في أقل من عامين، برز نظام نفطي جديد ساهم في زعزعة التوازنات القديمة، وألزم الاحتكام الى العرض والطلب، عوض (الاحتكام الى) نظام اسعار يعود ضبطه الى منظمة أوبك (منظمة الدول المصدرة للبترول). واليوم، الذهب الأسود وفير، وهو يفيض عن الطلب، ولا يعرف أحد على أي وجه يستخدم الفائض من النفط. لذا، يخزّن في خزّانات ضخمة. ومنذ حزيران (يونيو) 2014، انهارت اسعار النفط 75 في المئة، وهبط سعر البرميل الى ما دون ثلاثين دولاراً.
وقلصت الشركات استثماراتها (نحو 30 في المئة) في التنقيب عن النفط وإنتاج الوقود.
وراء الأبواب المغلقة، تدور رحى حرب ضروس بين ابرز دول «أوبك» على الحصص النفطية في السوق على وقع «التنزيلات». وإثر انكفاء دورها طوال أربعين عاماً، عادت الولايات المتحدة الى أداء دور بارز في سوق الطاقة. والدول النفطية العربية لم تتأثر بتراجع اسعار النفط نتيجة ادخارها احتياطات كبيرة من العملات الأجنبية، على خلاف الدول النفطية الأكثر اكتظاظاً بالسكان مثل نيجيريا والجزائر وفنزويلا وإيران والعراق… وتضطر هذه الدول الى تقليص نفقاتها. ويرجح ان تنتقل آلاف البلايين من الدولارات من الدول المنتجة الى الدول المستهلكة. ولن تحفز اسعار البترول البخسة قياساً الى مرحلة 2005- 2013، النمو في هذه الدول (المستهلكة). وفي ما يلي جولة على العالم البترولي الجديد موزعة على عدد من المحاور:
هل تبقى الولايات المتحدة لاعباً بارزاً في القطاع النفطي؟
لا شك في أنها ستحتفظ بمكانتها في الأعوام المقبلة. فالاحتياط الأميركي من النفط كبير. وفي نهاية 2014، قدرت الإدارة الأميركية حجمه بـ 39.9 بليون برميل. لكن هذا الاحتياط لا وزن له طالما ان استخراجه لا يعود بريع يعتد به، في وقت يبلغ سعر البرميل 30 دولاراً. ولكن حين يرتفع سعر الخام الى 45 دولاراً، حريّ بالصناعة الاميركية ان تتوسل نهجاً ليناً: استئناف العمل في آبار النفط الصخري أيسر مما هو في المنشآت الكبيرة. وهذه من العسير وقف العمل فيها لمقتضيات مالية وتقنية.
ولا شك في أن الولايات المتحدة هي وراء المنعطف في سوق النفط. فإثر ارتفاع اسعار النفط في 2008 (بلغ سعر البرميل 147 دولاراً)، قرر رجال الاعمال في القطاع النفطي الاميركي ترجيح كفة الطاقة الاميركية من طريق استخراج الزيوت المحتبسة في الصخور وعدم الاكتفاء بمحتوى الخزانات النفطية. وطور المستثمرون اجهزة تكسير الصخور مائياً، وهذه تقنية كانت مستخدمة لاستخراج الغاز، وصارت تستخدم في انتاج النفط الخام. فنمت معدلات الطاقة الصخرية نمواً غير متوقع. وطوال النصف الاول من العقد الجاري، زاد الـ «أويلمَن» (رجال النفط) الانتاج النفطي الاميركي 4.5 مليون برميل يومياً، فارتفع الانتاج الاميركي الى 10 ملايين برميل في 2015، أي ما يساوي الانتاج النفطي في بلدين مثل النروج.
ولكن على خلاف دول «أوبك»، لا تتولى شركات عامة في الولايات المتحدة انتاج النفط والغاز. ولن ينزل رجال النفط الاميركيون على توجيهات البيت الابيض أو الكونغرس، إذا طلب منهم تقليص انتاجهم النفطي. والبنى التحتية في صناعة النفط الصخري أكثر مرونة مما هي في الصناعة النفطية التقليدية وأقل كلفة. ورفع انتاج النفط الصخري يسير إذا دعت الاسواق.
