يحاول النظام الإيراني أن يجد المبررات والحجج للدفاع عن موقفه من حالة التغيير السياسي السوري وتسيد القيادة العسكرية للمعارضة السورية زمام الحكم في العاصمة ( دمشق) والبدأ بتشكيل الحكومة الانتقالية وتحديد مهامها في التعاون مع جميع الفصائل المُسلحة واتباع الأساليب والخطط الميدانية لإعادة بناء البلاد وتحديد معايير الإصلاح والإعمار وتعميق روح الوحدة الوطنية لدى أبناء الشعب السوري.
وأمام هذه التطورات السياسية وانسيابية العمل الميداني وحالة التوافق الدولي التي تتلقاها القيادات السورية الجديدة والزيارات المستمرة للمسؤولين في الاتحاد الأوربي وبعض ممثلي العواصم الأوربية والولايات المتحدة الأمريكية، والتي تعطي انطباعات واضحة عن الآفاق المستقبلية التي ستحددها مسار العملية السياسية في المشهد السوري العام.
ولكي تكون إيران في خضم المتغيرات السياسية وبعد ادراكها لحقيقة ما آلت إليه النتائج الميدانية من تطورات افضت إلى التعبير الحقيقي والرأي الشعبي السوري من رفض أي تدخلات إيرانية مستقبلية في البلاد بعد الأساليب والممارسات القهرية والظلم والتعسف الذي اتبعته المليشيات الإيرانية المرتبطة بالحرس الثوري في تعاملها معهم وسيطرتهم على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في جميع المدن السورية، تنفيذًا لغايات وأهداف تتعلق بالتمدد والنفوذ الذي يؤطره المشروع الإيراني في منطقة الشرق الأوسط والوطن العربي.
ولكي تُبعد القيادات الإيرانية عن نفسها هذه المشاعر والأحاسيس وطبيعة الأساليب الأمنية والاستخبارية التي مارستها في الميدان السوري، يأتي حديث المرشد الأعلى علي خامنئي مع مجموعة من الإيرانيين أثناء حضوره الاحتفالية الدينية في العاصمة ( طهران) يوم 22 كانون الأول 2024، والذي ابتدأه بالعودة إلى نفس الخطاب السياسي حول وجود أدوات ومفاعيل دولية إقليمية ساهمت في أحداث التغيير السياسي في سوريا بدافع الحفاظ على مصالحها وأهدافها في المنطقة، ولكنه تحدث بشكل غريب عن الدور الإيراني في سوريا مشيراً إلى أن إيران لم تخسر شيئًا وإنما ما حدث هو شأن داخلي يمكن للسوريين التعامل معه أو الوقوف ضده، وأن ما يتحدث به الآخرين عن وجود شركاء ووكلاء لإيران في المنطقة إنما هو بعيد عن الحقيقية الميدانية، وقال ( نحن لا نمتلك وكلاء أصلًا في المنطقة ولسنا بحاجة لهم)، وهذا يعني أن النظام الإيراني يحاول أن ينفي عن نفسه وعن جميع مؤسسات العسكرية والأمنية ما كان يحدث من تدخلات وتأثيرات إيرانية في المشهد السوري والتأثير على القرار السياسي للنظام السابق.
من المستغرب أن يتحدث المرشد علي خامنئي بهذا الأسلوب والمنطق وهو يدرك حقيقة النهج والسلوك الإيراني في التعامل مع الأوضاع الميدانية لعديد من العواصم العربية التي اجتاحتها أدوات المشروع السياسي الإيراني وبدأت بالتغلل والنفوذ في جميع مؤسساتها وهياكلها التنظيمية.
وفات المرشد ما سبق وأن قاله في كانون الأول 2022 من ( أن العمق الاستراتيجي لإيران هي العراق وسوريا ولبنان) وهي المبادئ التي قام عليها المشروع الإيراني عبر العديد من التدخلات السياسية والأمنية للقيادات الميدانية في فيلق القدس والحرس الثوري الإيراني والتي تتلقى الدعم والتأييد من المرشد خامنئي.
