لن يكون جون كاسيتش هو المرشح الجمهوري لانتخابات الرئاسة الأميركية على الأرجح. وثمة العديد من الأسباب التي تقف وراء ذلك، بما فيها حقيقة أنه لا يستطيع إقحام نفسه في التفاهات التي يميل زملاؤه المرشحون إلى عرضها خلال المناظرات.
وقال كاسيتش ساخطاً خلال نقاش على شبكة “سي. بي. أس نيوز” في كارولاينا الجنوبية، عندما كان دونالد ترامب وجيب بوش في خضم جدال محموم عن حرب العراق، وأصبح الجدال شخصياً جداً: “يجب أن أقول لكم، هذا جنون وحسب، هه؟”، وقد اشتكى بوش من أن ترامب قد طارد والدته، باربرا بوش، التي وصفها بأنها “أقوى شخص أعرفه”، فأجاب الملياردير بأن عليها إذن خوض الانتخابات الرئاسية بدلاً عن ابنها.
كنت أغطي سير الحملة الانتخابية، شاقاً طريقي بصعوبة في الثلج من أيوا إلى نيوهامبشاير، ثم إلى الأجواء الأكثر دفئا في كارولاينا الجنوبية ونيفادا، وراقبت مشهد سباق الحزب الجمهوري بارتباك متكرر. وعندما أستمع إلى معظم مرشحي الرئاسة الأميركية، بمن فيهم الديمقراطيون، وهم يتحدثون عن الشرق الأوسط، فإن ذلك يجعلني قلقاً بشكل عميق على مستقبل منطقتي.
من الوعود بجعل رمال الصحراء تضيء في الظلام ومنع كل المسلمين من دخول الولايات المتحدة، إلى الاقتراحات المضللة بأن العدوين اللدودين، إيران والعربية السعودية، يقاتلان معاً ما تدعى “الدولة الإسلامية”، تكون المنطقة هي الجزء من العالم الذي يتحدث عنه الطرفان أكثر ما يكون، ويفهمانها أقل ما يكون.
بطبيعة الحال، لا يشكل كون المرء عالماً بالتاريخ العربي شرطاً مسبقاً لخوض انتخابات رئاسة الولايات المتحدة الأميركية، كما سيحيط أي مرشح يصل البيت الأبيض نفسه/ أو نفسها بمستشارين يتوافرون على المعرفة.
لكن لا مهرب من حقيقة أن الصراعات العديدة في الشرق الأوسط ستواجه الرئيس التالي بتحدٍ رئيسي. وتقوم هذه الصراعات بإعادة تشكيل ميزان القوى بين البلدان في المنطقة وبين اللاعبين الدوليين مثل روسيا. وحتى الآن، يعرض معظم المرشحين القليل من الفهم لما هو على المحك.
بطبيعة الحال، فإن دونالد ترامب هو الذي يصنع معظم العناوين الرئيسية، بدءا من تصريحاته بخصوص منع كل المسلمين من دخول الولايات المتحدة “إلى أن يستطيع النواب في بلدنا معرفة ما الذي يجري”.
هذا النصف الثاني من التصريح هو ما يثير حفيظتي أكثر ما يكون: ما الذي يجري، فيما وراء صراع معقد يتصاعد ليصبح خارج السيطرة؟ يشير تصريح ترامب المعادي للمسلمين إلى مؤامرة من نوع ما؛ نوع من خطة سرية يرتبها مسلمو العالم للاستيلاء على الولايات المتحدة. ويبدو ترامب ميالاً إلى هذا النوع من نظرية المؤامرة في قضايا أخرى أيضاً، وهو يغذي هذا الميل عند داعميه.
وكان محقاً اعتبار واحد فقط. فقد قال خلال مقابلة مع شبكة “أن بي سي” التلفزيونية الأميركية في برنامج “واجه الصحافة”، “إن العراق كارثة… وليبيا لم تعد حتى بلداً. وتستطيع أن تقيم القضية إذا نظرت إلى ليبيا. انظر إلى ما فعلناه هناك -إنها فوضى. وإذا نظرت إلى صدام حسين مع العراق، انظر إلى ما فعلناه هناك -إنها فوضى”.
حسناً، إنها فوضى فعلاً. فالحرب في العراق والشياطين الذين أطلقتهم أسهموا في صعود “الدولة الإسلامية” بعد نحو عقد لاحقاً. لكن حل ترامب يبدو أنه يرمي إلى الإبقاء على رجال أقوياء في السلطة وتشجيع استخدام القوة العنيفة، بما في ذلك من جانب القوات الأميركية. وقد امتدح صدام حسين على “قتله الإرهابيين”، كما قال مدير حملته أن الرئيس بشار الأسد يبقي الأمور تحت السيطرة والضبط في سورية -على الرغم من أن البلد يتفكك بسرعة مذهلة. وفي الأثناء، تحدث ترامب في دعم التعذيب، وقال إنه سيعيد وسائل محاكاة الغرق، وحتى “الموافقة على ما هو أكثر من ذلك”.
