في اليوم الثاني من معارك الشمال السوري حققت هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) وفصائل معارضة تقدماً كبيراً على الأرض في شمال غربي البلاد. وبينما تسعى الفصائل لتغيير خريطة السيطرة، وتأمل في استعادة مناطق واسعة ليصبح بالإمكان عودة أكثر من مليون نازح يكتظ بهم الشمال السوري، تبرز مخاوف بأن تتسبب المواجهات في موجات نزوح جديدة للمدنيين، خصوصاً مع اشتداد رد النظام وروسيا.
وبحسب مصادر إعلامية مواكبة لعملية “ردع العدوان”، التي بدأت أول من أمس الأربعاء، ضد قوات النظام، فإن الاشتباكات تدور في قرية معردبسة قرب مدينة سراقب في ريف إدلب الشرقي، مشيرة إلى أن مقاتلي الفصائل سيطروا على قرى في محيط سراقب منها كفر بطيخ وداديخ. كما أعلنت غرفة عمليات “ردع العدوان” السيطرة على بلدة كفرناها في ريف حلب الغربي “بعد معارك شديدة استمرت لساعات”.
وبيّنت المصادر أن الفصائل سيطرت خلال يوم واحد من العملية على أكثر من 30 بلدة وقرية وموقعا في ريفي إدلب وحلب، مؤكدة أن هذه الفصائل باتت على الأطراف الغربية لمدينة حلب من جهة خان العسل. وتحدث المرصد السوري لحقوق الإنسان، في بيان، عن مقتل 200 شخص في معارك الشمال السوري من هيئة تحرير الشام، وفصائل “الجيش الوطني”، وقوات النظام، بينهم ما لا يقل عن أربعة ضباط برتب مختلفة. وفي السياق، قال المرصد إن “هيئة تحرير الشام والفصائل المساندة لها قطعت طريق دمشق ــ حلب الدولي أم5 عند بلدة الزربة في ريف حلب، إضافة إلى السيطرة على عقدة الطريقين الدوليين أم4+ وأم 5 عند مدينة سراقب”، ما أدّى إلى توقّف الطريق الدولي عن العمل بعد سنوات من إعادة فتحه.
من جانبها، قالت قوات النظام، في بيان أمس الخميس، إن ما سمتها “التنظيمات الإرهابية المسلحة المنضوية تحت ما يسمى جبهة النصرة”، والموجودة في ريفي حلب وإدلب شنت هجوماً كبيراً وعلى جبهة واسعة صباح الأربعاء الماضي، مستخدمة الأسلحة المتوسطة والثقيلة، زاعمة أنها تصدت للهجوم وكبدت بـ”التعاون مع القوات الصديقة” القوات المهاجمة “خسائر فادحة في العتاد والأرواح”.
انهيار خطوط دفاع قوات النظام
وتدل المعطيات الميدانية على أن معارك الشمال السوري أدت إلى انهيار خطوط الدفاع لقوات النظام والمليشيات الإيرانية أمام مقاتلي الفصائل الذين استخدموا الطائرات المُسيرة. وأشارت وكالة دانشجو الإيرانية المحافظة إلى مقتل العميد كيومرث بورهاشمي قائد المستشارين العسكريين الإيرانيين في حلب في هجوم الفصائل. وأكدت غرفة عمليات “ردع العدوان”، في بيان، أنها أسرت عدداً من العناصر، واستولت على أسلحة وعتاد متنوع من قوات النظام من بينها دبابات “تي 72”. وقال المتحدث باسم عمليات “ردع العدوان” المقدم حسن عبد الغني، في بيان أمس الخميس، إن القوات المهاجمة نفذت عملية نوعية أسفرت عن تدمير مربض راجمات صواريخ في مدرسة الشرطة غربي حلب، والذي كان يستخدم لاستهداف مناطق سيطرة المعارضة. وبين أن “قواتنا نفذت ضربة استباقية جديدة في ريف إدلب الشرقي، حيث بدأت تحصينات العدو بالانهيار منذ اللحظات الأولى للتقدم”.
