إذا صح أن شرّ البلية ما يضحك، فإن لدينا في العراق من البلايا ما يكفي ويفيض، وشرّ البلية لم يعد يضحك أو يُبكي، إنه يدفعنا إلى تحسس رؤوسنا وما تبقى من أنوفنا المجدوعة، بحيث نستطيع، بلا تردد، أن نتذكر ما قاله أبوالطيب المتنبي عن المضحكات والمبكيات. فما يحدث في أيامنا من بلاوى السياسيين وتصرفاتهم وبياناتهم يحتاج إلى جحا جديد يمارس السياسة العراقية الجديدة، ولا يجد من يعترض طريقه إذا حمل حماره على ظهره وذهب إلى البرلمان العراقي. وحتى هذه الكوميديا العراقية أصبحت همّا وحزنا على العراقي، أكثر مما هي ضحك على الذقون، وهي حسب وصف بول فاليري قد تكون أقصى مراحل الحزن، بل إن بعض الضحك لو تذوقناه على أساس الترفيه لوجدناه مرّا حسب رأي هنري برغسون.
فهل تجهمت صورة العراق الجديد، وممارسات النخب السياسية وصراعاتهم الصبيانية، وانسدّت فيه الآفاق وشحّ فيه الأمل، بحيث أصبح العباد يمارسون الاحتجاج بطريقة المتوالية والأواني المستطرقة، وتسفيه الواقع السياسي والتندر على “زعاطيط السياسة”، بسخريات اجتماعية في شوارع العراق وعلى مواقع التواصل الاجتماعي بحثا عن الأمل المفقود وانتظار الضوء في آخر النفق.
المشهد العراقي الآن يتيح عدّة قراءات تبعا للرغائب ووجهات النظر، بحيث تبدو أسطورة الفيل والعميان الستة ملائمة لوصف قراءات هذا المشهد، فكل واحد من العميان وصف العضو الذي وضع عليه يده من الفيل، والفيل في حقيقته هو حاصل جمع ما يرويه العميان كلهم. فكيف نصدق أن كل هذا النفط الهائل والثروات الكبيرة لم تحقق، حتى الآن، البعض ممّا تحقق في زمن المخطوطات اليدوية والحصان والسيف والبعير؟
نحن نشهد اليوم متوالية الكوارث السياسية والاقتصادية والطبيعية التي أصبحت أشبه بدودة شريطية، لا صلة لأيّ جزء بالآخر، فالعراق مقبل على نمط من الحياة لا يتقنه غير المتسولين وهو الحياة من يوم إلى يوم، وبعد ذلك من وجبة إلى وجبة. ورغم أن الثرثرة السياسية العراقية وصراعاتها تشتدّ، إلا أن العزلات تتفاقم حتى داخل المجتمع الواحد طائفيا وقوميا، فمن يسقط يداس بالأقدام ومن يستغيث يرتطم صدى صوته بحائط اللامبالاة، والناس الآن وفي ذروة الهمّ السياسي عادوا يبحثون عن بيضة دجاجة غير مسرطنة بأفعال السياسيين، وعن فاكهة أو ثمرة بلا هرمونات سياسية مريضة بالخذلان.
وقد يكون الشاعر الألماني راينر ريلكه أفضل من جسّد هذا الخذلان في عبارة واحدة، هي كل من اقترب مني اغتنى وهجرني، فكأن الآخرين ليسوا فقط جحيما حسب التعبير الشهير لجون بول سارتر، إنهم لصوص من طراز آخر، يسطو على المال وينجذب كبرادة الحديد إلى مغناطيس القوة والحضور، لكنه سرعان ما يعثر على أسلوب للفرار كي يتشكل كالبقة من الدماء التي امتصها، حيث ما من محتوى لها غير ما تسلبه.