من الملاحظ أن ترامب يؤطر كل شيء كصفقة تجارية -وبالنسبة له، فإن الأموال التي تنفقها واشنطن للحفاظ على القواعد العسكرية ودعم الحلفاء حول العالم لا تجعل أميركيا تجني أي شيء في المقابل. وكما كتب توماس رايت من معهد بروكنغز مؤخراً، يعتقد ترامب بأن “أميركا تحصل على صفقة خاسرة من النظام الليبرالي الدولي الذي ساعدت في خلقه وقادته منذ الحرب العالمية الثانية”. ويشير إلى أن ترامب يعتقد بأنه يجب على الولايات المتحدة أن تجعل حلفاءها يدفعون مقابل حمايتهم.
وذلك اقتراح تجاري مثير للاهتمام، لكنه يتجاوز الميزان الحساس للمزايا والكلف التي تتضمنها عملية بناء التحالفات.
أما ماركو روبيو، فهو مرشح الحزب الجمهوري الذي يتحدث بمنتهى الطلاقة عن الشرق الاوسط، وهو أيضاً المرشح الوحيد الذي وضع خطة لقتال “الدولة الإسلامية”، مع أنها من الناحية الفعلية قريبة جداً من استراتيجية الرئيس باراك أوباما الحالية. ومن النظرة الأولى، يبدو سيناتور فلوريدا جيد المنطق -لكنك إذا استمعت إليه عن قرب، فإنه يغذي مشاعر الخوف والمشاعر المعادية للمسلمين.
عشية عيد الميلاد، على سبيل المثال، اشترى روبيو مسدساً وذكر التهديد الذي يمثله الجهاديون الأجانب كسبب لحاجته اليه. وقال لشبكة “سي بي أس” التلفزيونية الأميركية خلال برنامج “واجه الأمة” مستخدما مرادفاً للدولة الإسلامية: “إذا أراد داعش زيارتنا أو زيارة مجتمعاتنا في أي لحظة، فان آخر خط دفاع بين داعش وعائلتي، هو قدرتي على أن أحمي عائلتي منه، أو من أي مجرم أو أي شخص آخر يسعى إلى إلحاق الضرر بنا”. وأضاف: “يشعر ملايين الأميركيين على هذا النحو”.
إذا كان أوباما يُنتقد على طبيعة فهمه للتهديد وتهدئة مخاوف الناس، فإن روبيو يبالغ في إثارة تلك المخاوف -ويستغل مخاوف الناس من خلال إعطائهم الانطباع بأن “الدولة الإسلامية” تقف على الأبواب.
عندما زار أوباما المجتمع الإسلامي في بالتيمور في وقت سابق من هذا الشهر، كانت زيارته هي الأولى لمسجد في الولايات المتحدة، في جهد يرمي إلى تعزيز الشمولية ورفض التعصب الديني المعادي للإسلام، اتهم روبيو الرئيس بأنه “يحرض الجمهور دائماً ضد بعضهم بعضا”.
وكان اعتراضه أن أوباما سعى إلى جلب الاهتمام إلى التمييز ضد المسلمين في الوطن، بدلاً من التركيز بشكل حصري على التهديد الذي يشكله المتطرفون.
وقال: “انظروا إلى ما حدث اليوم: لقد ألقى كلمة في مسجد، موحياً بشكل رئيسي إلى أن أميركيا تفرق ضد المسلمين. من الطبيعي أن هناك تفرقة في أميركا من كل نوع، لكن القضية الأكبر هي الإسلام الراديكالي”.
وفي الأثناء، من الممكن تلخيص مواقف تيد كروز في ثلاث نقاط: أنه منافح عن القصف الشامل “الذي سيجعل الرمل يبدو وكأنه يتلألأ”؛ وأنه قال للمسيحيين العرب إن أفضل حليف لهم هو اسرائيل، وطرد تبعا لذلك عن المنصة في مناسبة في واشنطن؛ ولديه خطط كبيرة لتوسيع الجيش، وتبدو هذه وصفة للنزعة التدخلية التي راجت في حقبة بوش، والتي تعيش على المنشطات.
ومن جهتهم، يؤدي الديمقراطيون بشكل أفضل بكثير في مناظراتهم. وسواء كنت تدعم وجهات نظر السياسة الخارجية لهيلاري كلينتون أم لا، فإن معرفتها بالقضايا واللاعبين والمخاطر معرفة لا نظير لها. ولم تعد كلينتون تدلي بتصريحات طنانة وكاسحة مثل التصريح الذي أدلت به في العام 2008 عندما وعدت بـ”محو” إيران إذا هاجمت إسرائيل.