في الأثناء، رفض أكثر من مصدر عسكري تركي تواصلت معه “العربي الجديد” التعليق بالإيجاب أو النفي حول ما إذا كانت تركيا أعطت ضوءاً أخضر سمح للفصائل بشن العملية، لكن أحدها اكتفى بالقول إن “الجانب التركي يراقب عن كثب التطورات الجارية في منطقة خفض التصعيد والقوات العسكرية جاهزة لأي تطورات قد تحصل، والنقاط العسكرية مستعدة للدفاع في حال حصول أي هجوم باتجاهها وكل التطورات الحالية تحصل في مناطق خفض التصعيد”.
وفي السياق، نقلت وكالة “رويترز” عن “مصادر أمنية تركية” قولها، أمس الخميس، إن “جماعات معارضة في شمال سورية شنت عملية محدودة في أعقاب هجمات نفذتها قوات الحكومة السورية على منطقة خفض التصعيد في إدلب، لكنها وسعت عمليتها بعد أن تخلت القوات الحكومية عن مواقعها”. وأضافت المصادر الأمنية أن تحركات الفصائل ظلت ضمن حدود منطقة خفض التصعيد في إدلب التي اتفقت عليها روسيا وإيران وتركيا في العام 2019. وتشي التصريحات التركية بأن نطاق العملية ربما يكون محدوداً ضمن منطقة خفض التصعيد المتفق عليها في مسار أستانة، والتي كانت قوات النظام بمساعدة الجانب الروسي سيطرت على جانب منها في عامي 2019 و2020.
قتلى ونزوح بين المدنيين
تدور معارك الشمال السوري في مناطق خالية من وجود مدنيين، حيث كان النظام هجّرهم في الربع الأول من العام 2020 إلى أقصى الشمال. لكنها دفعت مدنيين للنزوح، خصوصاً من البلدات القريبة من نقاط التماس في ريف حلب الغربي. وبحسب مصادر محلية فإن هناك خشية من نزوح أوسع في حال اتساع نطاق المعارك وقيام الطيران الروسي بالانخراط فعلياً في القتال، أو حال قيام قوات النظام بقصف المدن والبلدات الآهلة بالسكان مثل أريحا وإدلب للضغط على الفصائل من أجل إيقاف العملية.
وقتل 17 مدنياً أمس الخميس في غارات روسية استهدفت مناطق عدة في ريفي حلب وإدلب. واستهدف الطيران الروسي مدينة الأتارب بريف حلب الغربي، ما أوقع 13 قتيلاً في صفوف المدنيين، فيما قتل أربعة مدنيين وأصيب 15 بقصف للطيران الروسي على مدينة دارة عزة غربي حلب. وطاول القصف الجوي أيضاً الأحياء السكنية ومنطقة السوق الشعبي في مدينة سرمين شرقي إدلب، إضافة إلى تدمير الفرن الآلي في مدينة أريحا جنوبي إدلب.
لا يستبعد أحمد القربي أن تكون العملية جزءاً من الرد التركي على تعنت نظام الأسد
وفي بوادر على حركة نزوح واسعة متوقعة نتيجة معارك الشمال السوري أشار بيان لفريق “منسقو استجابة سورية”، الأربعاء الماضي، إلى ارتفاع أعداد النازحين إلى مستويات هي الأعلى منذ سنوات، حيث تجاوزت أعداد النازحين من أرياف إدلب وحلب أكثر من 10728 عائلة (57432 نازحاً) حتى الآن. ولفت البيان إلى أن النزوح يأتي في ظل دخول فصل الشتاء، ما يزيد من تفاقم المعاناة، مشيراً إلى أن المناطق التي استقبلت النازحين تشهد أصلاً اكتظاظاً كبيراً في المرافق الموجودة فيها، والتي لم تعد قادرة على تلبية الاحتياجات المتزايدة.
أبعاد معارك الشمال السوري
تهدف الفصائل من معارك الشمال السوري إلى تحقيق بعدين: الأول عسكري هدفه استعادة السيطرة على المناطق التي خسرتها أواخر 2019 وبدايات 2020 في أرياف حلب وحماة وإدلب، والثاني إعادة أكثر من مليون نازح إلى ديارهم. وتشكل مدن معرة النعمان وسراقب وخان شيخون أهمية كبرى للفصائل، لذا تركز العمل العسكري أمس الخميس على سراقب كونها تتمتع بأهمية استراتيجية، فعندها يلتقي الطريقان أم4 وأم5 وهما أهم طريقين في البلاد. ويربط الطريق أم5 العاصمة السورية دمشق بمدينة حلب في الشمال مروراً بمدينتي حماة وحمص وسط البلاد. ووفق الخرائط الميدانية بعد تقدم الفصائل خلال يوم من العملية، فإنه لم يعد يفصلها عن حلب الغربية سوى تسعة كيلومترات.
وأكد القيادي في فصائل المعارضة العقيد مصطفى البكور، في حديث لـ”العربي الجديد”، أن هدف العملية هو “طرد المليشيات الإيرانية من كل الأراضي السورية وإعادة المهجرين”، مضيفاً: “لن نتوقف عند حدود معينة”. وعن ردة الفعل الروسية حيال هذا التقدم، أوضح أن الطيران الروسي “شارك بفعالية أقل من العام 2019″، مضيفاً: “المجهود الجوي الروسي هذه المرة محدود ربما بسبب انشغال الروس بالحرب الأوكرانية وإعادة عدد من طائراتهم من سورية”.
غياب مقاومة قوات النظام
وفي السياق، رأى الباحث العسكري رشيد حوراني، في حديث مع “العربي الجديد”، أن التقدم الذي حققته الفصائل خلال فترة زمنية قصيرة “يدل على غياب المقاومة الفعلية من قبل قوات النظام”، مضيفاً: ربما يعود ذلك إلى عدم دعم الحلفاء لها بشكل كافٍ، حيث غاب الطيران الروسي، كما لم تظهر بوضوح مشاركة المليشيات الإيرانية. وتابع: تفكك جيش النظام وعدم امتلاكه الحدود الدنيا من القدرات القتالية، في مقابل الفصائل التي حققت تقدماً واضحاً، وسيطرت على الفوج 46 (غرب حلب) ذي الموقع الاستراتيجي، لعب دوراً في اندحاره عن مناطق واسعة خلال يوم واحد فقط من القتال. ورأى أن “على الفصائل أن تأخذ بعين الاعتبار أن يكون رد فعل النظام من باب المكيدة والخديعة”، مطالباً الفصائل “بفتح محاور عمل جديدة لتوسيع مناطق السيطرة على حساب النظام”.
وجاءت معارك الشمال السوري في ظل تعنت النظام واستمرار رفضه لأي جهود من أجل تحريك العملية السياسية المتوقفة منذ العام 2022، ما يعني أن هذه العملية في حال اتساع نطاقها من شأنها دفع النظام إلى مراجعة حساباته. كما جاءت العملية عقب رفض النظام السوري التقارب مع أنقرة بوساطة من الجانب الروسي، بل إن الرئيس السوري بشار الأسد رفض دعوة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان لعقد لقاء قمة ينهي سنوات القطيعة والعداء بين الجانبين.
ولا يستبعد المحلل السياسي أحمد القربي، في حديث مع “العربي الجديد”، أن تكون عملية “ردع العدوان” جزءا من الرد التركي على تعنت نظام الأسد، مضيفاً: لكن علينا ألا ننسى أن هناك عوامل أخرى شجعت على القيام بالعملية منها تراجع النفوذ الإيراني في سورية وانخراط روسيا بشكل أكبر في ملف أوكرانيا. ورأى أن معارك الشمال السوري “يمكن أن تؤدي إلى إعادة تفعيل مسار أستانة التفاوضي، أو إيجاد آلية بديلة تركية روسية بعد تراجع النفوذ الإيراني”، مضيفاً: لا أعتقد أنها ستنعكس على مسار جنيف التفاوضي، فهو بعيد عن الوضع الميداني ومرتبط بالإرادة السياسية للفاعلين وخاصة الروس والأميركيين.