إذا صح أن الاتفاق الأميركي الروسي، المدعوم دولياً، على ترجيح مسارات الحلول السياسية للحروب الدائرة في المنطقة، هو من أجل التفرغ لقتال «داعش» في العراق وسورية واليمن وليبيا ومصر وغيرها من دول المغرب العربي ومشرقه، فما الذي يجعل كل هذه المسارات يتعثر، على رغم الحديث عن صلابة التوافق بين موسكو وواشنطن على ترجيح هذا التوجه؟
لا يمكن فهم مشهد العرقلة الذي أصاب مسارات الحل السياسي كما ظهر في الأيام الماضية، لا سيما في جنيف حول سورية، وفي الكويت حول اليمن، والتصعيد الميداني الذي رافق هذه العرقلة بخرق واسع للهدنة ووقف الأعمال القتالية في كل منهما، سوى أن هناك جهة أو جهات إقليمية لا تتناغم مع التوافق بين الدولتين العظميين.
الظاهر في ما يخص سورية أن النظام يتولى نسف أسس التفاوض بإصراره على إحلال صيغة «الحكومة الموسعة» مكان «هيئة الحكم الانتقالي» بصلاحيات كاملة، وفق ما نص عليه قرار مجلس الأمن 2254 وبيان جنيف 2012، بالترافق مع الضغط لإجبار المعارضة على التسليم بتنصل القوى الدولية من التزامها البحث في الهيئة الانتقالية التي كانت حصلت على وعد من ستيفان دي ميستورا بأن تتصدر البحث كشرط لحضورها إلى جنيف في شهر آذار (مارس) الماضي. وفي ما يخص اليمن، أخر الحوثيون حضورهم إلى الكويت بحجة وقف العمليات والقصف من التحالف العربي لتغطية خرقهم للهدنة، من أجل تحسين موقعهم التفاوضي حيال مبدأ تسليم سلاحهم للشرعية كما نص عليه قرار مجلس الأمن 2216، متنكرين لوجود «شرعية»، وداعين إلى تشكيل سلطة جديدة.
بواطن الأمور تتعدى ذلك، ووجب البحث عن الموقف الإيراني الذي يتلطى خلف انتشاء الأسد جراء المكاسب التي حققها له التدخل العسكري الروسي الذي هدف إلى «استعادة بعض التوازن الميداني لإطلاق العملية السياسية»، وإلى تكريس النفوذ الروسي على سورية، فالرئيس السوري ما زال يعيش الانفصال عن الواقع، بإصراره على «الانتصار» الذي تستبعده موسكو وفق قول سيرغي لافروف عن أن «لا أحد قادراً على الانتصار». والأسد استند إلى المرحلة الجديدة من تصعيد الجانب الإيراني والميليشيات الحليفة بإرسال المزيد من القوات إلى سورية لإعانته على خرق الهدنة بالمجازر وتشديد الحصار على بلدات وقرى للحؤول دون تقديم المساعدات الإنسانية للمحاصرين (بعد أن كان فكُّ الحصارات شرطاً للمعارضة كي تحضر جنيف). الهدف هو دفع الهيئة العليا للتفاوض في المعارضة للانسحاب.
وفي اليمن، واصلت طهران إرسال السلاح إلى الحوثيين وعلي عبد الله صالح بعد قرار الهدنة، كما أظهر الإعلان عن ضبط باخرة أسلحة جديدة من جانب البحرية الأميركية. وأرادت بتأخير انضمام وفد الحوثيين إلى الكويت الرد على استبعادها من البحث في الحل السياسي هناك.
المفارقة أن القوتين العظميين استعانتا بالقوى الإقليمية الحليفة للمعارضة السورية من أجل عدم إفشال المسار السياسي. في جنيف، تولت تركيا على رغم التأزم المستمر بينها وبين موسكو، تشجيع «الهيئة العليا للتفاوض» على العودة إلى المفاوضات (وكذلك دول أخرى على نقيض من سياسة موسكو في سورية)، فالقيادة الروسية تدرك أن «الحليف الإيراني الصعب» وفق التعبير الدارج في موسكو، يذهب بعيداً في التمايز عن أجندتها.
وفي الكويت، طلبت واشنطن من إيران إقناع الحوثيين بحضور المفاوضات، على رغم الانتكاس في تطبيع العلاقات وتباطؤ حصول طهران على أموالها المجمدة التي قضى الاتفاق على النووي باستعادتها وبرفع العقوبات عنها، وفق ما دلت القرارات القضائية الأميركية باقتطاع بلايين منها تعويضات لعائلات ضحايا تفجيرات اتهمت بها هي و «حزب الله» في لبنان في الثمانينات.
ترد طهران على إجراءات الحصار المتصاعدة ضدها وضد «حزب الله»، وآخرها الإدانة الشاملة لتدخلها في الدول العربية، في القمة الإسلامية، عبر عرقلة المسار السياسي الذي توافقت عليه الدول الكبرى في المنطقة، بعدما تباهت بأن يقود الاتفاق النووي إلى التسليم يشراكتها في الحلول، جراء تمددها الإقليمي، فإذا بموسكو تعتبرها «الحليف الصعب»، وواشنطن تتحدث عن «نشاطها الخبيث» في المنطقة وفق قول وزير الدفاع آشتون كاتر في الرياض أول من أمس، في حديثه عن «حزب الله».
يصعب تصور مسار واضح للعملية السياسية لأزمات المنطقة لأسباب كثيرة، بينها أنه بموازاة الاتفاق على هذا المسار، ما زالت موسكو تستريب من المناورات الأميركية في البلطيق، فيما تعتبر واشنطن أن زيادة نشاط الغواصات الروسية في البحر المتوسط وفي شمال المحيط الأطلسي، دليل على أن وسائل الحرب الباردة هي الغالبة. وكل ذلك يحول دون اتخاذ خيارات حاسمة لترجيح الحلول السياسية الإقليمية، ويجعل من المفاوضات عليها وسيلة لإدارة الصراعات.
وليد شقير
صحيفة الحياة اللندنية