لو رغبت إيران أو حزب الله في التصعيد، واحتاجا ذريعةً لقلب موازين القوى في الشرق الأوسط لكانت حادثتا الاغتيال في بيروت وطهران ذرائع كافية لمنحهما مرادهما المنتظر، إذ وفرَ الاغتيالان لهما ذريعةً قانونيةً وأخلاقيةً وسياسيةً للتصعيد، إن كان التصعيد رغبتهما، وكانا يعدان له العدّة منذ سنواتٍ، وفق تحليلاتٍ لمحللين سياسيين من المحسوبين على محور المقاومة والممانعة، فهما، أيّ الحزب وإيران وربّما سورية مع بقية الأطراف، وفق الأستاذين “رفيق نصر الله” و”ناصر قنديل”، فقد أعدّ حزب الله العدّة لشن هجومٍ منسقٍ في عام 2024، تشارك فيه جبهات غزّة، وجنوب لبنان، والجولان، أي في العام الحالي، لكن وبحسبهما، فاجأ “طوفان الأقصى” الجميع، وأربك الحسابات، وربّما يساهم في تأجيل تنفيذ الخطة لسنواتٍ قادمةٍ، إذ انتفى منها عنصر المفاجأة، الذي كان سيحدثه الهجوم، لو تم وفق المخطط القديم.
لكن؛ لو افترضنا أنّ كلّ ما قيل حقيقيٌ، والمخطط معدٌ فعلاً، نحن هنا لا نشكك بأقوالهما، لوجدنا تصريحاتٍ سابقةً معلنةً لأمين عام حزب الله، حسن نصر الله، بشأن إمكانية تحرير الجليل الفلسطيني في أيّ منازلةٍ قادمةٍ مع العدو الصهيوني الغاصب، كما سنجد خططًا صهيونيةً لمواجهة ذلك، بل تحدثت الأوساط الصهيونية عن هذا الاحتمال وناقشت إمكانية حدوثه. كما ترافقت تلك الأحاديث مع أحاديثٍ أخرى فلسطينيةٍ غزّيةٍ، إذ صرح القائد “يحيى السنوار” أنّ غزّة أيضًا قادرةٌ على احتلال منطقة الغلاف، أو تحريره من الصهاينة، وقد فعلت ذلك في السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
في النهاية لم نعهد من إيران الاستعجال، ولا من حزب الله، بل عهدنا الصبر الاستراتيجي، والتخطيط الجيد، والخطوات المحسوبة
السؤال الذي يطرح الآن، أليس الوقت اليوم مناسباً أكثر من أيّ وقتٍ مضى لشن الهجوم وتحرير الجليل الفلسطيني؟ بعد إنهاك الجيش الصهيوني، جراء القتال المستمر منذ ما يقارب الأحد عشر شهراً، وتجاوز خسائره البشرية والمادية التوقعات، على الجبهتين الجنوبية في قطاع غزّة، والشمالية شمال فلسطين المحتلة عام 1948، في أطول حرب استنزافٍ خاضها في تاريخه منذ إنشائه، كما هناك خلافاتٌ سياسيةٌ وعسكريةٌ حادةٌ داخل أوساط مجتمع العدو، بل ومع حلفائه الإقليميين، وكذلك مع المجتمع الدولي دولاً ومنظماتٍ ومحاكم، أيضًا يعاني اقتصاد العدو الأمرين جراء استمرار الحرب، وتداعياتها على تصنيفه الائتماني، وإغلاق عديد المصانع، وإغلاق آلاف الشركات، وهروب رؤوس الأموال، والاستثمارات إلى واجهاتٍ خارجيةٍ أكثر أمناً؟
في هذا السياق نذكر تحذير رئيس شعبة الاستخبارات الإسرائيلية السابق، اللواء احتياط “عاموس يدلين”، الذي يعتقد أنّ “بنيامين نتنياهو بأفعاله واستفزازاته يلعب على الوتر الإيراني، ويجر البلاد إلى حربٍ يتمناها الإيرانيون، وحزب الله، ويحيى السنوار، وستكون كارثةً استراتيجيةً على إسرائيل”. كما شدّد على أنّ “استراتيجيّة (النصر الشامل) تخدم الاستراتيجيّة الإيرانيّة المتمثّلة في إيقاع إسرائيل في حرب استنزافٍ طويلةٍ في ساحاتٍ عدّة، وفي الوقت نفسه، حتى انهيارها”.