ولا يمكن لأي متابع للاستراتيحية الإيرانية في الشرق الأوسط إلا أن ينظر بدقة إلى ما كان متداول في الأوساط السياسية الإيرانية من أن التأثير على شعوب أخرى يعتبر احد اركان القوة الإيرانية الوطنية وأنها تمثل عمقًا استراتيجياً لطهران، هذا هو المفهوم الذي يحاول خامنئي أن يتغاضى عنه في هذه الأيام بعد المتغيرات التي أصابت الشرق الأوسط والوطن العربي وطبيعة الأهداف الدولية المحيطة بالمنطقة والتي جعلت من النظام الإيراني أن يستخدم مفهومًا ميدانيًا أطلقه المرشد الأعلى علي خامنئي وعبر عنه ب (سياسية التراجع البطولي) وهي التي تقوم على الانكفاء الداخلي والحفاظ على قبضة النظام وادامة الهيمنة والسيطرة على الأوضاع الداخلية والابتعاد عن سياسية التعنت وإظهار القوة.
أن طبيعة العقيدة الإيرانية أنها قائمة على التمسك بالمنهج الذي تحدث به الخميني واقرته مبادئ و بنود الدستور الإيراني، وهو ما تعبر عنه دائماً القيادات الدينية والسياسية الإيرانية ومنها المرشد خامنئي الذي أعلن في آيلول 2011 الجهاد لدعم وبقاء نظام بشار الأسد في مواجهة فصائل وقوات المعارضة السورية ورأى في بقاء النظام ضمان لمصالح إيران الإقليمية، فاعطى الصلاحية العسكرية لقيادات الحرس الثوري بتجميع عناصر المليشيات المسلحة الأفغانية والباكستانية والعراقية المدعومة من قبل فيلق القدس للقتال في الميدان السوري، وهذا ما تحقق بشكل فاعل ومتطور عندما أعلن قائد الحرس الثوري الإيراني محمد علي الجعفري في نيسان 2015 ان إيران قد تمكنت من تشكيل (100) ألف من القوات الشعبية المسلحة المؤيدة للنظام السوري ضد المعارضة السورية.
أن القول الذي استشهد به خامنئي بعدم وجود وكلاء لنظامها السياسي الإستخباري الإيراني في المنطقة ينافي حقيقة ما قاله في الخامس من كانون الثاني 2017 عند لقائه بمجموعة من العوائل الإيرانية التي قتل أبنائها في الساحة السورية وأشارته إلى ( أن الذين لقوا مصرعهم في سوريا سقطوا من أجل أن لا تحارب إيران داخل حدودها)، هذه هي الرؤية الثابتة والسياسة المتبعة لاستمرار النظام الإيراني في منهجه وتنفيذ مشروعه السياسي في التوسع والنفوذ.
وهناك حديث لمسؤول مقر عمار الاستراتيجي لمكافحة الحرب الناعمة ضد إيران ( مهدي طائب) في 15 شباط 2013 يقول فيه ( لو خسرنا سوريا لا يمكن أن نحتفظ بطهران، ولكن لو خسرنا أقليم الأهواز سنستعيده ما دمنا نحتفظ بسوريا)، فهل حقيقة أن إيران لم تخسر شيئًا بسقوط بشار الأسد كما يدعي خامنئي؟.
ويرى ( مهدي طائب) أن سوريا تمثل المحافظة 35 لإيران بسبب أهميتها الاستراتيجية وموقعها الجغرافي للأهداف والغايات السياسية والعسكرية الإيرانية ( فإذا هاجمَنا العدو بغية احتلال سوريا أو الأهواز، فالأولى بنا أن نحتفظ بسوريا)، أين القيادة الإيرانية من هذا القول وهل تمكنت من الحفاظ على حليفها الأسد أم تركته يلاقي مصيره ويتأخذ قراره بالهروب لموسكو؟.
تبقى العوامل الذاتية الإيرانية هي الفاعل الأهم في تسير السياسة الإيرانية وفق غاياتها وأهدافها بعيدًا عن حلفائها والدفاع عنهم أو وكلائها والتنكر لهم.
وحدة الدراسات الإيرانية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجة