كيف أوجد أوباما فراغًا في الشرق الأوسط

كيف أوجد أوباما فراغًا في الشرق الأوسط

أوباما والشرق الأوسط

قلةٌ من القضايا طرحت أمام الرئيس أوباما معضلةً أصعب من المعضلة السورية. فقد أتيحت للرئيس على مدى الأعوام الخمسة تقريبًا للحرب السورية الداخلية عدة خيارات حول طريقة الرد الأمريكية ولكنه آثر في كل مرة الاكتفاء بالحد الأدنى. فمنذ البداية، حين ردّ الرئيس بشار الأسد على دعوات الإصلاح بالقسوة والتشدد لتتحول بذلك التظاهرات السلمية إلى انتفاضة، كان التلافي هو الرد الغريزي الأول للرئيس أوباما، إذ أنه نظر إلى سوريا ورأى فيها سبيلًا للتورط في صراع متواصل آخر في الشرق الأوسط حيث سيكون تورطنا مكلفًا ولا يوصل إلى شيء لا بل قد يزيد الطين بلة. وقد كان له سؤالٌ واحد في كل الاجتماعات تقريبًا التي انعقدت حول سوريا وطرحت فيها عليه الخيارات الممكنة للتأثير على الحرب الأهلية السورية، ألا وهو: “أخبروني ما سيؤول إليه في النهاية هذا الخيار”.

والرئيس محقٌّ حتمًا في سؤاله هذا، لكنه أغفل طرح السؤال الملازم له، وهو: أخبروني ما سيحدث إذا لم نتصرف؟ لو أنه عرف أن الامتناع عن التصرف سيوجد فراغًا تقع فيه كارثة إنسانية وأزمة لجوء مروعة وحرب بالوكالة متفاقمة ويتنامى فيه تنظيم «الدولة الإسلامية» («داعش») في العراق وسوريا، لربما كانت ردوده لتختلف. مع ذلك، كان من الصعب عليه طرح ذاك السؤال لأنه حين نظر إلى سوريا رأى فيها العراق.

وليس ذلك بالمستغرب منه نظرًا للتبعات المؤلمة التي خلّفتها الحرب في العراق. فالعراق بنظره خطأ فادح. وقد ترشح ضد هذا المسار، وانتُخب ليخرجنا من حروب الشرق الأوسط لا ليدخلنا فيها. ولكن هل حالة سوريا هي نفسها حالة العراق؟ بصفتي شخصًا اعتقد (خطًا) أن صدام حسين كان يملك أسلحة دمار شامل، ارتكبت خطأ دعم الحرب العراقية. ويفترض حتمًا بمناصري الحرب الآخرين أن يكون مستعدين للاعتراف الآن بأنه كان من الخاطئ السعي إلى تغيير النظام بدون استيعاب الفراغ الذي قد نحدثه بفعل هذا التغيير، وكان من الخاطئ الدخول في حرب بدون خطة جدية ومدروسة بعناية لما يلزم من أجل إحداث انتقال معقول، بما يتضمنه ذلك من قوات برية على الأرض – من الجيش والشرطة ككل – لازمة لضمان الأمن وسبل إرساء الحكم؛ وكان من الخاطئ لنا أن نتولى إدارة العراق ونصبح رمزًا للاحتلال عوض تكليف الأمم المتحدة بمهام الإدارة الانتقالية؛ وكان من الخاطئ الدخول في الحرب بدون التفكير مليًا بعواقب إطلاق العنان للصراع الشيعي – السني، هذا الصراع الذي قد لا ينحصر بالعراق فقط.

ولكن لطالما كانت مسألة سوريا مختلفة. فهي ليست عبارة عن اجتياح أمريكي لدولة ما، إنما هي انتفاضة داخلية ضد قائد مستبد. وقد عمد الأسد إلى جعلها صراعًا طائفيًا معتقدًا أنه لن يتخطاها إلا إذا اعتبر العلويين وغيرهم من الأقليات أن بقاءهم من بقاء الأسد. ولكنها سرعان ما تحولت بعد ذلك إلى حرب بالوكالة تقف فيها المملكة العربية السعودية وتركيا إلى حد كبير ضد إيران. لم يحدث الفراغ بسبب استبدالنا لنظام الأسد بل بسبب ترددنا في فعل ما هو أكثر من التصريحات – فعليًا بسبب إفراطنا في تعلم الدروس من العراق. وإذا بهذا الفراغ يُملأ من أطراف أخرى، هي إيران و«حزب الله» والمليشيات الأخرى العاملة بوكالة إيرانية من جهة، والمملكة العربية السعودية وتركيا وقطر من جهة أخرى، بالإضافة إلى «تنظيم الدولة الإسلامية». وما لم تتخذ الولايات المتحدة الآن خطوات إضافية لسد هذا الفراغ، سيخرج الوضع عن السيطرة بشكل أكبر.

والواقع أن الفراغ الحاصل في سوريا قد تفاقم من عدة نواحٍ بسبب الإحساس بتقلص دور الولايات المتحدة في المنطقة، ما أوجد فراغًا أكبر فتح المجال أمام نشوء المنافسة المتزايدة بين إيران والسعودية. إذ اعتبر الإيرانيون أن الولايات المتحدة لا تشكل خطرًا يذكر عليهم فيما رفعوا درجة أعمالهم القائمة على مذهب الفعّالية  في المنطقة ومنحوا «فيلق القدس» – الذراع العملياتي للحرس الثوري الإيراني خارج إيران – دورًا أبرز في الصراعين السوري والعراقي. وبالفعل فإن قائد «فيلق القدس» قاسم سليماني الذي كان في السابق شخصية غامضة، بات اليوم شخصًا ذا حضور علني كبير حيث يظهر أحيانًا في الميدان خلال المعارك الدائرة على تكريت في العراق والقصير في سوريا وغيرها من المناطق في كلا البلدين. أما السعوديون فقد وجدوا في الاتفاق النووي والتدخل الإيراني الأوسع في المنطقة مبررًا للفكرة التي يملكونها بأن إدارة أوباما ليست جاهزة لفرض أي حدود فعلية على إيران – أو التصرف على أساس خطوطها الحمراء. بالنتيجة، قررت السعودية رسم خطوطها الخاصة، وهذا ما فعلته في اليمن، مع العلم بأنه سيكون صعبًا عليها على الأرجح أن تخرج نفسها من هذا الوضع. لعل السعودية قامت بإعدام رجل الدين الشيعي نمر النمر لأسباب محلية، وخصوصًا بالنظر إلى عدد العناصر السنّة التابعين لتنظيم «القاعدة» الذين أعدموا في الوقت نفسه، لكن السعودية كانت تعلم أن إيران ستأتيها بالرد، فهذه الأخيرة كانت قد توعدت السعوديين بالعقاب إذا ما أقدموا على إعدامه.

والأرجح أن المنافسة السعودية – الإيرانية لن تتصاعد لتصل إلى صراع مباشر، ولكنها ستدفع الطرفين إلى النظر إلى الحروب الجارية بالوكالة كحروب لا ربح فيها ولا خسارة. وسيكون حتمًا من الصعب على كليهما القبول بالتراجع في سوريا، ما سيعقّد الآمال التي تعقدها الإدارة الأمريكية باستخدام المساعي الدبلوماسية في فيينا من أجل “إرساء السلام والأمن في سوريا” على حدّ تعبيرها. وحتى لو لم يكن الانقسام المتعاظم بين السعودية وإيران موجودًا، لما كانت حظوظ مساعي فيينا كبيرة، وهي على أي حال تعتمد اعتمادًا أكبر على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين: فهو القادر على إرغام نظام الأسد على الالتزام باتفاق وقف إطلاق النار، وإيقاف البراميل المتفجرة، والسماح بإنشاء ممرات إنسانية لإيصال الغذاء والدواء إلى المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة من غير تنظيم «داعش». في هذه الظروف فقط سيكون بالإمكان دفع السعوديين والأتراك وغيرهم ممن يدعمون المعارضة إلى إقناع قوات الثوار بتطبيق اتفاق وقف إطلاق النار – وهو الشرط الأساسي لتحقيق أي إنجاز من خلال مباحثات فيينا، وعنصر جوهري في استراتيجية أوباما للقضاء على «داعش». في الواقع، في غياب أي اتفاق فعلي لوقف إطلاق النار بين نظام الأسد وقوات المعارضة من غير «داعش» في سوريا، لن تنضمّ الدول والعشائر السنية فعليًا إلى الحرب ضد «داعش». (ليس لأي سبب آخر سوى أن يبيّنوا أن الهجوم ضد السنة في سوريا قد توقف وأنهم نجحوا في حمايتهم).

في حين يرى الرئيس أوباما سوريا كمأزق، لا يشاركه بوتين حاليًا النظرة نفسها. إذ لا يزال يعتقد أن تحقيق مآربه في الحرب أهم من ضمان نجاح مباحثات فيينا في هذه المرحلة. علاوةً على ذلك، بينما يعتبر الرئيس الأمريكي أن بوتين لن يرغب في تكرار أخطاء أفغانستان وأنه سيتبيّن في مرحلة ما الحاجة إلى إخراج روسيا من سوريا، لا يبدي بوتين ما يدل على أن قراءته للتدخل الروسي في أفغانستان تشكل أي رادع أمامه – ربما لأنه يعلم أنه لا ينوي نشر قوة برية كبيرة على النحو نفسه وربما أيضًا لأنه يعتقد أننا لن نكبّده تكاليف أكبر بكل بساطة. وصحيحٌ أن التاريخ قد يكون حافزًا له، لكن ما يحرك بوتين هو حاجته للتعويض عن فترة الضعف الروسي والتفوق الأمريكي؛ فهو يريد أن يثبت أن روسيا قوة عظمى وكلمتها مسموعة في الأحداث. من هنا يرى في تقلص الدور الأمريكي والفراغ الناتج عن ذلك فرصةً لإعادة تأكيد النفوذ الروسي في الشرق الأوسط.

بالنسبة للرئيس أوباما، لا تزال التجربة العراقية تلقي بظلالها على حساباته. فهو، شأنه شأن الرؤساء الذين سبقوه، يسترشد بقراءته للحالات المشابهة. ولا ضير في ذلك بتاتًا، شرط أن يكون التشابه صائبًا.

فالرؤساء ومستشاروهم يستعينون بالتشابهات لصياغة الأحكام، خصوصًا حين يواجهون خيارات صعبة تستلزم التدخل. بالنسبة للرئيس ليندون جونسون، كانت “ميونخ” هي الحالة المشابهة التي قادته إلى الكارثة في فيتنام: فإذا لم نضع حدًّا للشيوعيين هناك – إذا “استعطفناهم” هناك – سنواجه تهديدًا أكبر وأخطر في ما بعد. في العالم الثنائي القطبين الذي كان سائدًا خلال الحرب الباردة، كانت حالة “ميونخ” قوية وأعمت أبصار الرئيس جونسون ومَن حوله عن حقيقة أن الشيوعة ليست موحدة، وأن السوفيتيين والصينيين كانوا خصومًا، وأن الحرب في فيتنام كانت حربًا قومية. حتى الرئيس جورج هـ. و. بوش استرشد بهذا المرجع التاريخي حين ردّ على صدام حسين سنة 1990. وبالفعل سمعتُه يستخدم تشبيه “ميونخ” خلال اجتماعات المكتب البيضاوي فيما كنا نعبّئ العالم ضد الزعيم العراقي بعد احتلاله الكويت؛ فقد اعتبر بوش الأب أنه لا يمكننا السكوت عن مثل ذلك الاعتداء خوفًا من أن يحل قانون الغاب محل آماله بنظام عالمي جديد في أعقاب الحرب الباردة. ولعل الرئيس بوش استعان بهذا التشبيه، لكنه وضع كذلك هدفًا محددًا وواضحًا هو دحر الاعتداء على الكويت وعدم التسبب بتغيير النظام في العراق. وقد كانت الأساليب المتبعة مطابقة للهدف المعلن.

لا مهرب من استخدام التشابهات، ولكن يجب على هذه التشابهات أن تجسّد دروسًا حقيقية. والحقيقة هي أننا لم نجرِ في هذا البلد أي مناقشة جدية حول الدروس المستقاة من الحرب العراقية. فمنتقدو الحرب لم يقرّوا يومًا بوجود ما يدعو للنقاش، لا بل اعتبروا أن مناصري تلك الحرب كانوا مضللين في الأساس. أما مؤيدو الحرب فكانوا منهمكين بالدفاع عن موقفهم إلى حد أنهم ترددوا في الإقرار بما أخطأوا به وكيف كان يمكن التصرف بشكل مغاير.

لا بد لتجربة الفشل العراقي أن تقسّينا، إنما لا يجدر بنا الإفراط في استخلاص الدروس من الحرب وإساءة تطبيقها. فليست كل النزاعات في الشرق الأوسط نسخة عن العراق – ولا ينبغي أن تنحصر خيارات الرد لدينا إما بالامتناع عن التصرف أو بنشر أعداد هائلة من الجنود على الأرض.

قد لا يسهل إيجاد الحل الوسط حيث لا نفرط في التدخل كما حصل في العراق ولا نحدّ من تدخلاتنا ما دون اللزوم كما هي الحال في سوريا، ولكن إلى حين إقامة نقاش جدي حول العراق (وسوريا بالقدر ذاته من الأهمية) والتفكير في ما يجب تعلّمه من هذه الصراعات، سنظل نتخبط ونستخدم التشابهات المغلوطة ونصدر الأحكام الخاطئة. من هنا، قد يفيدنا وضع مبادئ توجيهية للتدابير العسكرية التي قد نكون مستعدين لاتخاذها – على غرار الاستعداد لنشر قوات على الأرض، بما في ذلك نشر فرق الاستطلاع لتوجيه الضربات الجوية، وإدخال القوات في صفوف الشركاء المحليين، ربما وصولًا إلى مستوى الكتائب، بالإضافة إلى استخدام عناصر العمليات الخاصة في الغارات القائمة على مبدأ الهجوم والانسحاب المتتاليين، فهذه الأمور قد تساعدنا في إدارة تدخلنا مع تفادي خطر تدهور الوضع الذي يخشاه الرئيس الأمريكي.

وبالطبع لا بد من أن تنطلق هذه المبادئ التوجيهية من أسئلة صعبة يجب أن نطرحها أولًا في كل حالة عن رهاناتنا وعمّا إذا كان يجدر بنا التصرف أم لا، وبأي أشكال نتصرف. من الواضح أنه من الأفضل لا بل من الضروري أن يتحمل شركاؤنا المحليون مسؤولية كبرى في صراعات الشرق الأوسط، والرئيس أوباما محقٌّ في هذا الصدد. لكن يجدر بنا أيضًا أن نعلم العوامل التي تولد منها هذه الصراعات – من قد يقاتل فعليًا، وأين، وما هي حوافزهم، وما الذي قد يحتاجونه منّا، وما إذا كانوا يعتقدون أننا سنقف إلى جانبهم، وما إذا كان لنا أو لغيرنا تأثيرٌ عليهم. في كل حالة، يجب علينا تقييم نطاق الخيارات العسكرية المتاحة أمامنا. علينا أن نحذر ممّا يسميه البنتاغون “تمادي المهمة إلى ما بعد أهدافها الأصلية”، وهو أمر يمكننا تجنبه بدرجة أكبر إذا حذونا حذو جورج و. بوش وحددنا أهدافنا بشكل واضح منذ البداية وحرصنا على انسجامها مع الأساليب التي نحن مستعدون لاستخدامها.

في زمنٍ يسود فيه إجماعٌ عام على الحاجة إلى مكافحة «داعش» إنما يغيب فيه الإجماع حول كيفية مكافحته، تشكّل التبعات العراقية ودروسها المشكلة الجلية التي نتحاشاها. لذلك فإن مواجهتها وإقامة نقاش مفتوح حولها – لا سيما في سنة الانتخابات – قد يمثلان عنصرًا ضروريًا من العناصر اللازمة لوضع استراتيجية مجدية، لا بل قد يكونان أيضًا جوهريين لنبين للأطراف داخل المنطقة وخارجها أن تبعاتها لن تقمعنا بعد اليوم.

دينيس روس

معهد واشنطن