التنسيق بين كتائب حماس والجهاد الإسلامي (فرانس برس)
ملحق فلسطين
حماس والجهاد الإسلامي نحو “جبهة موحدة”
لكن وعلى الرغم من هذه النظرة، التي تعتبر أنّ نتنياهو قد وقع في شر أعماله، ومنح المحور الإيراني مبتغاه، والفرصة التي انتظرها للانقضاض وقلب الطاولة على أعدائه، إذ ارتفعت أسهمه في العالمين العربي والإسلامي، بل وبين شعوب العالم التي ترى في إيران اليوم، وحلفائها، حزب الله والحوثيين، أنصاراً وسنداً فاعلاً للشعب الفلسطيني المظلوم والمقهور والصابر والصامد والمضحي في سبيل حريته في قطاع غزّة، والذي يقع ضحية حرب إبادةٍ جماعيةٍ، وجرائم حربٍ لم يشهد التاريخ المعاصر مثيلاً لها على حدّ وصف ممثّل جنوب أفريقيا في الأمم المتّحدة، ومقررة الأمم المتّحدة لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية، فرانشيسكا ألبانيز، فهل فعلاً وقع نتنياهو في المصيدة، من خلال أخطاءٍ تكتيكيةٍ، وسوء تقديرٍ لعواقب اغتيال إسماعيل هنية في طهران، وفؤاد شكر في بيروت؟
أم أنّ العكس هو الصحيح؟ أيّ نصب نتنياهو الفخ أو الشرك، وينتظر وقوع الفريسة فيه، وهي هنا إيران وحزب الله بالدرجة الأولى، خصوصًا أنّ عمليتي الاغتيال جاءتا بعد زيارة الأوّل إلى واشنطن، ولقائه مع قيادات الحزبين الديمقراطي والجمهوري، من بايدن إلى كامالا هاريس ودونالد ترامب، وقيادات اللوبي الصهيوني، ولوبي الصناعات العسكرية، وسواهم في الكونغرس، بل ربّما أيضاً مع قادة الاستخبارات في الولايات المتّحدة، ما قد يعني أنّ عمليات الاغتيال منسقةٌ مع الولايات المتّحدة وحلفائها، بغرض جر الحزب وإيران إلى رد فعلٍ عنيفٍ يؤدي الرد عليه إلى صدامٍ حتميٍ بين الولايات المتّحدة، وحلف الناتو الغربي والعربي مع إيران؟
سنجد خططًا صهيونيةً لمواجهة ذلك، بل تحدثت الأوساط الصهيونية عن هذا الاحتمال وناقشت إمكانية حدوثه.
كما تتعزز هذه الفرضية بعد ربط الاغتيالات وما تلاها مع الهجوم الأوكراني المفاجئ والناجح، حتّى الآن، على جبهة كورسك الروسية، والذي عقد وضع حلفاء إيران الدولي، روسيا والصين. وهو ما يفسر زيارة أمين عام مجلس الأمن القومي الروسي، سرغي شويغو، المفاجئة إلى طهران، والتسريبات حول نصيحة فلاديمير بوتين للقادة الإيرانيين بعدم الرد، أو جعله في أدنى مستوياته، حتّى لا يمنح الرد الولايات المتّحدة الذريعة لتدمير القدرات النووية الإيرانية، مع أنّ هناك تسريباتٌ أخرى تشكّك في أن يكون هدف الزيارة التحذير، إذ تتحدث بعض المعلومات عن صفقات تبادلٍ عسكريةٍ بين البلدين، منظومات إس-400 الروسية، مقابل صواريخ فاتح 101 الإيرانية.
المؤكد لدينا وفق المعطيات المتوفرة حتّى الآن؛ أنّ إيران مُصرةٌ على الرد رغم التهديد بضربها بسلاحٍ نوويٍ، وفق تصريحات الباحث المقرب من القيادة الإيرانية، أمير موسوي، كما أنّها سترد بنفس مستوى رد الاحتلال إن حصل، كما لن تثنيها أيّ تهديداتٍ عن الرد على المس بأمنها وكرامتها وشرفها عبر اغتيال ضيفها القائد الفلسطيني إسماعيل هنية.
