الكتابة والتحليل والتقييم لحادث كبير وساخن في العلاقات السياسية الداخلية أو الدولية، بينما لا يزال جاريًا ومتصاعدًا، فيها قدر غير قليل من المغامرة والمشي على رمال ساخنة. أما إذا ذهب الأمر من التقرير والتفسير إلى التدبير والسياسات، فإن المسألة تصبح جنونًا بعينه. ولكن المسألة – وبصراحة – لا تتحمل الانتظار، فما جرى مؤخرًا في العلاقات السعودية – الإيرانية منذ الثاني من يناير (كانون الثاني) وإعدام الرياض 47 من الإرهابيين والضالعين في الإرهاب، ورد الفعل الإيراني بخرق كل القواعد الدولية المتعلقة بحماية البعثات الدبلوماسية بالاعتداء البشع على السفارة السعودية في طهران، والقنصلية السعودية في مشهد، قفز بالعلاقات إلى مقدمة المشهد المزدحم بالأزمات في الشرق الأوسط.
هناك أربعة أبعاد للموقف لا يمكن تجاهل أي منها: أولها إن المملكة العربية السعودية هي دولة ذات سيادة، ومن حقها تمامًا أن تتخذ الخطوات التي تراها واجبة من أجل حماية أمنها القومي. وثانيها: إنه لا يوجد في الإجراء السعودي ما يشير إلى تحيز طائفي، فتنفيذ الأحكام جرى على السُّنة قبل الشيعة. وثالثها: أيًّا ما كانت الأعداد (43 سُنة و4 شيعة) فلا يوجد ما يمنح إيران، أو المتظاهرين فيها (لا توجد مظاهرات عفوية في إيران)، حقوقًا لتمثيل الشيعة أو للتحدث باسم المذهب الشيعي. والثابت أن ما ذهبت إليه إيران من اعتقاد في «ولاية الفقيه» هي من المستحدثات الإيرانية، التي لا يشاركها فيها إلا التابعون ماليًا وتسليحيًا من الشيعة. ورابعها: إن إيران بغض النظر عن المذاهب والآيديولوجيات لها طبيعة إمبريالية توسعية منذ التاريخ القديم وحتى العصر الحديث. وبشكل ما، فإن إيران فيها الكثير من ملامح الدولة الروسية التي توسعت شرقًا وغربًا، وأمدتها الآيديولوجية الشيوعية بالمدد المذهبي لكي تصعد وتدعم هذا التوسع. هذه المرة جاء المدد من المذهب الشيعي على الطريقة «الخُمينية».
هذه الأبعاد الأربعة تزداد عمقًا وحدّة عند رسم السياسات عندما نوقعها على الأوضاع القائمة في الشرق الأوسط حتى اليوم الأول من يناير الحالي، أي قبل توالي الأحداث المرتبطة بالعلاقات السعودية (والعربية أيضًا) – الإيرانية. فلم تكن المنطقة فقاعة كبيرة فارغة من الأحداث، بل كانت، ولا تزال، في حالة مشتعلة منذ بداية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، وحتى الآن. لقد سبق لنا أن أوضحنا ثلاثة أسباب لما جرى خلال السنوات الخمس الماضية: نشوب ما عُرف بالربيع العربي، والانسحاب الأميركي من الشرق الأوسط، والسلوك الإيراني في المنطقة والواضح وضوح الشمس من تصريحات إيرانية إمبريالية واضحة، واستخدام أدوات شيعية لتوسيع نطاق نفوذها الجيو – استراتيجي في المنطقة كما هو واضح في العراق وسوريا واليمن ولبنان. وكان الاتفاق النووي مع مجموعة 5+1 هو في حقيقته من ناحية إيران إعطاء طهران فسحة من الوقت لالتقاط الأنفاس، والوجود الأكثر كثافة في مشكلات ومعضلات المنطقة.
