ألقى الرئيس الأميركي باراك أوباما، الثلاثاء الماضي، خطابه الأخير عن حال الاتحاد، وحظي الخطاب باهتمام إعلامي كبير، إذ استخدمه الرجل فرصة ليعدد إنجازاته، وكانت كثيرة على الصعيد الداخلي (صحة، تعليم، فرص عمل أكثر، نمو اقتصادي أفضل، اعتماد أقل على واردات النفط من الخارج وغيرها). أما في حقل السياسة الخارجية، فلم يجد أوباما، إذا أغفلنا مسألة استئناف العلاقات الدبلوماسية مع كوبا، إلا إنجازاً يتيماً أطنب في تأكيد أهميته، وهو نجاحه في “نزع أسنان” إيران النووية.
والحق أن انتخاب هذا الرئيس الليبرالي المفوّه، أسمر البشرة، “عدو” الحروب، وحامل لواء الدفاع عن حقوق الإنسان وقيم العدالة الاجتماعية، شكل صدمة إيجابية، سرى صداها في أنحاء العالم، والمنطقة العربية ضمناً. وقد جاء الرجل إلى البيت الأبيض، والأمل يحدو الجميع في أن سياساته سوف تشكل قطعاً مع سياسات سلفه الذي أنهك المنطقة العربية بأجندته الخارجية المتطرفة، وهزّ أركان النظام الإقليمي بغزوه العراق وتحطيمه، وأعلن حرباً عالمية على الإرهاب، كانت في حقيقتها حرباً على العرب والمسلمين، وساند إسرائيل حتى خشي بعض الإسرائيليين من فرط حبه لهم. لكن الرئيس، الذي نفذ أجندة المحافظين الجدد الذين سيطروا على مفاصل إدارته الأولى، بأمانة ودقة، لم يتمكّن لا من بناء ديموقراطية في العراق، كما زعم، ولا من الحد من انتشار التطرف الذي طارده في العالم، ولا في تنفيذ خريطة الطريق التي وعد أنها ستفضي إلى حل الدولتين في فلسطين في يونيو/حزيران 2005.
جاء أوباما إذاً لتصحيح ما عدّه أخطاء كارثية، ارتكبتها إدارة سلفه، فوعد، من بين أشياء أخرى كثيرة، بالانسحاب من العراق، وأنهى استخدام “كليشة” الحرب على الإرهاب، وتعهد باحترام حقوق الإنسان حول العالم، وإغلاق معسكر غوانتانامو، وحاول إعادة بناء الجسور مع العالم الإسلامي فزار القاهرة، وألقى كلمة في جامعتها في يونيو/حزيران 2009، عبّر فيها عن رغبته في طي صفحة التوتر الذي ميز العلاقة مع سلفه، كما قام بزيارة تاريخية لاسطنبول التي شكلت محطته الخارجية الأولى خارج العالم الغربي، حاول فيها استعادة ثقة حليف استراتيجي، عمدت إدارة بوش إلى معاقبته، لرفضه السماح باستخدام أراضيه في غزو العراق. وعيّن أوباما الجنرال جيمس جونز (عدته إسرائيل خصمها الأبرز في واشنطن) مستشاراً للأمن القومي، بعد أن أصدر تقريراً دان فيه إسرائيل، عندما ترأس في عهد بوش الابن لجنة للتحقيق في نشاطات الاستيطان في الأراضي العربية المحتلة.
لكن الشرق الأوسط لم يكن ليترك أوباما، من دون أن يخضع وعوده ومواقفه الكلامية لاختبار جدّي، وكان الربيع العربي ذلك الاختبار. تفاجأ الرئيس أوباما وأركان إدارته، كما كثيرون، باندلاع الثورات العربية، وارتبكوا أمامها أيما ارتباك، كيف يكون هذا وخبراء الغرب من المستشرقين وأشباههم ما فتئوا يؤكدون منذ القرن التاسع عشر (إرنست رينان) وحتى اليوم (برنارد لويس واتباعه) أن المنطقة العربية عصية على الثورة والديموقراطية لأسبابٍ مرتبطة بعوامل بنيوية، كالثقافة، والدين والمعتقد والبنية الفكرية. وكان الرئيس أوباما مقتنعاً، كما تبيّن، بهذه المقولات حول عبثية محاولة دمقرطة المنطقة، وما زيارته إلى القاهرة عام 2009 سوى سلوك اعتذاري عن محاولات سلفه فرض الديموقراطية على مجتمعاتٍ، ليس فيها ديموقراطيون، ولا ثقافة ديمقراطية. لذلك، عندما أطل أوباما من جامعة القاهرة، كان، في حقيقة الأمر، يعتذر من الاستبداد العربي، الذي تبين له أنه “محق” في مقولته إن الشعوب العربية تمثل حالة استثنائية، لا تنفع معها الحرية والديموقراطية.