جنود الاحتياط \ الجيش على الحدود مع غزة، 6 مايو 2024 (فرانس برس)
تقارير دولية
دول وشركات تواصل تزويد إسرائيل بالوقود: تواطؤ في الإبادة
إصرار إيران، وعدم تراجعها رغم الضغوط الكبيرة، والعروض الأميركية والامتيازات التي تم تسريبها، خصوصًا ما نقلته الجريدة الكويتية، إلى جانب زيارة رئيس الوزراء الأردني إلى طهران، والاتصالات المصرية، ومسارعة الدول العربية المشرقية إلى إعلان “النأي بالنفس”، وأنّها لن تشارك في صدّ الهجوم، أو لن تقبل بأن تكون أراضيها وسماؤها ساحة حربٍ، مع حشد الأساطيل الأميركية، من بوارج وحاملات طائراتٍ، والبيانات الثلاثية والرباعية والخماسية الغربية، المهددة والمحذرة إيران من مهاجمة دولة الصهاينة، كلّها تقود إلى أنّ لعبة نتنياهو القذرة في توريط الجميع باتت مكشوفةً، لكن انحياز الغرب الأعمى للصهاينة، ومشروعهم الاستيطاني الأحادي في فلسطين، والحرص على استمراره وحمايته، يأبى أن يعترف بذلك، فهل هذا يعني أنّ الحرب الإقليمية قادمةٌ؟
وفق اعتقاد الكاتب ليس بالضرورة، فتأجيل إيران والحزب لهجومهم المنتظر قد لا يهدف إلى إبقاء العدو واقفاً على رجلٍ ونصف فقط، وفق تصريح السيد حسن نصر الله، بل لأنّهما يبحثان عن هدفٍ محددٍ (شخصية أو موقع) قد يعادل الشهيدين هنية وشكر بالقيمة والمقام، الذي قد لا يُشعل حرباً شاملةً، لاعتباره واحدًا مقابل واحدٍ. هذا ما فهمته دولة الصهاينة حين حظرت على قياداتها القيام بزياراتٍ مكشوفةٍ، وعقدت اجتماعاتها الأمنية في “الحفرة” تحت الأرض.
أم أنّ العكس هو الصحيح؟ أيّ نصب نتنياهو الفخ أو الشرك، وينتظر وقوع الفريسة فيه، وهي هنا إيران وحزب الله بالدرجة الأولى
في النهاية لم نعهد من إيران الاستعجال، ولا من حزب الله، بل عهدنا الصبر الاستراتيجي، والتخطيط الجيد، والخطوات المحسوبة. لذلك ووفقًا لتقييم الكاتب؛ فإنّ الرد الإيراني قادمٌ لا محالة، لكنه لن يحرر فلسطين، ولن يدمر دولة الصهاينة، كما سيكون وفقًا لكلّ الحسابات والتوقعات المتفائلة رداً انتقائيًا يعيد الاعتبار للردع المتبادل، ويغلق صفحة الحساب.
لكن يبقى هذا حساب المحور الإيراني، أما الحساب الصهيوني الأميركي وردهما على الرد الإيراني وأعضاء محوره، فهو الفيصل في توسع الحرب، أو إنهائها من خلال صفقةٍ تُصر أميركا وحلفاؤها العرب على إنجازها.
لا تخدم الحرب الشاملة أحداً، وليست في صالح أحدٍ، هذا قول الزعماء العرب في منطقتنا، لكن لنتنياهو، وإيتمار بن غفير، وبتسلئيل سموتريتش قولاً آخر، والنظام الرسمي العرب يقاد بحبلٍ أميركيٍ، والأخير، كما أثبتت الأحداث، حبله في يد اللوبي الصهيومسيحي، ونتنياهو وفق التصفيق له في الكونغرس الأميركي يمسك بالحبل جيدًا. ما بين التوقعات والحسابات ما زالت حرب الإبادة في قطاع غزّة هي الحقيقة الواقعة، التي لم تتغير خلال الشهور العشرة الماضية، والانتصار يكمن اليوم في إيقافها.