفضل لإنتاج سلاح نووي، إذا اختارت القيام بذلك).
أن هذا التحول بشأن الجهود النووية الإيرانية يأتي في وقت ينتظر فيه الجميع كيفية ووقت ومكان الرد الإيراني، في حين أن طهران تعمل على إنتاج ما يكفي من الوقود النووي عالي التخصيب لإنتاج أسلحة نووية، وفي تقرير لمدير الأمن الوطني الأميركي ورد أن النظام الإيراني يملك أكبر عدد من الصواريخ الباليستية في المنطقة ويحاول كثيراً رفع مستوى دقتها وقوة تدميرها والاطمئنان على سلامة عملها ومن المحتمل أنها استفادت من عملية الرد على إسرائيل في 13نيسان 2024 في إدخال بعض عمليات التطوير على فعالية هذه الصواريخ والطائرات المسيرة ومنها ما أعلنت عنه بالعمل على تطوير منصات إطلاق فضائية “سيمرغ” التي تقلل فترة إطلاق الصواريخ عابرة القارات.
تمكنت إيران من التوجه إلى تصنيع وإنتاج الطائرات المسيرة والاهتمام ببرنامج الصواريخ البالستية بعد أن تم حجب الأسلحة والمعدات العسكرية والطائرات المقاتلة عالية التصنيف عنها بسبب العقوبات الأميركية المفروضة عليها، ولكنها استطاعت من إنتاج ألآلآف من الطائرات المسيرة وتمتلك (3500) صاروخ أرض أرض يحمل رؤوس حربية تزن نصف طن ولديها أنظمة دفاع جوي روسية ( أس 300) وتأمل في وصول منظومة متقدمة ( أس 400) لتشكل حالة إيجابية في دعم دفاعها الجوي، وذكر المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، إن طهران لديها سرب من تسع طائرات مقاتلة من طرازي (أف-4) و(أف-5) ، وآخر من طائرات (سوخوي-24) روسية الصنع، إلى جانب عدد من طائرات (ميغ -29) ، و(أف 7) و(أف 14) .
وأشار تقرير منظمة الأمن الوطني الأمريكي إلى امتلاك إيران بنية تحتية وتجارب علمية من أجل الإنتاج السريع لليورانيوم المخصب واستخدامه لأغراض عسكرية، وكانت إيران أن عملت على الاستفادة من الفرص السياسية التي طرأت على المنطقة ومنها الأحداث التي وقعت في السابع من تشرين الأول 2023 في غزة وقبلها الحرب الروسية – الأوكرانية لتوسيع برنامجها النووي واستمرار تجاربها العلمية وزيادة نسبة تخصيب اليورانيوم وخزن الأف من الطرود المركزية.
ويبقى القرار الأمريكي الإسرائيلي ضمن الرؤية الاستراتيجية للدفاع عن المصالح المشتركة في منطقة الشرق الأوسط أنهما لا يسمحان لإيران بامتلاك القنبلة النووية وسيعملان على توجيه ضربة عسكرية قبل إكمال إيران لمشروعها النووي وهذا ما تدركه إيران وتعلمه حقيقة
وتنظر إلى التواجد العسكري الأمريكي والمعدات والسفن الحربية ومنها المدمرة (فورد) والبارجة الحربية (يو أس أس نورماندي) و (يو أس أس رميج) و(يو أس أس كارني) و(يو أس أس روزفلت) ، والطائرات المقاتلة نوع (أف-35) و(أف-15) و(أف-16) وإرسال مقاتلات أمريكية نوع ( أف 22) الى القاعدة الأمريكية في قطر والتي تمتلك قدرات وإمكانيات قتالية تتمكن من الهروب من أجهزة الرادار، مع تواجد (42) بارجة في البحار والمضايق المائية المهمة والقواعد العسكرية في عدد من الأقطار العربية واسرائيل وتركيا ولها قوات عسكرية تبلغ (42) ألف مقاتل، إلى انها تشكل حزمة من الإجراءات والوسائل الحربية التي لا يمكن وجودها فقط من أجل مواجهة الرد الإيراني على أهداف عسكرية واقتصادية داخل العمق الإيراني، إنما هي رسالة واضحة لإيران ونظامها السياسي بأن للولايات المتحدة القدرة على ضرب القواعد والمنشأت النووية والأهداف الاستراتيجية داخل الأراضي الإيرانية، وهذا ما يعني إضعاف لقوة النظام وتهديد الجبهة الداخلية التي تعاني من أزمات ومشاكل إقتصادية واجتماعية ومن الممكن أن تؤدي الضربات الأمريكية إلى انطلاق الاحتجاجات والتظاهرات ضد النظام مطالبة برحيله وهذا ما تخشاها القوى والاحزاب السياسية الإيرانية وقيادة الحكم في البلاد، وهو ما حذر منه مستشار الأمن القومي الروسي ( سيرغي شويغو) أثناء زيارته العاصمة الإيرانية ( طهران) ولقائه مع المسؤولين في القيادات العسكرية والأمنية من أن هجوم أمريكي قريب ضد المنشأت العسكرية والنووية الإيرانية.
فهل علينا أن نقتنع أن هذه الأساطير والبارجات البحرية والمقاتلات الأمريكية جاءت للمنطقة للدفاع عن إسرائيل أم أن هناك اهدافًا أمريكية تتعلق بزيادة حالة التوتر في منطقة الشرق الأوسط مع قرب موعد الانتخابات الأمريكية القادمة؟ وهل هناك ردًا إيرانياً حاسمًا أم أن الانظار تتجه إلى مساومات سياسية وانتظار لنتائج المفاوضات حول ايقافرالقتال في قطاع غزة؟..
كل الاحتمالات قائمة في منطقة استراتيجية تشهد مواجهة إقليمية بالتقسيط.
وحدة الدراسات الإيرانية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجة