أسابيع قليلة، وتُصبح مفاوضات جنيف السوري خلفنا. القطار الأميركي ـ الروسي انطلق، وما على الجميع سوى الصعود على متنه، أو تعريض أنفسهم للدهس. هكذا أوحى وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، خلال اجتماعات أخيرة في السعودية مع المعارضة السورية، وهكذا تبدو الأمور من زاوية “الواقعية السياسية”. من الطبيعي أن تحدث بعض “المناوشات” في سبيل حفظ كرامة المعارضين المفاوضين، خصوصاً مع تخطي الولايات المتحدة، تحديداً، كل خطوطها الحمر السابقة، بدءاً من المطالبة برحيل الرئيس السوري بشار الأسد، وصولاً إلى الدعوة إلى تشكيل هيئة انتقالية، لا يكون للأسد مكان فيها. هكذا الولايات المتحدة: الأعمال أولاً.
بالطبع، لا يسأل الروسي والأميركي عن الدم المُراق، لا في سورية ولا في غيرها. المصالح فوق كل اعتبار. التجارب متعددة بعد الحرب الباردة (1947 ـ 1991)، من يوغوسلافيا السابقة وأفغانستان والعراق والشيشان وجورجيا وأوكرانيا. أوكرانيا التي نسيها الجميع ستُصبح محطة إعلامية أخرى قريباً، في مطلع الربيع، مع قرب انتهاء الموسم البارد أوروبياً، وإحياء الصراع السياسي، بفعل عدم الحاجة “الماسّة” للغاز الروسي، كما يكون الأمر عليه مطلع كل سبتمبر/أيلول من كل عام. إذ اعتاد الوسط الأوروبي، وخلفه أوكرانيا، على تهدئة الوضع مع روسيا بين سبتمبر والربيع من كل سنة، للحاجة الأوكرانية والأوروبية للغاز الروسي، على الرغم من العقوبات على موسكو. أما الضغط الفعلي على روسيا، فيكون بين الربيع وأشهر الصيف. الآن، وبوحي من “الدرس” السوري، ستدفع أوكرانيا أثماناً باهظة للاتفاق الروسي ـ الأميركي.
ستُكرّس روسيا “سيادتها” على شبه جزيرة القرم الأوكرانية، وهو ما لمّح إليه وزير خارجيتها، سيرغي لافروف، أخيراً. وهو ما سيعني أن أوكرانيا ستشهد أياماً صعبة، ولن تجد من يدعمها، لا الأميركيين ولا حلف الأطلسي ولا الأوروبيين، حتى لو اجتاح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، العاصمة كييف.
في حسابات الولايات المتحدة، أن الأدوار الأوكرانية والسورية انتهتا مع إقرار الاتفاق النووي مع إيران، وتحوّل روسيا إلى حليف ضمني، لحاجة موسكو إلى واشنطن في بعض المحطات. تناغم تبدّى في الملف السوري، وسيتمظهر في الملف العراقي والمسألة الكردية. أما في حسابات روسيا، فإن الولايات المتحدة “صديق” ضروري، لتحقيق طموح أحفاد القياصرة بتحوّلهم إلى أحد “أقطاب” العالم، لا إلى مجرّد “أتباع” فيه.
سيفضي التماهي الفعلي بين الروس والأميركيين إلى ترك أوكرانيا وحيدة، خصوصاً أن للأوروبيين مشاغلهم الخاصة، وهم وإن بدأوا بفتح قنوات استخباراتية سريّاً مع نظام الأسد، إلا أن ما يُقدمون عليهم يُشكّل نموذجاً لمرحلة مقبلة. يريد الأوروبيين اللحاق بالروس والأميركيين. لا يريدون المزايدة سورياً، ولا أوكرانياً. يرغبون في كسب الحدّ الأدنى من العملية السياسية الجارية، خوفاً من تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش)، والحدّ من تدفق اللاجئين من الشرق الأوسط. يعني هذا أن الرأي الأوروبي الموحّد غير موجود في الاتحاد الأوروبي، في ظلّ التفاهم الكبير بين ألمانيا وتركيا حول مسألة اللجوء، وتنامي علاقتهما تصاعدياً. لا ينعكس العمل الثنائي بين برلين وأنقرة، بطبيعة الحال، على باقي أوروبا، مع اختيار الفرنسيين والإيطاليين التفاهم مع إيران أخيراً، بينما تدوزن بريطانيا خطواتها بين إيران والسعودية.
لكن للأوروبيين ملفا شائكا سيدفعهم إلى الاتحاد العسكري: ليبيا. هناك المحك الأساسي للقوى العسكرية الأوروبية. بالنسبة إلى ألمانيا وإيطاليا وبريطانيا، يشكل منع “داعش” من التقدّم ليبياً، والتوسّع على الضفة المقابلة لأوروبا في البحر الأبيض المتوسط، هدفاً جوهرياً لـ”الحضارة الأوروبية”. الأمر أشبه بالحروب الرومانية ـ النوميدية في القرنين الثالث والثاني قبل الميلاد. وقتها روما انتصرت، أما النصر الأوروبي الجديد في ليبيا (نوميديا الجديدة)، فدونه عقبات.
وسط هذا كلّه، يختفي الحديث عن “جرائم بحق الإنسانية”، أو “مكافحة الجوع عبر فكّ الحصار عن المدنيين في سورية”، قدراً حتمياً لما يُسمّى “دول العالم الثالث”.
بيار عقيقي
صحيفة العربي الجديد