وقع الشعب المقهور بأفعال مراهقي السياسة تحت استبداد سياسي، بغطاء ديمقراطي مزيف، لذلك أقول إن الاستبداد صفة الأحزاب الدينية مطلقة العنان، تتصرّف في شؤون الرعيّة كما تشاء بلا خشية حساب. لأنهم يريدون أن يحوّلوا العراق من بلد حضارات إلى بلد لصوص، يريدون أن يضعوا قفلا على الوطن ويحوّلوه إلى مصرف للنهب.
اليوم نرى في المشهد العراقي ما لا نراه حتى في الأفلام الهندية والمسلسلات التركية والمكسيكية التي تصل حلقاتها إلى مئات الحلقات من ممارسات درامية لا تتحقق حتى في أحلامنا الكابوسية، وفي أفلام الخيال العلمي، حيث اختطف هؤلاء الصبية من مراهقي السياسة، الوطن والشعب والثروات خلال السنوات الماضية، وأشعلوا حرائق الطائفية، وأسسوا قنوات إعلامية طائفية هدفها تهديم القيم العراقية، وإثارة نوازع الفرقة بين الطوائف والقوميات والأديان، وصناعة قادة من ورق يجهلون أبسط أبجديات السياسة والدبلوماسية وفن الإيتيكيت. وإلا ما هو تفسير هذه الأزمات اليومية التي يعاني منها العباد في العراق، وكأنها أصبحت دروسا مقررة في فصول الحياة السياسية العراقية؟ بل إننا اعتدنا يوميا أن نرى هذه الأفلام والمسلسلات في شوارعنا وفي قبة البرلمان لتأزيم المأزم في أزمات متكررة تدار في غرفة عمليات لإدارة الأزمات بالأزمات، وإشغال العباد بأبطال العملية السياسية الخائبة ومغامراتهم “الرامبوية”، وهواجسهم المريضة بالمال والسلطة وتصفية الحسابات القذرة على حساب شعب أصبح أكثر فقرا وأمية وتخلفا في ترتيب الدول، ووطن ممزق ومختطف ومنهوب الثروات، حتى كدنا نصدق ما يقال بأن هذا الوطن صاحب الحضارات والشعر والجمال والعلم سيمحى من خارطة الأوطان.
ففي كل العالم ثمة سن رشد للسياسي أو بشكل أعمّ هو تخطيه لما هو شخصي وإيثاره لمصالح بلاده وشعبه، لكن في عراقنا العجيب في كل ظواهره وبواطنه تحوّل سنّ الرشد لدى السياسيين إلى خيانة شعبهم بعد أن فرغوا من خيانة أنفسهم، وأصبحت لديهم شفرة غير عصية على التفكيك. فالاختلاف لم يعد حول مفهوم النخبة السياسية بل على سنّ الرشد الذي يبلغه هؤلاء.
وكما توقعت في مقالة سابقة حول “بيضة العبادي”، بأن هذه البيضة ستكون وبالا على العباد، لأن الأصل، وهي العملية السياسية التي لا تنتج إلا بيضا فاسدا، وأن ما يجري في الشوارع والبرلمان دراما مثيرة للحزن، فالجماهير تبحث عن الأمل المفقود وتنقاد أحيانا دينيا في وهم التغيير والإصلاح، مرة تنسحب وتارة تتقدم، وهي لا تعلم أن لعبة السياسة أحيانا تجعل منهم وقودا لأهداف غير نبيلة، لأننا نريد اعتصامات ضدّ العملية السياسية الفاسدة، وليست على مواقع وزارية زائلة. وما حدث في البرلمان من تقسيم المقسم وإعلان البيان الأول وخلق برلمانيْن شرعي وغير شرعي، واعتصامات نارية كلها تندرج في كلام مختصر: إنها لعبة السلطة والمال وتصفية الحسابات.
فأيّ طينةٍ هؤلاء الذين يؤزمون حياة العباد، بعد أن فقّروا الشعب والوطن، وجعلونا في آخر قائمة الأوطان، لعنهم الله والعراق.
د.ياسين خضير البياتي
صحيفة العرب اللندنية