ما بين زيارة الرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي إلى باريس عام 1999 وزيارة الرئيس الإيراني الحالي حسن روحاني إليها هذا الأسبوع، طغى على العلاقات الثنائية التباعد وبرز ذلك في المفاوضات حول الاتفاق النووي وفي المواقف المتناقضة من الأزمات الإقليمية. إلا أن الواقعية السياسية تجعل الذاكرة قصيرة لأن إيران تريد فتح صفحة جديدة لتكريس دورها الإقليمي والدولي، ولأن باريس تريد حصتها من الكعكة الإيرانية في زمن الهرولة نحو الالدورادو الجديد.
عبر البسمة التي لا تفارق محيّاه والكلام المعسول والمنمّق، سعى حسن روحاني إلى تغيير صورة بلاده وبدأ ذلك في الفاتيكان عندما طلب من البابا فرنسيس أن يصلي لأجله، وفي روما حجبوا عن ناظري المعمم التماثيل العارية حتى لا يخدشوا حياءه وربما لم يفعل الجانب الإيطالي ذلك بناء على طلب إيراني بل تملّقا لبلد فيه ثمانون مليون مستهلك وتنظر إليه روما كشريك اقتصادي واعد خاصة أن علاقتها السياسية مع طهران لم تعكرها أزمات تذكر. أما مع فرنسا التي رفضت أن تتخلى عن بروتوكول تقديم النبيذ في المآدب الرسمية كي لا يشكل ذلك سابقة وتنازلا، فقد لاحظ أكثر من مراقب أنه مقابل كاريزما روحاني وتودده، بدا فرانسوا هولاند منغلقا وشبه متجهّم في حذر من هجمة السحر الروحانية.
بعد اتفاق فيينا، تتجه الجمهورية الإسلامية، نظريا، إلى التخفيف من نفوذ ولاية الفقيه المطلق، وهناك في أوروبا من يفترض أن روحاني سيصبح ميخائيل غورباتشوف أو دينغ هسياو بنغ إيراني، ولذا يتوجب الرهان عليه وفتح الأبواب أمامه لكي تصبح إيران الشريك العتيد. بيْد أن المحك على المدى المتوسط سيكون في قبول المرور من الثورة إلى الدولة، وإنفاق المليارات التي سيتم تحصيلها على التنمية لشعب طال انتظاره وليس على المغامرات الخارجية.
على درب العودة السياسية إلى أوروبا، تعتبر المحطة الباريسية حيوية بالنسبة إلى الجمهورية الإسلامية في مسألة إعادة بناء الثقة مع الغربيين، خاصة أن بين البلدين ما صنع الحداد. ألم تكن باريس “الشيطان الأصغر” بحسب تصنيف الإمام الخميني الذي استضافته فرنسا وانطلق منها قائدا للثورة؟ أليست فرنسا التي انحازت إلى العراق في الحرب ضد إيران.. وأليست طهران التي حركت خطف الرهائن وقتل الفرنسيين داخل باريس وخارجها.
بالرغم من هذه البدايات الصعبة والمواجهات التي بدأتها الجمهورية الإسلامية مع إعدام أمير عباس هويدي رئيس الحكومة السابق عند الشاه وآخر إيراني تقلد وسام الصليب الأكبر من جوقة الشرف الفرنسية، عادت العلاقات للإقلاع مع وصول محمد خاتمي إلى الرئاسة وكانت باريس أول من بادر في 2003 لإطلاق فكرة التفاوض من أجل حل الملف النووي الإيراني بشكل سلمي. لكن موقف باريس المتحفظ على أطروحات محمود أحمدي نجاد ومجاراتها الانتفاضة الخضراء في 2009، بالإضافة إلى التشدد في الملف النووي من نيكولا ساركوزي إلى لوران فابيوس، زاد من الفجوة السياسية وأتى النزاع السوري معطوفا على الوضع اللبناني ليعمّق الخلاف بين الطرفين.
لا شيء مستغرب في هذا المضمار. تاريخيا كان هناك إعجاب ثقافي متبادل امتد من حافظ وعمر الخيام إلى “الرسائل الفارسية” لمونتسكيو، حتى حقبة هنري كوربان وإسهاماته حول الإسلام على الطريقة الإيرانية. لكن من الناحية السياسية، كانت “فارس” القديمة مدار تجاذب روسي – ألماني – أنغلوسكسوني، ولم يكن لفرنسا فيها نفوذ يذكر. بيد أن العلاقات الحديثة المستجدة بدأت بالنووي وتعقدت مع النووي.