طوال وقت طويل، ارتضت الرياض دور ارساء التوازن في سوق النفط، ولو على حسابها. ودرجت في الثمانينات على رفع الانتاج لخفض الاسعار أو تقليصه لرفعها. ولو قلصت الانتاج النفطي في 2014، لخسرت حصصاً في السوق النفطية. فمنتجو النفط الأميركي لم يرغبوا في حذو حذوها وتقليص الانتاج. ومنذ 2014، احتكمت المملكة الى قوى السوق، العرض والطلب. ورأت ان الدول المنتجة للنفط مقابل كلفة عالية (الولايات المتحدة، روسيا…) ستنتهي الى تقليص انتاجها وتقويم خلل السوق. ويبدو ان ثمار هذه الاستراتيجية بدأت تنعقد. ويخشى ان يرسخ الاحتباس الحراري وأن يستغنى شيئاً فشيئاً عن الطاقة الاحفورية. فلا قيمة لبرميل لم يُنتج.
مستقبل «أوبك»
على رغم التوتر بين الدول الأعضاء، يبدو ان أيام منظمة «أوبك» مديدة. وفي ذروة الحرب الايرانية – العراقية (1980-1988)، أو حرب الخليج الاولى (1990-1991)، دارت عجلة المنظمة ولم تتوقف. و»ليس مصيباً القول ان «اوبك» لفظت انفاسها الاخيرة وقضت. وهي لطالما كانت ناجعة وستعود الى سابق عهدها»، قال مدير «توتال»، باتريك بويانّي في مقابلة مع صحيفة «لوفيغارو» الشهر المنصرم. ودول «اوبك» تنتج ثلث الخام العالمي، ولا يسعها ضبط الاسواق في معزل عن المنتجين الآخرين (الولايات المتحدة وروسيا…)… ويبدو أن التوترات الإيرانية- السعودية تترك تداعيات… وتضع «أوبك» اليد على 60 في المئة من النفط الأسود التقليدي.
نمو الاستهلاك العالمي وارتفاع الاسعار
لم ينخفض الاستهلاك (النفطي) العالمي في الاعوام الاخيرة، لكن نازعه الى الارتفاع كما في مرحلة ما بين عامي 2000 و2012 تباطأ مع تباطؤ نمو الاقتصاد الصيني والطلب الصيني على النفط. فحركة الطلب على النفط وثيقة الصلة بالنمو. ويتوقع صندوق النقد الدولي أن ينخفض النمو العالمي الى 3.4 في المئة في 2016، و3.6 في المئة في 2017. وتتوقع وكالة الطاقة الدولية أن يرتفع الطلب الى 1.2 مليون برميل يومياً في العام الحالي، أي 600 ألف برميل اقل من 2015. لكن حركة الطلب أضعف من حركة العرض. وهذه تفوق الطلب، وتبلغ نحو مليوني برميل يومياً.
الشركات النفطية في مرحلة اعادة تكوين؟
في مراحل الأزمات الحادة، تنحو الشركات نحو الاندماج أو التقارب. ووراء «زيجات» 1999-2002 بين توتال وفينا (البلجيكية) وألف، وإكسون وموبيل، وبي بي وأموكو…- وهي ادت الى بروز شركات عملاقة عالمية- هو انهيار الاسعار النفطية نهاية 1990، وهبوط سعر برميل النفط الى 10 دولارات. واليوم، احتمال اندماج الشركات لا يزال ضعيفاً. لكن الصناعة النفطية لن تنجو من الازمة، وستندمج شركات صغيرة وتختفي أخرى في الولايات المتحدة، على وقع الاختناق المالي نتيجة انخفاض سعر برميل النفط الى اقل من 30 دولاراً. ويرى المجلس الاميركي «Alixpartners»، أن منتجي النفط سيخسرون بليوني دولار أسبوعياً، وبعض الشركات قد يستخرج النفط من غير تحقيق أرباح. لكن الأزمة لن تتفاقم ما لم يهبط سعر برميل النفط الى ادنى من 30 دولاراً، فلا يعود في امكان الشركات النفطية تعويض كلفة الاستخراج.
جان ميشيل بيزا
نقلاً عن الحياة