ولكن إيران لم تكن وحدها هي الفاعل الوحيد في أحداث المنطقة، فالدول العربية، وخاصة المملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي، عملت هي الأخرى على إحباط الحركة الإيرانية. ولا يمكن فهم المساعدات الكبيرة التي وجهتها المملكة وحلفاؤها إلى مصر وتونس والأردن وبقية دول «الربيع» إلا جهدًا سياسيًا ودبلوماسيًا واقتصاديًا لإعادة الاستقرار إلى المنطقة مرة أخرى وحرمان إيران وغيرها من فرص لا تظهر إلا في لحظات الفوضى. هذه السياسة حققت نجاحًا ملموسًا في مصر وتونس والأردن والبحرين، ولا تزال جارية التأثير في سوريا واليمن. وبينما كانت مواجهة الآثار السلبية لـ«الربيع» جارية، فإن السعودية ودول الخليج كانت على استعداد لاستخدام القوة المسلحة، سواء في سوريا أو العراق أو اليمن أو البحرين؛ ومن ثم وجود العامل العربي المستعد لملء الفراغ الذي نجم عن الانسحاب والتردد الأميركي في المنطقة. هذه السياسة حققت نجاحات ملموسة في اليمن، وتجاه «داعش» فإنها وفقًا لتقارير دولية كثيرة فقدت نحو 40 في المائة من قوتها. مواجهة إيران سارت في اتجاه منع حزب الله بالتحالف مع النظام السوري من تدمير المعارضة الوطنية السورية؛ واستعادة القيادة الشرعية اليمنية لموقعها داخل اليمن مع التراجع المستمر للحوثيين في اتجاه الشمال.
الحادث الجديد إذن يأتي وسط صراع جارٍ في المنطقة بالفعل، وهو على أهميته لا ينبغي أن يحرف الأهداف الاستراتيجية العربية عن توجهاتها الرئيسية في عودة الاستقرار للمنطقة، واستعادة الدولة الوطنية لمكانتها، وحماية المنطقة من النفوذ الإيراني. تحقيق ذلك يحتاج قدرًا كبيرًا من الحكمة والرؤوس الباردة، بحيث لا يكون هناك استدراج إلى معارك تكتيكية عوضًا عن المعارك الاستراتيجية. ببساطة، لا ينبغي السماح لإيران بوضع قصة الصراع في الشرق الأوسط على أنه صراع بين السعودية وإيران من ناحية، وبين السنة والشيعة من ناحية أخرى. هذه القصة للأسف باتت هي القصة الذائعة في الإعلام العالمي، والأميركي خاصة، وهي السائدة في مراكز البحث والتفكير في واشنطن، ولندن. هذه القصة تعطي لإيران دورًا قياديًا في المنطقة، كما أنها تجعلها الممثل السياسي والديني للشيعة.
قصتنا نحن العرب هي الاستقرار والتنمية وبناء ما انهار، والتعاون سواء كان إقليميًا أو دوليًا للتخلص من آفة الإرهابن من أجل الحفاظ على الدولة الوطنية من الانهيار، وبناء ما انهار منها بالفعل.
سيادة القصة العربية هي مقدمة السياسات التي يحددها دائمًا «تعريف الموقف»، ومن ثم فإن وضع أولوية مواجهة الإرهاب بوضوح (سوريا والعراق)، ومنع تفكيك الدولة الوطنية (سوريا والعراق واليمن وليبيا)، وإقامة نظام جديد قائم على المساواة والمواطنة، لن يحل فقط معضلة الشيعة العرب (ومعهم العلويون والدروز والإيزيدون والحوثيون)، وإنما أيضًا الأقليات السنية مثل الأكراد. ومن هنا فإن التحالف الإسلامي الذي أعلنته السعودية، وسبق لنا مناقشته، قد يكون هو المشروع الذي من أجله تكون المواجهة وحتى القتال إذا لزم الأمر. إيران لا تستطيع المنافسة مع هذا المشروع لأنها دولة «الملالي»، أي دولة ثيوقراطية حتى النخاع، إلى الدرجة التي تظن أن حماية نفسها من التفكيك والتقسيم، لا تأتي إلا من خلال تفكيك وتقسيم المنطقة العربية كلها.
القصة والمشروع هكذا هما رأس الحربة في السياسة العربية تجاه إيران، وما بعد ذلك تفاصيل، ولكنها تفاصيل تحتاج إلى الكثير من الصبر والحكمة وتجنب الاستدراج، ومعرفة كيف نكسب العالم ونضيف حلفاء ونستبعد أعداء. باختصار، لا نجعل الشجرة الوحيدة تمنع رؤيتنا للغابة الكبيرة خلفها، فإذا ما رأيناها وكانت الحقيقة واضحة اندفعنا بحزم وعزم انطلاقًا من تحالف عربي قوي. هنا مربط الفرس، فما جرى في منطقتنا كانت ترجمته اختلالاً كبيرًا في توازن القوى، أعطى لإيران وغيرها فرصًا لم تكن لتحصل عليها لولا هذا الاختلال، ولا يمكن تصحيح هذا الخلل، إلا بهذا التحالف الذي علينا أن نعرف منذ البداية أن إدارة التحالفات الدولية، ربما لا تقل صعوبة عن إدارة الصراعات الدولية. وللأمر تفاصيل كثيرة، ولكن التعامل معها ضروري ومهم لمن بيدهم الأمر والقرار.
عبدالمنعم سعيد
صحيفة الشرق الأوسط