في منتصف سبعينات القرن الماضي قرر الشاه توسيع حلقة المساهمين في برنامجه النووي، واشتركت طهران في مشروع يوروديف الفرنسي الأوروبي لتخصيب اليورانيوم. وكانت الأموال التي دفعتها طهران محور نزاع قانوني بين البلدين بعد الثورة إثر قرار باريس التنصل منه. وفي حقبة لاحقة أصبح الموقف الفرنسي أكثر تشددا من الملف النووي الإيراني نتيجة خشية باريس من انتشار أسلحة الدمار الشامل في منطقة مضطربة، وكذلك لرفض سياسات طهران التوسعية في الإقليم. وممّا لا شك فيه أن امتداد الهلال الإيراني نحو شرق البحر الأبيض المتوسط كان برأي الأوساط الفرنسية مشروع نزاع مفتوح في الإقليم لربطه بسياسات هيمنة وبشرخ مذهبي داخل الإسلام.
كل هذا التاريخ المثقل أصبح وراءنا ويجري إسقاط التهم والخطابات الرنانة من هنا وهناك، وكذلك الحروب بالوكالة أو الجدل على طاولات المفاوضات في جنيف ولوزان وفيينا. وأتى الآن وقت البازار ولعبة الشطرنج من دون كأس نبيذ، ومن دون نكهة بين لاعبيْن لهما ما لهما وعليهما ما عليهما.
روحاني، المنفتح على أوروبا، يعلم علم اليقين أن مفاتيح القضاء (الطلبات حول حقوق الإنسان) والسياسة والاقتصاد ليست بيده بل بيد المرشد وحرسه الثوري وأن الثقة بوعوده وضماناته حذرة وتتطلب اختبارا، أما هولاند الذي يسعى دوما لإبراز دوره الخارجي والذي أُطلق عليه لقب فرانسوا العربي بعد حضوره قمة مجلس التعاون الخليجي وعقوده الخليجية والمصرية في 2015، فهو يدرك جيدا صعوبة التوفيق بين الشراكة الاستراتيجية مع الرياض وأخواتها، والعلاقة الجديدة مع طهران.
على الصعيد التجاري تعتبر عقود إيرباص وتوتال وبيجو وغيرها مكاسب مشتركة للطرفين، وبدايات يتهافت عليها رجال الأعمال الفرنسيين الذين يراهنون على النمو الاقتصادي في طهران وضرورة التعامل مع هذا البلد لخلق فرص عمل في فرنسا المضروبة بالبطالة، لكن لاعب الشطرنج الإيراني يعلم، جيدا، كيفية توزيع الصفقات في البازار ويربط الكثير منها بتقارب سياسي أو بتراجع فرنسي.
خلال حقبة المفاوضات حول الملف النووي سعت باريس إلى إحداث اختراق في الملف الرئاسي اللبناني وردتها طهران خائبة أكثر من مرة. وفي قصر الإيليزيه أصر روحاني على تشدده في الملف السوري من دون أن يمنح شيئا ملموسا حول الملف اللبناني أو أي ملف آخر سوى إبداء الرغبة في الحوار. وفي نقلة نوعية على الرقعة الدبلوماسية حاول روحاني طرح بلاده كشريك أساسي ضد الإرهاب وجر باريس إلى مربع التبادل الأمني كي يتم إغفال الماضي الصعب تحت عنوان محاربة العدو الجديد، فزاعة القرن الحادي والعشرين، أي داعش الشركة الإقليمية الدولية المساهمة للإرهاب (من مواقع نشأتها، إلى أدوارها المشبوهة إقليميا وعالميا إذ أنها تضرب من باريس إلى سيناء وتستدعي نفسها إلى عدن ولا تهاجم قط إيران مثلا واللبيب من الإشارة يفهم).
رحلة حياكة سجادة العلاقات المتجددة بين طهران وباريس سيحكمها تطور الوضع الإيراني الداخلي وحركات بركان الشرق الأوسط، وهي ستتدرج بهدوء ولن تتمم بسرعة لأن روحاني – إذا وافق خامنئي – يتمنى أن يستقبل أوباما صاحب الفضل ويفرش له سجادة حمراء فارسية، تماما كما فعل مع رئيسيْ الصين وروسيا، وقبل أن يقوم بهذا الجهد أمام أنجيلا ميركل أو ديفيد كاميرون أو فرانسوا هولاند.
د.خطار أبو دياب
صحيفة العرب اللندنية