من هنا، ارتبك أوباما وفريقه عندما انطلق قطار التغيير في تونس، لكن الارتباك الأكبر حصل
عندما وصل القطار إلى محطة القاهرة. عندها، انقسمت الإدارة على نفسها بين من يجادل بضرورة تأييد التغيير، حتى لا يتكرّر درس الثورة الإيرانية، عندما خسرت واشنطن، لتأخرها في التخلي عن الشاه، حليفاً بحجم إيران، وبين من يجادل بإمكانية احتواء الموقف ببعض الإصلاحات. في النهاية، انتصرت الفكرة الداعية إلى مراقبة الوضع عن كثب، والتصرف بناء على التطورات الجارية، وهو ما حصل، عندما تبينت استحالة إنقاذ حسني مبارك. كذلك فعلت إدارة أوباما مع انطلاق الثورة المضادة، راقبت الأوضاع على الأرض، وتصرفت بناء عليه، فواشنطن، في النهاية، مع من يحكم، بغض النظر عن طريقة وصوله إلى الحكم. وبغض النظر عن كل التفاصيل، شكل موقف أوباما الانتهازي في مصر، وصمته على انقلاب 3 يوليو/تموز 2013، ضربة قاصمة للحلم الديمقراطي العربي.
في سورية، لم يكن أوباما أبداً في وارد تأييد الثورة، ولم يتخذ موقفاً ذا شأن حتى أغسطس/ آب 2011، عندما طالب بشار الأسد بالتنحي، قبل أن يبدأ بالتراجع تدريجياً عن ذلك. أصر على مشاهدة المأساة السورية تتوالى فصولاً خمس سنوات متتالية، رفض في أثنائها فعل أي شيء، مخالفاً بذلك رأي أكثر مساعديه ومستشاريه.
ضحّى أوباما بمئات الألوف من السوريين، فقط ليقف أمام الكونغرس، كما فعل الثلاثاء الماضي، ليباهي بإنجازه العظيم حول اتفاق نووي، استدعى التوصل إليه عدم إزعاج آلة القتل الإيرانية، وهي تلوغ في دماء الشعب السوري، كما استدعى أن يعمي أوباما بصره وبصيرته عن كل سياسات نوري المالكي الطائفية والإقصائية، موافقاً إيران على اختياره لولاية جديدة، على الرغم من أنه خسر انتخابات عام 2010، ومتجاهلاً اعتراضات كل الجيران. لقد أسهم أوباما بسياساته هذه في إنتاج “داعش” التي جاء ظهورها رداً على سياسات التغول الإيراني في الجسد العربي، والسياسات الطائفية لأتباعها في المنطقة.
أخيراً، إذا كان الرئيس بوش ارتكب جريمة كبرى بغزوه العراق وتدميره، فقد ارتكب أوباما جرائم كبرى عديدة: أولها، انسحابه من العراق بطريقة الهارب من الجذام، وتقديمه البلد لإيران على طبق من فضة. وثانيها، أنه قضى على سورية، بإصراره على عدم فعل شيء لوقف حمام الدماء فيها، إرضاء لإيران. وثالثها، أنه تفرج على إسرائيل، وهي تهدم قطاع غزة فوق رؤوس سكانه، مرتين في عامي 2012 و2014، وتخلى عن حلم الديمقراطية العربية في أكثر اللحظات حرجاً، تاركاً إياه يتحطم على يد العسكر. وهو يضغط الآن على السعودية للتسليم لإيران في اليمن. ويريد منا فوق ذلك كله أن نقاتل إلى جانبه، لدحر خصومه وخصوم إيران لأنهم إرهابيون، وإذا لم نفعل، فالتهمة جاهزة “متعاطفون مع الإرهاب”. إن حجم الدمار الذي سببه هذا الرئيس “الليبرالي”، الهادئ، المسالم يتجاوز بمراحل الأذى الذي تسبب به سلفه المحافظ الأخرق، عاشق القوة والحرب، فليرحل إذاً غير مأسوف عليه وعلى ليبراليته وخداعه الذي انطلى علينا.
مروان قبلان
صحيفة العربي الجديد