لكن كلينتون فشلت أيضاً في الرد على بعض الأسئلة الشائكة عن سجلها المقبل. ووقفت إلى جانب دعمها للتدخل في ليبيا في العام 2011، وأشارت محقة الى أنه في ذلك العام الذي أعقب الحرب وفي عامها الأخيرة كوزيرة، عقدت ليبيا انتخابات ديمقراطية ناجحة. ولكن، بينما تكافح الولايات المتحدة التهديد المتنامي لتهديد “الدولة الإسلامية”، فإن عليها أن تفسر العقبات بشكل أفضل، والسبب في استمرار اعتقادها بأن قرارها كان القرار الصحيح -وهي مهمة شاقة إذا كانت تريد تجنب انتقاد الرئيس وطريقة تعامله مع الشرق الأوسط منذ غادرت وزارة الخارجية.
وفي الأثناء، يتعرض بيرني ساندرز للانتقادات المتكررة بسبب معرفته المحدودة بالسياسة الخارجية، وافتقاره إلى مستشارين في السياسة الخارجية. ولذلك، يبدو بوضوح أنه قرأ عن الموضوع قبل المناظرة الاخيرة في ملواكي ألقى محاضرة ليبرالية نمطية، عن الأشرار الذين تحاربهم الولايات المتحدة وراء البحار.
وقال مستشهداً بالانقلاب الذي كانت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية قد رعته في العام 1953 وأطاح برئس الوزراء الإيراني المنتخب ديمقرأطياً محمد مصدق: “جرى هذا قبل 50 أو 60 سنة؛ حيث كانت الولايات المتحدة منخرطة بالإطاحة بالحكومات. وكنتيجة لذلك، جاء شاه إيران، الدكتاتور المرعب. وكانت نتيجة ذلك قدوم الثورة الإيرانية. وهذا حيث نحن اليوم. نتيجة غير مقصودة”.
لدى ساندرز نقطة عندما يحذر من التداعيات غير المقصودة للأعمال الأميركية وراء البحار -لكن العالم، والولايات المتحدة تغيرا بشكل هائل منذ ثمانينيات القرن الماضي، وهو آخر زمن أولى فيه سنادرز فيها اهتماماً للشؤون الخارجية كما يبدو.
بطبيعة الحالة، ليس المرشحين الرئاسيين فقط هم الذين يفهمون الشرق الأوسط خطأ. وحتى الرئيس باراك أوباما ما يزال مذنباً بتصريحات في زلات لسان -كما في خطابه عن حالة الاتحاد في هذا العام عندما قال: “الشرق الأوسط يمر بتحول سيستمر لأجيال، متجذر في صراعات تعود وراءً الى آلاف السنين”.
وليس هذا غير صحيح من ناحية الحقيقة فقط، وإنما هو يأخذ السياسة الخارجية الأميركية في اتجاه خطر. فهو يشير أولاً إلى أن ما يحدث في الشرق الأوسط هو خارج نطاق سيطرة أميركا، حتى مع أن الولايات المتحدة هي في الحقيقة لاعب أساسي في المنطقة. ثانياً، إنه يكرس خرافة أن الشرق الأوسط مُدان بكونه في حالة فوضى بسبب سياساته غير المفهومة وبسبب الخصومات الدينية.
ولكن، هل يكون الشرق الأوسط أكثر تعقيداً من آسيا، حيث التوترات الحالية بين الصين واليابان بسبب جزر سنكاكو، المعروفة أيضا بجرز يايو، ترجع وراء إلى العام 1985؟ أو من أوروبا حيث ما تزال بلفاست تضم أسواراً تفصل بين المجتمعات البروتستانتية والكاثوليكية، وحيث تواجه بروكسل توترات بين المجتمعات الوالونية والفلمنكية، ما أفضى مؤخراً إلى عدم وجود حكومة في البلد لأكثر من عام؟
سأكون أول من يعترف بأن صراعات الشرق الأوسط تبدو وأنها تتفجر كلها في نفس الوقت، لكنه من السهل استبعاد المنطقة باعتبارها حفرة جهنمية تحتاج الولايات المتحدة إلى الخروج منها فقط أو قصفها وتحويلها إلى قطع صغيرة.
أياً يكن من يصبح الرئيس الـ45 لأميركا، فإنه لا يستطيع ببساطة أن يتحمل كلفة البقاء جاهلاً حول الشرق الأوسط. ولن يكون طلاق الولايات المتحدة من مشاكلها خياراً -ولكن، عندما تتفجر المنطقة من الداخل، فإنها تبدو وكأنها تشارك العالم معها. وما عليك سوى أن تسأل أوروبا حيث توصف أزمة اللجوء راهناً بأنها تهديد وجودي. ويحتاج الرئيس التالي للولايات المتحدة، أياً يكن أو تكن، إلى البدء في القراءة والتحضير منذ الآن.
كيم غطاس – (فورين بوليسي)23/2/2016
نشرت هذه القراءة تحت عنوان:
at The Presidential Candidates Get Wrong About The Middle East
ترجمة: عبد الرحمن الحسيني
نقلا عن صحيفةالغد الاردنية